إدلب: الثقافة المسلوبة والآثار المنهوبة
ملف كتبه لـ “العربي القديم”: سعد فنصة
بحثت طويلاً، خلال الأسابيع الماضية في محرك البحث عن مواضيع تختص بمحافظة إدلب ومحيطها، في مقدمتها الحركة الأدبية والفكرية، ورموزها التاريخية، وفي تاريخ تأسيس هذه المدينة الصغيرة، ورجالاتها الذين أثروا نسغ الإبداع الفني والأدبي، الوطني والإنساني، وأعترف للقارئ أن بحثي كان محبطاً، ليس لندرة التاريخ، ورجالاته الذين حفروا بأسمائهم، عبر الزمن على مسرح التاريخ القريب والبعيد، وليس لأن هذه المدينة الوادعة على كتف بساتين التين والزيتون لم تنجب إلا المزارعين، بل لأن المعلومات عنها، وعنهم كانت شديدة الندرة والقصور، في تتبع المعلومات الموثقة عن الشخصيات الفكرية والإبداعية التي نشأت في رحاب المدينة أو في ريفها.
كانت المعلومات والتقارير عن هذه المدينة شديدة القتامة، والندرة أحياناً، والبعد عن مقاصد الإحاطة بالمعلومات التي رغبت بتسليط الأضواء عليها. فما إن أطلب من الشبكة العنكبوتية عن مصادر للحركة الثقافية والأدبية، حتى تظهر على شاشة البحث: الحركات الإسلامية في إدلب، ومشاريع حفظ القرآن، وإسدال الوشاح الأسود على النساء، وتعميم النقاب، ومنع التبرج.
ولم يكن دافعي الأساس، هو انتخاب المعلومات، بل لأن الذاكرة لا تسعفني بتذكر كل الأسماء والأمكنة، وحكاياتها الإنسانية وإبداعاتها التي كونت بمجملها تاريخ هذه المدينة، ونشاطها الحضاري عبر الأزمان، وسعيت بألا أسهو عن حدث، أو تاريخ، أو اسم من الأسماء اللافتة الذين قدموا مشاريعهم الثقافية والإبداعية نصاً وتأريخاً وتوثيقاً.
الثقافة المسلوبة
والواقع الذي طفا على سطح المشهد في إدلب الحاضرة اليوم مؤلم، بعد تغيير في ديكور الأمكنة، والإعلانات الشعاراتية البعثية السابقة التي استبدلت بشعارات دينية، وأنظمة حسبة، ترضي أذواق وثقافة أمراء الحرب الجدد.
وكان أدق وصف للمشهد أقتطفه، مما قاله أحد أدباء إدلب الذين مازالوا يُحيون بين ظهرانيها، دون ذكر اسمه: “إن الثقافة والإبداع في إدلب أمسى مسلوباً، حيث باتت حكومة الإنقاذ (الذراع المدني لهيئة تحرير الشام)، تسيطر على مختلف جوانب المشهد الثقافي في إدلب، فتتحكم بالمسرح، وتدقق المسرحيات أمنياً، وتعدل عليها قبل عرضها، وتراقب دور الطباعة المحلية، وتفرض رقابتها على معارض الكتب، وتدقق أمنياً في المحتوى”.
كانت إدلب مسرحاً للإبداع الأدبي الساخر، ففيها ظهرت أولى التجارب في تاريخ القص الأدبي القصير الهادف برسالة التهكم من وقائع الحياة الاجتماعية والسياسية، فكان ظهور إبداعات الشقيقين مواهب، وحسيب الكيالي علامة فارقة في الأدب العربي المحدث بالسخرية، منذ أواسط أربعينات القرن المنصرم.
