كفرتخاريم: هنانو أدخلها التاريخ... والسموءل أدخلها المسرح
ماهر أبو علي – العربي القديم
بين أحضان جبلي الدويلة والوسطاني في شمال غرب سوريا، تقع مدينتي كفرتخاريم، وعندما أحاول أن أستعيد شيئا من سيرتها أكتشف أنني أمام حكاية مدينة عتيقة ربما لا يعرفها الكثيرون اليوم، لكنها حفرت إبداعاتها وحضارتها على صفحات التاريخ، وصدحت ثورتها ضد الظلم عبر الأزمان والأجيال.
سألني مرة أحد الأصدقاء: ما اسم مدينتك؟ فأجبت: كفرتخاريم، فاستغرب، وقال ما معنى هذا الاسم؟ فقلت له: يُحكى أن أول من سكنها الرومان، وهم مَن أطلقوا عليها هذا الاسم، وأما عن سبب التسمية، فاختلفت آراء المؤرخين، ولكن معظمهم اجتمعوا على أن كفرتخاريم منحوتة من كلمتين (كفر)، وتعني المزرعة، و(تخاريم) جمع خرم وهو الشق، فـ (تخاريم) شقوق، وممرات جبلية ضيقة أي الوديان، وبذلك سُميت كفرتخاريم بمعنى (مزرعة الوديان)، وهذا ما ينطبق على واقع تضاريسها.
شاءت الأقدار أن أعيش بعيداً عنها، ولكن لم تغب عن ذاكرتي ثناياها، وتضاريسها المتنوعة من جبال شاهقة تكسوها أشجار الزيتون، ووديان خصبة تنتشر فيها أشجار الفواكه، أذكر أنني كنت برفقة أصدقائي نتسلّق الجبال؛ لنمرّ على ينابيع المياه التي تتدفق بصفاء وعذوبة، وتشكل لوحة طبيعية خلابة تسحر القلوب، وتقرّ عيون الناظرين. هذه المدينة التي عرفت منذ فجر التاريخ ازدهاراً حضارياً وتنوعاً ثقافياً، وشهدت حضارات عريقة تعاقبت عليها، تاركةً وراءها آثاراً شاهدة على عظمة الماضي. ما زلتُ أذكر طفولتي، وأنا أتجوّل في حاراتها الضيقة، وأزقتها المميزة ذات الطراز العمراني البالغ الثراء، وكلُّ حجرٍ فيها يسرد قصة من قصص الصمود والكفاح، أزور بيوت الأجداد التي تعود بنمط بنائها إلى الزمن العثماني، وكأنك تتجول في مدينة دمشق القديمة، وعند بيوتها العتيقة التي ارتسم الياسمين على جنباتها، لكن في مدينتي كفرتخاريم، أينما ولّيتُ وجهي واجهتني التفاصيل العريقة في الحارات، والممرات، والمنازل المزينة بالعرائش على شبابيكها وشرفاتها، وأسواقها التي تحتفظ حتى اليوم بطرازها الدمشقي الجميل، ومآذنها المزروعة في أفنية المساجد التي بقيت شاهدة على قدمها وعراقتها.
أذكر – كأنها أمس – خطواتي، نحو مدرسة (القشلة) الابتدائية التي حلمتُ أن أدرس فيها، لكن بُعدها عن منزلنا حال بيني وبينها، تلك المدرسة القديمة التي كانت ثكنة عسكرية، ثم تحولت إلى رحاب تعلم القراءة والكتابة، وتاريخ الأجداد وأخلاقيات الحياة، وكل مَن عاش في كفرتخاريم يعرف أن أحد الطرق المؤدية إلى (القشلة) تصحبك إلى ساحة (السرايا)، وهي كلمة تركية تعني قصر الوالي، ومع مرور الزمن تحولت السرايا إلى مقر لمخفر المدينة، وهناك طريق آخر يصحبك إلى الجامع الكبير في كفرتخاريم، والذي يعود تاريخه إلى أكثر من 1200 سنة، ويُقال إنه بُني في العهد الأموي في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز. وفي كل طريق ثمة معالم وذكريات تأخذك إلى أعماق التاريخ أو توقظ التاريخ في أعماقك.
