العربي الآن

لماذا خرجتم من سوريا: سؤال التخاذل الاتهامي كيف نجيب عنه؟!

محمد المير إبراهيم – العربي القديم 

الصمت هو نافذة الرعب التي نُطل منها على أنفسنا. سؤال واحد احتاج عشر سنين كي أستطيع الإجابة عليه،

هذا السؤال الحقير الذي نُرمى به دائماً، نحن الذين خرجنا،  هربنا، نجونا، نفذنا بجلدنا… إلى آخره:

” لماذا خرجتم؟ إن كان ما بداخلكم قوي وثابت وأصيل من أفكار ومبادئ وقيم؟”  تحديداً قيم الثورة والتضحية والفداء والإيثار والوطنية وتراب الأرض!

للأسف، يأتي هذا السؤال من أشخاص ما زالوا في الداخل السوري، وتحديداً تحت حكم الأسد المجرم.

على امتداد عشر سنوات، رُميت بهذا السؤال كضربة قاضية لإنهاء أي نقاش يخص الواقع الذي عشناه ونعيشه كسوريين، وحتى كعرب. في محاولة لكسر العجز عن التعبير الذي يعيشه من بقي في مناطق حكم بشار الأسد.

السؤال الاتهامي السادي

يُقال هذا الكلام دون أي فهم  أو أخذ بعين الاعتبار أننا أُبعدنا قسراً وجوراً عن شوارعنا التي خرجنا نهتف للحرية فيها،  عن بيوتنا وأحبابنا، الأحياء منهم والأموات… يرموننا بهذا السؤال وكأن النجاة كانت خياراً،  وكأن الموت كان واجباً، على قاعدة أن من يتبنى قضية يجب أن يموت من أجلها، وإلا فلا تبنٍ ولا إيمان ولا قضية.

تعذيب لفظي مستدام وممتد على مدى  سنوات، وكأن ما يفصل بيننا ليس ثلاثة آلاف كيلومتر من المسافة،  بل ما يفصل بيننا هو حدّ الموت والحياة، قطعة خبز، كأس من الخمر، قبلات وأحضان.

تحامل فطري لا واعٍ تجاه من نجا بالمبدأ، وضد من بقي يحمل صوته بين كفيه وينثره كل صباح للريح. في كل مرة فتحت باب التواصل مع الداخل، كانت النية هي المحافظة على الصلة بواقع الناس هناك.

المعضلة تكمن في الواقع نفسه:  رغيف الخبز، كيلو غرام من اللحم، ساعة من التيار الكهربائي المتواصل، فقر ينهش الروح قبل الجسد،  والكثير الكثير من المهانة والذل والاستبداد والفساد وانعدام الأمان يمس كل مفاصل الحياة. 

واقع  قذر، لا إنساني يعيشه السوري في عموم سوريا، خاصة في”سوريا بشار الأسد المفيدة”

فهم ما لا يمكن فعله

الغرق في تفاصيل هذا الواقع هو سيف ذو حدين:

إما التواصل الحقيقي معه وتشرب تفاصيله وفهمها سعياً وراء ما يمكن فعله، أو على الأقل فهم ما لا يمكن فعله، 

أو انتفاء الفهم والمراوحة بين لقمة الخبز والنفس الذي يجب المحافظة على وتيرته الطبيعية، صعوداً وهبوطاً. 

منذ بداية تفتح وعيي، كنت دائم الحرص على الفهم وما زلت.

لذلك، كل تواصل بيني وبين الداخل مبني على هذه القاعدة.

والفهم يوجب الاستنتاج، والاستنتاج يوجب الرأي.

يهرب الناس من مجرد رأي،  كأنهم لا يرغبون بالمزيد. اكتفوا بتقوقعهم على ذواتهم المتعبة، صار الرأي رفاهية، 

بالنسبة لهم، ولغيرهم،  سواء كان منهم، أم من غيرهم.

لكن يبقى السؤال الأساس: كيف يتواصل الناس على مستوى واحد فقط؟!  لا أعلم… لكن  الطامة الكبرى هي إهمالهم أن من خرج من البلاد خرج قسراً. بسؤالهم الذي ذكرناه بدايةً، يضعون أصابعهم في جرح غائر يمتد إلى قلوبنا، دون أي شفقة أو مداراة.

يظنون أن كلماتنا تضحك حين تقول:

“لن أعود إلى البلاد ما دام هذا الوحش باقياً في قصر المهاجرين”

يحطون من قدر تفاصيل واقعنا الذي نحياه في الخارج،  كأن الوجود اختُصر بما يعرفونه عنه. 

متعبون نعم، مسحوقون، مقهورون، مضطهدون، كل هذا صحيح.  ولذلك، وعلى مدار عشر سنوات لم أُجب على هذا السؤال:  “لماذا خرجتم؟”

حدَث في السَّلَمية عام 2011

اليوم خطر لي أن أجيب: 

في عام 2011 استُشهد جمال الفاخوري برصاصة قناص في حي التضامن في العاصمة دمشق . كشباب سلموني انخرطنا في المظاهرات المناهضة لنظام الأسد، وشاركنا في تشييعه ودفنه. 

في ذلك اليوم، أطلق الجيش العربي السوري الذي يفترض أن مهمته حمايتي، أطلق وعناصر من الأمن والحزب الرصاص الحي على الجنازة وهي في طريقها إلى المدفن على سفح جبل الخضر غرب مدينة سلمية. تصوروا الجريمة… جنازة سلمية تحمل جثمان شهيد لتواريه الثرى فقط. يومها أُطلق علينا الرصاص من بنادق حربية آلية، ومن مضادات الطائرات )شيلكا).  استُشهد الشاب علي القطريب حينها متأثراً بجراحه التي أصيب بها في ذلك اليوم. 

أذكر أنني هربت على دراجة نارية كان يقودها أحد جيراني، وبقيت أصرخ لمسافة ثلاثة كيلومترات كامل: “عم يقوصوا علينا، في شب استشهد، عم يقوصوا علينا!” 

لم أسكت حتى وصلنا وسط المدينة. التفت إلي جاري حينها وصرخ في وجهي:

” محمد… اصحا، نحنا صرنا بأمان!”

بالفعل، صحوت ونزلت عن الدراجة، وذهبت إلى دكان أحد الأصدقاء القريب . لن أنسى ولم أنسى أن الشارع كان ممتلئاً بالناس الجالسين على أبواب محلاتهم ودكاكينهم، يشربون المتة والشاي والقهوة، ويتبادلون الأحاديث ويدخنون سجائر اللف والحمراء الطويلة. 

حين تحدثت عما جرى هناك، أذكر أن أحدهم سألني: ” كأنو ضربوا عليكم خطاطات؟” 

الخطاطات هي عبارة عن رصاص يشتعل عند إطلاقه، ويستخدم عادةً ليلاً لتحديد مستوى ومكان الرمي. سأل وكأنه يشاهد فيلماً.

اليوم فهمت أنني في ذلك اليوم، وبشكل غير واعٍ، تسربت فكرة الخروج من البلاد إلى وجداني.  خرجنا من البلاد جبناً وتخاذلاً من قبلنا، ومن قبلكم للأسف.   نعم، خرجنا بسبب جبننا وجبنكم.

بعد هذه النتيجة المؤسفة، أغلقت نافذة الرعب في صدري،  بكيت، وشرعت أكتب هذه الكلمات،  للتاريخ، لكم، ولنا.

زر الذهاب إلى الأعلى