أدباء القهر والسخرية
مواهب كيالي (تولد إدلب 1918) الذي غادر سورية مبكراً مطلع الخمسينات، هارباً من حكم الانقلابات العسكرية الأقل تقبلاً لروح السخرية، صوب أحلامه الاشتراكية، بتحقيق العدالة الإنسانية – بحسب ظنه – إلى الاتحاد السوفييتي السابق، حيث قضى فيها الردح الأكبر من حياته، يؤلف ويترجم، ودُفن فيها، بينما بقي شقيقه الأصغر حسيب كيالي (تولد إدلب 1921) يقرض الشعر السياسي الموزون، وينشر مقاماته اللاذعة، وقصصه القصيرة شديدة السخرية، من إدلب، والتي كانت تبثها إذاعة دمشق منذ مطلع نشأتها، حتى سبعينات القرن الماضي، لتطل على مستمعي الإذاعة السورية والعالم العربي، وكان أحد أبرز مؤسسي عصبة الأدباء الساخرين، التي لم تعمر طويلاً، ويقول الأديب عبد السلام العجيلي في رحلة ذكرياته عن حسيب كيالي: إنه ألقى قصيدة كتبها عن ملك الأردن عبد الله بن الشريف حسين، حين كان قائداً للجيوش العربية في حرب فلسطين عام 1948، أدت على إثرها إلى قطع العلاقات بين البلدين الجارين.
لقد فتحت إدلب بقص مؤسسيها الأوائل شهية أدباء محدثين، في ما بعد، كان لإبداعاتهم الجديدة نكهة خاصة في روح السخرية والتهكم، ففي نهاية سبعينات القرن الماضي، ومطلع الثمانينات كان نتاج الأديب الساخر خطيب بدلة (تولد معرة مصرين 1952)، منذ مؤلفه الأول (حكى لي الأخرس)، واتبعها بالعديد من القصص القصيرة، واحتل مساحة جماهيرية أكبر، خلال البث الإذاعي والتلفزيوني في حينه، إضافة إلى غزارة نتاجه أدباً، وبحوثاً ونقداً ومقالاً.
وفي المرحلة الزمنية ذاتها تقريباً ظهرت قصص الأديب نجم الدين السمان في الصحافة السورية، وأتبعها بمسرحيات ومؤلفات عديدة، ضمت فيها قصصه القصيرة، بلغته الأنيقة وملامح من سخريته الأدبية، قدم فيها رؤيته الجديدة شديدة الصرامة، في سعيه لتأسيس مسرح جديد، نصاً وإخراجاً، ليس في إدلب وحدها، بل على كامل المشهد المسرحي السوري، الذي كان منقوصاً بالأدوات، ومساحات الحرية، ووسائله الجمعية، حتى يبدو جماهيرياً ومقنعاً؛ لذلك تخلى عن بعض أحلامه المسرحية في العرض، وبقي لاعباً حاذقاً في صحافة السخرية مع علي فرزات في تجربته الفريدة في الدومري، ومن ثم شرفات الشام التي أصدرتها وزارة الثقافة السورية، ورأس تحريرها، حتى مغادرته سوريا، ليعيد تأسيس مشروعه المسرحي في موطنه الفرنسي الجديد.
من الظواهر الأدبية الساخرة، اللافتة في إدلب كانت تجربة الكاتب الراحل مبكراً تاج الدين الموسى (تولد كفر سجنة 1954) الذي حقق حضوراً في المشهد الإبداعي السوري بقصصه القصيرة المتهكمة، ونجله الكاتب الشاب مصطفى تاج الدين الموسى (تولد إدلب 1981) الذي أنتج أدباً رفيع المستوى، وجريئاً في القص والمسرح، وترجمت أعماله إلى اللغات الحية، الإنكليزية والفرنسية وغيرها، ونال جوائز قيمة، كان آخرها جائزة (أرابليت ستوري).
كان الأديب الراحل عبد العزيز الموسى (تولد كفر نبل 1947)، قد سبق له أن نال جائزة نجيب محفوظ عن عمله الروائي (عائلة الحاج موسى)، وهو الكاتب الذي سمي “بالمشاغب”، حين رفض اتحاد الكتاب العرب بدمشق نشر أيّ من رواياته الأولى، والتي أصدرها في ما بعد، وبلغت تسعة مؤلفات في الرواية والقصة، وكمثل بقية الكتّاب، له العديد من المؤلفات التي لم تبصر النور بعد.
