إدلب في رمضان: يد الله الخضراء
بقلم: ربيع الشعار
لا يوجد ما هو أجمل من أن يتذكر المواطن السوري الإدلبي طقوس رمضان في مدينة إدلب، أيام الزمن الجميل، نهاية الستينيات، وأوائل سبعينيات القرن الماضي، قبل أن تسيطر العصابة الأسدية على سوريا، وتحولها لسجن كبير.
إدلب كلمة أساسها آرامي من كلمتين: إيد الآلهة، ولذلك كانت اسماً على مسمّى بعطائها، وكرمها وجمالها وقدسيتها، فهي المدينة التي تتوسط محافظة فيها ثلث آثار سوريا التي تعاقبت عليها الحضارات الإنسانية، والديانات جميعها، ففيها تتجاور قبور الأولياء الصالحين، مع قبور القديسين، والرهبان والمساجد، مع الكنائس والمعابد، وحيث أرضها الطيبة صالحة لجميع أنواع الزراعات، وأهمها الزيتون الذي يكسبها خضرة دائمة تثبت بأنها فعلاً يد الله الكريمة التي لا تنضب.
أما شهر رمضان في تلك الحقبة التي ما يزال يتذكرها جميع أبناء جيلي، فكانت له طقوسه الخاصة، بدءاً من الزينة والأضواء التي كان الأهالي يعلقونها في الشوارع، والأسواق والحارات والأزقة؛ احتفالاً بالشهر الكريم، مروراً بالطقوس الدينية، وانتهاء بالمأكولات الرمضانية الشهية!
فكان السوق في المدينة ساحة البازار، وجوار الجامع العمري في قلب المدينة الصغيرة الوادعة الهادئة آنذاك. يشتعل ازدحاماً وصخباً بحركة البيع والشراء من محلات اللحوم، والخضروات والفواكه إلى بائعي العرقسوس، وأفران المعروك التي تصنع ذلك الخبز الرمضاني الخاص، وهو أقرب منه للكعك من الخبز، وصولاً إلى لحظة أذان المغرب من الجوامع العديدة في قلب المدينة: العمري في قلب السوق، والشيخ برغل، مقابل ساحة الساعة اليوم والمنشية سابقاً، والحمصي في أول شارع الجلاء بتداخله مع شارع الصليبة، ثم يخيم الصمت والهدوء التام على المدينة؛ انتظاراً لليوم التالي.
وكنا كأطفال صغار لنا طقوسنا الخاصة، حيث كنا نصوم درجات الحمَام، ليس طمعاً في جنة، أو خوفاً من نار، بل كمرتزقة ننتظر الجزاء المادي، وهو ربع ليرة يدفعها الوالد على مائدة الإفطار؛ مقابل الصيام وتشجيعاً عليه، وكنا نجمع ما تيسر من حلوى، ونذهب إلى حيث يُطلق (الطوب) مدفع رمضان، والذي كان المسؤول عن إطلاقه رجلاً طيباً اسمه عباس، والذي كان يصبح الشخصية الأكثر هيبة ومسؤولية في رمضان، عندنا معشر الأطفال الصغار الذين كنا نتجمع حوله نحثه، ونستعجله بالإسراع في ضرب الطوب؛ لكي تنتهي تمثيليتنا المكشوفة، ونبدأ بالتهام ما لذّ وطاب من حلوياتنا في طريقنا إلى بيوتنا لنقبض أجرة الصيام.
أما مائدة الإفطار، فهي في إدلب وبشكل عام، حيث لا تختلف من غنيّ إلى فقير تبدأ بالتمر، وصحن الكبّة النيّة التي تبرع نساء إدلب في صنعها. وكانت البيوت في الحي تتبادل صحون الكبّة النية، وبعض الأكلات الأخرى بما يُسمّى السكبة، ثم صحن الفتوش والشوربة، ثم الطبخة الرئيسية، مهما كانت مع وجود العرقسوس والمعروك حكماً.
وكان بعض الأطفال يتجمعون في ساعة الإفطار، أمام بيوت جيرانهم؛ لينشدوا أنشودتهم الرمضانية الخالدة (الحَلّة):
أول ما جينا سلّم سلّم **جيب العصاية وسلّم
قول يالله ويا ستار **حلّ الكيس واعطينا
لولا فلان : الابن المدلل للجيران * ما جينا
حيّا الله بلاد الشام * فيها الخوخ والرمّان
حيث في النهاية يُفتح الباب عن حفنات من الحلوى والمكسرات تُوزّع عليهم.
ولم يكن هناك تلفزيون في تلك الحقبة، إلا ما ندر كان منها واحد عند بيت أختي، حيث كنا نتجمع بالعشرات من أولاد الحارة سوق الصاغة اليوم في مدينة إدلب في ساحة البيت الكبير؛ لنتابع مسلسلاً، مثل (فارس ونجود) لسميرة توفيق ومحمود سعيد، أو(حمام الهنا)، أو(صح النوم) لدريد ونهاد!
أما الرجال فكانت لهم سهراتهم الخاصة، بعد صلاة التراويح في مقاهي إدلب الثلاث: قهوة غزال في شارع الجلاء، وقهوة بزارة في مدخل سوق الصاغة الغربي، وقهوة أبو عمر مقابل ساحة الساعة حالياً، بينما كانت هناك مقاهٍ صغيرة في الحارات الشرقية والشمالية تجمع شمل الكبار بوجود الحكواتي الذي كان يقص عليهم سيرة عنترة، وذات الهمة والزير سالم، وبني هلال!
وكان العيد بالنسبة لنا كأطفال هو غاية المنى، بانتظار الثياب الجديدة والعيدية!
رمضان في إدلب ذكريات المدينة الصغيرة، والزمن الجميل، ويد الله الممدودة للشعب الطيب
__________________________________________
من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024
رائع شكرآ لك ابو صدقي الغالي مقال بطريقة بانورامية رائعة لحياة مليئة البساطة والألفة
دمت بخير فائق الاحترام والتقدير