ذات يوم سمعت من جدتي مثلاً شعبياً، كانت تردده (اللي استحوا ماتوا)، فسألتها عن أصل هذا المثل، فأجابت إنها سمعت من القدماء أن أصل المثل يعود إلى قصة حمّام قديم في كفرتخاريم يُسمى (حمّام التلة) الذي تهدّم بفعل زلزال ضرب المنطقة عام 1237 للميلاد، كان هناك توقيت لدخول الرجال، وتوقيت آخر مختلف لدخول النساء إلى الحمّام، فبينما كان دور النساء ضرب زلزال المنطقة، وتهدم الحمام فوق رؤوس النساء اللواتي رفضن الهروب من الحمام، والخروج شبه عراة، ومتنَ تحت الأنقاض، وبات يتردد إلى مسامع المدينة (اللي استحوا ماتوا).
حكايات وقصص لم تنتهِ، ولم تفارق ذاكرتي، خاصة في المناسبات، حيث كان للفن والأدب أثر في تاريخ هذه المدينة بمختلف عصورها، فقد أنشئت في مدينتي – باكراً – الصالونات الأدبية، والفرق المسرحية، كان يشارك فيها شعراء المدينة وأدباؤها في إحياء الأعراس والليالي الملاح، وتأليف الأهازيج والمقطوعات الجميلة، وإلقائها في المناسبات، وكان في مقدمتهم جمعية الفنون الأندلسية التي كانت تنظم حفلات في مختلف المحافظات السورية؛ لتطرب الآذان على أنغام، وكلمات الموشحات الأندلسية بمختلف مقاماتها الموسيقية. ولا أدري إذا كان في هذا العدد الخاص من (العربي القديم) عن إدلب، من كتب أو سيكتب عن الحركة المسرحية في المحافظة، لكن جميع من سيتحدثون عن ذلك، لن ينسوا أن أول عرض مسرحي قُدم في المحافظة كان في كفرتخاريم، وكان بعنوان (السموءل)، وقُدم عام 1928، أي قبل نحو قرن من الآن.
ذات يومٍ كنت طالباً في المرحلة الابتدائية، وكان درس التاريخ عن الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي، فحدثنا أستاذنا عن المجاهد إبراهيم هنانو الذي قاد ثورة الشمال ضد المستعمرين، وهو ابن هذه المدينة التي صارت تكنى به، فشعرتُ بالسعادة والفخر أن أجد اسم مدينتي الصغيرة في كتاب التاريخ، لكن كانت هناك تفاصيل كثيرة لم يتم ذكرها في الكتاب، فما كان من مدرس المادة، إلا أن أغلق كتابه ووضعه على الطاولة، وأمسك القلم من طرفيه، وبدأ يقصُّ روايات، ويحكي قصص إبراهيم هنانو، فأخبرنا وقتها، عندما حُكم عليه بالإعدام من قبل القاضي الفرنسي في محكمة حلب، سرعان ما تدخل ثلاثة ضباط فرنسيين من أصل خمسة كانوا يحضرون المحكمة فطالبوا بتبرئته، بعدما ترافع دفاعاً عنه المحامي الحلبي الشاب آنذاك فتح الله الصقال، الذي دخل التاريخ بصفته: محامي إبراهيم هنانو… وتم إطلاق سراحه، وعاد إلى كفرتخاريم على متن سيارة من نوع “رينو” يقودها سائقه الخاص، وعندما وصل إلى المدينة بدأت الأنباء تتوالى إلى أهالي البلدة بوصول (البيك)، وكانوا يقصدون إبراهيم هنانو، وباتوا يتوافدون إلى مداخل البلدة، فحملوه وسيارته على أكتافهم، وهم يهتفون للبطل.
مرّت حصة التاريخ مسرعةً كالبرق، وبتنا ننتظر الدرس التالي؛ لنكمل ونسمع – عن ابن مدينتنا – قصصاً غابت عن كتب التاريخ التي خطها نظام الأسد، كما يحلو له، فأخبرنا أستاذنا وقتها أن البطل إبراهيم هنانو درس الحقوق في جامعة إسطنبول، وتم تعيينه قائمقام في جنوب شرقي تركيا، وعيَّن (نجيب عويد) القائد العسكري للثورة، الذي باع – هو الآخر – أملاكه وأرضه الزراعية الواقعة في منطقة “روس الهوى”، قرب كفرتخاريم؛ ليصرف ثمنها، ويوزعه على الثوار المجاهدين ضد الاستعمار الفرنسي.
كان ذلك غيضاً من فيض ذكرياتي عن مدينتي التي ما زالت – حتى اليوم – تحمل إرث العظماء، وتُلهِم أجيالاً ببطولاتهم وتضحياتهم، ولعلَّ انخراط أهلها في بدايات الثورة السورية ضد نظام الأسد خير دليل، فكانت أول بلد يثور ضد الطغيان في الشمال السوري، وأول بلد يتحرر من قبضة الاستبداد.
__________________________________________
من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024