ويتقدم الأديب محمد الشيخ علي (تولد كنصفرة عام1951)؛ ليحقق مكانته المرموقة كشاعر كبير تميز بالسخرية العميقة، متأثراً بحكمة أبي العلاء المعري، وتهكم ابن الرومي، وأصدر العديد من الدواوين الشعرية.
على صعيد الإبداع في مختلف الصنوف الفنية، يتقدم الأديب والفنان التشكيلي الراحل عبد القادر عبدللي (تولد إدلب 1957) الذي ترجم عيون الأدب التركي بلغة متفوقة ومحكمة في بلاغتها، وقد أثرى المكتبة العربية بأكثر من خمسين كتاباً، ترجمها عن الأدب التركية.
وفي مجال القصة القصيرة وأدب الأطفال، كتب الأديب والصحافي نجيب كيالي (تولد إدلب 1953) المئات من القصص التي نال عنها جوائز وتكريمات متنوعة، ولا يضارعه في ذلك إلا الكاتب خير الدين عبيد (تولد إدلب 1969) صنوه في إصدار العديد من القصص الموجهة للأطفال، إضافة إلى نصوصه المسرحية الموجهة للفئة العمرية ذاتها، وهو أيضاً فنان تشكيلي ونحات.
ولكن الأقدم منهما كان الأديب محمد قرانيا (تولد أريحا 1941)، وهو الأديب الأكثر غزارة وإنتاجاً في أدب الأطفال، إذ أصدر خلال رحلة عمره العشرات من الكتب والمئات من القصص، والإصدارات المتنوعة الموجهة لعالم الطفل، على مستوى رفيع، إضافة إلى مشاريعه في النقد الأدبي الذي نال عنها جوائز مقدرة.
وأختم بالطبيب الشاعر حكمت حسن جمعة (تولد إدلب 1980)، والذي قدم في تجربته الشعرية بلاغة نافذة في إحكامه المعاني، وسموها الإنساني العميق، ونال عن أدبه جوائز متنوعة عربية ودولية.
ومن سيدات إدلب المهاجرات، خرجت الأديبة والصحفية الشهيرة حميدة نعنع (تولد إدلب 1946) إلى عالم السياسة والصحافة، وتنقلت بين الصحافة والعمل الثوري لصالح الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، منذ عام 1967، ولتصدر في ما بعد العديد من المؤلفات ذات الطابع المزدوج بين أدبيات المرأة الروائية، وبين تجاربها السياسية.
وأخمن أن في إدلب وريفها مبدعين كثراً لم يصل نور الإسقاط على نتاجهم، في الشعر والأدب والمسرح، من هؤلاء أحد أبرز المسرحيين السوريين القدماء الذي وهب جل حياته لتأسيس مسرح جماهيري في إدلب أنجز وأخرج خلالها أكثر من ستين مسرحية، ومن ثم جاء من جيل الشباب من حمل أنوار المسرح؛ ليضيء مساحات الحرية المفقودة، وكان من أبرز هؤلاء سامر السيد علي، والفوز طنجور (مخرج سينمائي)، وإبراهيم سرميني (مسرحي) وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكر كل أعمالهم، ونشاطهم في حيز الثقافة والإبداع البصري الذي يتصل بالناس، إلا أن بعضهم لايزال حاضراً، في الدفاع عن الحرية الإنسانية في شروط هي من القسوة والإحباط والتحدي، حتى أقصى حدود المحال.
قضية تدمير الآثار والتراث الإنساني في إدلب
تحتل محافظة إدلب من الناحية التاريخية والأثرية ثروة، أو بالأصح مجموعة ثروات إنسانية متجذرة في القدم، ناهيك عن أن في هذه المحافظة، تم الكشف عن واحدة من أخطر المعارف القديمة والمكتبات الوثائقية، منذ اكتشاف مكتبة آشور بانيبال في نينوى بين الأعوام 1842- 1848، إلا أن المكتبة المكتشفة في تل مرديخ (إيبلا)، قرب بلدة سراقب بريف إدلب، أقدم بكثير وأغزر، من حيث التصنيفات الوثائقية المتنوعة، وتعود بتاريخها إلى الألف الثالث والثاني قبل الميلاد، وهو الموقع الشهير الذي اكتشف في العام 1964، وعُرِف باسمه “إيبلا” في العام 1968، واكتشفت المكتبة الملكية عام 1975.
لقد غيّر اكتشاف مملكة إيبلا كل التصورات والافتراضات التاريخية القديمة عن تاريخ المنطقة؛ باعتبار أن شرق المتوسط كان مسرحاً للصراع الدامي بين القوتين العظميين، في الألف الثانية قبل الميلاد بين الحثيين في الشمال والفراعنة في الجنوب، حتى يوم بدأت تتكشف النصوص، وتُتَرجم اللغة الإبلائية التي تكتب بالحروف المسمارية، بأنها كانت إحدى أعظم الممالك في العالم القديم، بعلاقاتها التجارية، واتفاقياتها السياسية التي تُدَرس في جامعات ومعاهد العالم المتخصصة بعلوم الآثار.
إلا أن تاريخ حاضرة إدلب الحالية أحدث نسبياً، مقارنة بالمدن التاريخية القديمة في بلاد الشام، ويروي المؤرخ “الزبيدي”: إن إدلب المدينة القديمة في المحلة الشمالية قد اندثرت، والباقي منها هو الجزء الجنوبي، أو ما يسمى إدلب الصغرى، (ليس هناك ما يثبت هذا الرأي).
ولكن من المحتمل أن تاريخ إدلب أقدم بكثير، من خلال التلال الأثرية المكتشفة في النصف الثاني من القرن العشرين، كما أن معالم المدن الأثرية التي تغيرت عبر الأزمان، أو هُجِرت، تحكي عن تاريخ هذه البقعة الجغرافية المذهلة بتنوع مزروعاتها وصناعاتها، وخضرتها الدائمة، ومن المؤكد أن إدلب كانت ممراً تجارياً وحربياً، شديد الأهمية عبر العصور المختلفة، بين ثلاث حواضر كبرى، هي أنطاكية، وحلب، وأفاميا، يفسر وفرة الآثار وغناها في هذه المنطقة.
لقد كانت بلدات إدلب ونواحيها وقراها مدناً أثرية، إذ يندر أن يكون هناك قرية، أو بلدة لا تجاورها بقايا الأوابد التاريخية، إذ يبلغ عدد المواقع التاريخية بين أوابد عمرانية وتلال أثرية، وأديرة مستقلة حوالي 760 موقعاً معرفاً، وموثقاً في سجلات الآثار السورية.
عن تسمية إدلب القديمة، يتحدث المؤرخون عن عدد كبير من الاحتمالات، أقربها لوقائع الأرض الآثار والتاريخ، هو أحد هذين الاحتمالين، الأول: تسميتها أسوة ببقية المدن الآرامية القديمة مشتق من اسم الإله الآرامي “هدد” والمنطوق باسم “آدد” كبير الآلهة، والشق الثاني من المفردة الآرامية “لب” ويعني بالعربية الجوهر، أو المركز أو القلب، وبجمع التسميتين يقترب من اسم المدينة “إدلب”، وهو احتمال قوي، ويرجح المؤرخ والباحث فايز قوصرة تسمية إدلب إلى تاريخ أقدم من التفسير اللغوي الآرامي، فيعتقد بأن اسم إدلب يعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، إلى عصر نشوء حضارة وإمارة إبلا القوية التي امتدت، لتُخضع العالم القديم، من هضبة الأناضول شمالاً، وحتى شبه جزيرة سيناء جنوباً، ووادي الفرات شرقاً، وسواحل المتوسط غرباً، وله في ذلك توثيق لافت يستند فيه إلى نص كتب باللغة الإبلائية، عن قرية صغيرة كانت تتبع مملكة إبلا باسم لوبان، في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد، كما ذكرت في مصادر مملكة “ألالاخ”، و”أوغاريت” باسم “لبانو” أو “لبانا”، وتشير بعض الدلائل أن مكانها هو مكان الجامع العمري الذي هدم في العام 1988، وأن اسم إدلب اشتق من اسم “دلبين”، والمثير أكثر أن غالبية أسماء القرى والبلدات في محافظة إدلب لاتزال تحتفظ بالأسماء التاريخية القديمة، مثل: بنش، وآفس، وأريحا (أريحو)، و”حاس” (حاسو).
قائمة الاعتداءات على الآثار وأنواعها
قد يطول الحديث عن تاريخ إدلب وريفها ومدنها، وقراها الأثرية في تل مرديخ، وتل دنيت، والمدن المنسية في البارة ومحيطها، وغيرها من القلاع والتحصينات الحربية، والعمائر الدينية المسيحية من كنائس وأديرة، ويمكن لأي مستزيد البحث عن هذه الحدائق الأثرية المحاطة بكروم العنب، والكرز، والتين، والزيتون، كما شهدتها بأم عيني بلدة إثر بلدة وموقع، والذي أبقى عمارته القوية شاهدة على عمق هذا التراث، وتجذره ومقاومته لعوادي السنين والغزاة، إلا أن ما حصل خلال بضع سنوات من المعارك العبثية، وحملات النزوح، والتدمير المتعمد، والنهب الممنهج، أمام أنظار العالم، كان كارثياً بكل المقاييس العلمية والعالمية لعلم الآثار، إذ اشترك الجميع في صناعة هذه الجريمة الكبرى، بحق المَدَنيّة والتاريخ والمستقبل، عندما استخدمت المواقع الأثرية في المدن المنسية التي تحيط بقرى إدلب وممراتها التاريخية مسارح لصراعات حربية، وحصلت فيها الاعتداءات التالية:
– تحصينات حربية للدبابات والمدافع والصواريخ.
– استخدام حجارتها الأثرية وبقايا جدرانها وعمائرها كدريئة حربية؛ لإطلاق القذائف والرصاص.
– قصفت هذه المواقع بعشوائية، أو بتعمد التدمير بالبراميل المتفجرة، والصواريخ والدبابات، وبكل صنوف الأسلحة.
– دخلت في ميدان نقاط الاستهداف الحربي، بكل ما يخالف قوانين حماية المدن الأثرية، وهي بالأساس تخضع لقوانين الحماية الدولية من منظمة اليونسكو المعنية بحماية تراث الحضارة؛ باعتباره جزءاً من ذاكرة الإنسانية جمعاء.
– تفكيك حجارتها الأثرية، واستخدامها في بناء مساكن مؤقتة، أو عشوائية، أو استخدام أمكنتها كملاجئ حربية، خلال احتدام المعارك بين العناصر المتحاربة المتنوعة: قوات إيرانية – روسية – مليشيات النظام – مليشيات كردية مع الفصائل الإسلامية المتصارعة بين بعضها بعض، والتي لا تقيم وزناً لعناصر جمالية، أو معمارية، إلا بما تدره عليها من مكاسب مالية لسرقتها وتهريبها، وبيعها لمن يطلب بأثمان بخسة.
الحفر العشوائي وخرافات الدفائن القديمة
لم ينجُ موقع من هذه المواقع من أعمال الحفر العشوائي، والبحث عن اللقى الأثرية والكنوز الذهبية، وتم ذلك بأكثر الأساليب جهلاً بالقيم العلمية، وسيطرة خرافات الأقاصيص الشعبية المروية عن كنوز، ودفائن قديمة، وإشارات ورموز، كانت السلطات الأثرية والأمنية تحظر القيام بمثل هذه الأعمال، ولا يتم تجاوزها إلا للمتنفذين من الشخصيات العسكرية المتصلة بنظام العصابة الحاكمة في دمشق، أو بعض العاملين تحت إمرتهم في أزمان سابقة من صغار قطاع الطرق واللصوص والمهربين، إلا أن ورود عناصر أجنبية، وكتائب عسكرية تحت مسميات إسلامية فتحت شهية الكثيرين من قادة هذه الفصائل، متمتعين بذهنية الغنائم إلى القيام بأعمال بدائية بالحفر اليدوي، أو باستخدام آليات ثقيلة، وحفارات كبيرة، خربت من السويات الأثرية، وخلطت المراحل التاريخية، وأحدثت دماراً هائلاً للطبقات الأثرية، يمكن اعتبارها جرائم كبرى تضاف إلى الجرائم الحربية السابقة، وتشكلت خلالها عصابات من بعض السكان المحليين الباحثين عن الثروة من تجارة الآثار كلصوص محترفين، ومحميين بقوة السلاح، ومنهم فيالق عسكرية رفعت شعارات الثورة، واختلطت اللحى الدينية بالأعمال المشبوهة لتهريب الآثار إلى تركيا، ولبنان والعراق وقبرص، وازدهرت ورشات تزييف القطع الأثرية، وطليها بالأصباغ الذهبية؛ ظناً من مبتدعيها أنهم سيجدون لها سوقاً، وانتشرت الفضائح والشائعات، وما إلى هنالك من أعمال شبيهة، كل ذلك فتح شهية مافيا تجارة الآثار الدولية، والتي كان مقرها الأساس جنوب تركيا على خط الحدود الشمالية لمحافظة إدلب، وجوارها في ريف حلب الشمالي، وأثرى بعض هؤلاء من تجارة القاع، وسمحت الجندرما التركية بمرور القطع الأثرية التي كانت تقبض الرشاوى، عند تمرير المنهوبات الأثرية وغيرها، مع حواجز أخرى كان مسؤولاً عنها سلطات ما سميت اصطلاحاً (الأمر الواقع)، وأحياناً كانت تجاورها – بحسب الشهادات – حواجز تابعة لعناصر المخابرات، ومليشيات الجيش السوري بشقيه المسمى بالنظامي، أو الدفاع الوطني.. وهذه حقائق لا يمكن نكرانها من أحد الأطراف المتصارعة، التي لم تكن أكثر من مجموعات من اللصوص والقتلة بماضٍ إجرامي، تم إخراجه من قمقمه المنسي، برعاية وحماية استخباراتية لدول إقليمية وعظمى، وحتى صغرى.
هذه حقيقة مختصرة، استندت فيها شخصياً إلى عشرات الشهادات والاتصالات الهاتفية، عن عمليات تهريب الآثار طوال سنوات، ودليل إثباتي ليس بحاجة إلى إثبات، سوى أن ما حصل في إدلب وريفها، حصل على كامل مساحة الجغرافيا السورية، مع تبديل طفيف في الأقنعة والوجوه، والأحذية العسكرية، واللحى المستعارة الشبيهة بين الماضي والحاضر، وبين من ادعى الثورة على نظام الجريمة، وبين من يعيد إنتاجها!
كوارث حقيقية
ساهم كل ذلك في تدمير موقع تل مرديخ الأثري، وعدد من التلال الأثرية الأصغر حجماً، كتل دينيت القريب من مدينة إدلب وغيره، والكارثة الكبرى كانت في قصف متحف إدلب مرتين، بحسب شهادة مدير المتحف الحالي الباحث والآثاري “أيمن نابو”: الأولى عام 2015؛ مما تسبب بأضرار كبيرة في بنيان المتحف وإصابة المستودعات التي تخزن فيها الآلاف من القطع الأثرية، وفي مقدمتها بالأهمية جزء من ألواح الرُّقم الفخارية التي تحوي تاريخ وحضارة “إبلا”، إضافة إلى حصيلة مكتشفات: “تل داحس”، “الكرخ”، “المسطومة”، “آفس”، و”مدافن سراقب”.
المرة الثانية عام 2017، عندما اخترق صاروخ حربي القسم الشمالي الغربي من المتحف، واحترق الكثير من الأرشيف الورقي والوثائق الأثرية. خلال قصف المتحف في المرة الأولى تعرضت محتوياته الثمينة إلى عملية نهب وقرصنة مباشرة، وهجوم من الفصائل المسلحة، وكأن المتحف غنائم حربية، ونهبت عدد من لوحات الفسيفساء وعدد كبير من تيجان الأعمدة والتماثيل، ونقود أثرية برونزية وفضية ذهبية، تعود إلى العهود الإسلامية، الأموية والعباسية والمملوكية والأيوبية والعثمانية.
لقد حفلت مستودعات إدلب بأكثر من 15000 قطعة أثرية من فترات مختلفة، والذي حصل تحديداً أن جيش نظام الأسد قصف المتحف بالطيران الحربي، كما قصفت مواقع أخرى، وتوثق التقارير والصور التي التقطت لمستودعات المتحف، وآثارها التي لم تعرض بعد، وقد تعرضت للتخريب الهائل، إضافة إلى تسرب المياه المالحة إلى محفوظاتها، وهي مرمية على الأرض، فساهم أكثر في ضياع أعداد لم تحصر من الآثار النفيسة من فخاريات وأيقونات نادرة، كما فقدت القطع النفيسة من حلي ومجوهرات ذهبية وفضية، كما تضررت ألواح إبلا المسمارية، إضافة إلى عدد غير محدد من التماثيل الصغيرة والأختام الأسطوانية التي تعود إلى الألف الثاني والثالث قبل الميلاد، ولم يتخذ أي إجراء بملاحقة الناهبين واللصوص.
وقد جرت في ما بعد عمليات إسعافية سريعة؛ لإنقاذ ما تبقى من تحف أثرية، وإنقاذ المتحف بتعاون بعض الآثاريين، وبتمويل من منظمات أمريكية وألمانية وفرنسية، ولكن كل ذلك جاء متأخراً جداً، عما حل بالمتحف، إذ تبين في ما بعد أن وثائق المتحف وسجلاته تحتوي على 7500 قطعة أثرية مسجلة، وبعد عملية البحث والجرد تم حصر ثلاثة آلاف قطعة متبقية، وبالتالي تبين أن عدد المنهوبات من القطع الأثرية المخفية ينوف عن أربعة آلاف قطعة، سرقت من المتحف، إضافة إلى ما تم تحطيمه، ويحتمل أن يكون الرقم أكبر من ذلك بكثير.
وما حصل في متحف إدلب يمكن القول: إن أحداثاً مشابهة حصلت في متحف معرة النعمان، إنما بأضرار أقل وطأة، في أسباب يمكن تبيانها لاحقاً، وهو بالأساس خان كبير، كان يسمى بخان مراد باشا، ويعود بعمارته إلى العهد العثماني في تاريخ بنائه عام 1595، وقد افتتح كمتحف للفسيفساء، وأصبح له شهرة عالمية، إذ تضم قاعاته قرابة 2000 متر مربع من اللوحات الفسيفسائية، وقد يكون واحداً من أهم متاحف الفسيفساء في الشرق الأوسط، التي كانت تزين أرضيات وجدران الأديرة المسيحية في إدلب وريفها، التي تمثل مواضيع إنسانية وزخرفية، إضافة إلى مشاهد برية للحيوانات والطيور، وقد تضررت عمارة المتحف، بعد قصف للطيران الحربي التابع لنظام الأسد عام 2015 ببرميلين متفجرين، كما استخدم كثكنة لفصائل عسكرية مسلحة، وانهالت عليه قذائف الهاون متسببة في انهيار أحد جدرانه، وأروقته، كما تضررت قبة المسجد الصغير الذي يتوسطه مع واجهته المعمارية، ولكن غالبية لوحاته بقيت سليمة، بعد أن قام الآثاريون المستقلون والجمعيات الأهلية في معرة النعمان، بتدابير حماية مؤقتة للوحات الضخمة، بوضع أكياس الرمل على طول مساحة اللوحات؛ درءاً لإصابتها بالقذائف والشظايا، كما قام الأهالي بحماية غالبية نفائس القطع الأثرية في مستودعات مخبأة تحت الأرض، ولا يعني ذلك أبداً أن المتحف وآثاره بقيت سليمة تماماً، بل تعرضت بعض مقتنياته للنهب، وخصوصاً الحلي، والمسكوكات الذهبية التي كانت موضوعة في صندوق حديدي بمكتب مدير المتحف.
في عام 2012 سيطرت الفصائل الإسلامية المتشددة على معرة النعمان، وفي مطلع شهر شباط من العام 2013 قام فريق منهم، (قيل إنهم منتمون إلى جبهة النصرة) بتحطيم النُّصب التذكاري لتمثاله؛ بسبب فقر ثقافتهم، وجهل الغالبية الساحقة منهم بقيمة فيلسوف عربي مسلم، دوَّن واحدة من أكثر الفلسفات الإسلامية جدةً وعمقاً في “رسالة الغفران”، عدته مراكز البحث العالمية الكنز المعرفي الذي لا ينضب، ويُدرس أدبه في جامعات العالم لكل متخصص في الفلسفة، وعلوم النحويات، والخيال الذي يحلق بعيداً في عوالم لم يخترقها إلا العباقرة، وبحكمته ورجاحة حجته استطاع إنقاذ معرة النعمان من فتنة قامت فيها، عندما حاصرها صاحب حلب “أسد الدولة صالح بن مرداس” ونصب المنجنيق عليها؛ بغية تدميرها، والفتك بأهلها، فواجهه على بوابات المدينة العريقة، قائلاً له الآية الكريمة: “خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ”، فوقف صاحب البطش والجيوش الجرارة، أمام هذا الشيخ الزاهد الضعيف الضرير مخاطباً إياه: “لا تثريب عليكم اليوم.. قد وهبت لك المعرة وأهلها”.. وفك صالح بن مرداس الحصار، وعاد أدراجه، ولعل في هذا البيّنة التاريخية القصيرة دلالة قاطعة عن مدى الاحترام الذي كان يلقاه رهين المحبسين في زمنه، من أبناء جلدته حتى لو كان من أصحاب السطوة والجبروت.
هذه ليست أكثر من لمحة عاجلة لبعض ما حصل من دمار في البنى الأثرية، في محافظة إدلب، وهو غيض من فيض، يحتاج إلى المزيد من البحث والتقصي، وملاحقة المتسببين بهذه السرقات والجرائم إلى أقاصي الدنيا، مهما طال الزمن، وهي تركة ثقيلة، أودعتها الأجيال القادمة في أعناقنا جميعاً، كتّاباً، وصحفيين، وأدباء وحقوقيين، وناشطين، وآثاريين، ومثقفين، وكما كنت أطالب دائماً بإنشاء محكمة دولية تحاسب بالقوانين ذاتها التي أبدعتها المنظومة الدولية، عبر مؤسساتها المفترضة، ومازالت حبراً على ورق، على جرائم الحرب، بأن تكون هناك محكمة دولية؛ لمحاسبة وملاحقة جرائم الآثار والتراث، ومهمتنا القادمة بالإصرار على تشكيل هذه المحكمة، إذ لم يتبق أمام الشعب السوري للخلاص، سوى القانون الدولي الناظم في المسائل المتعلقة بهذا الشأن، وربما تساهم هذه المحكمة – إن أُنشئت- في كشف وإدانة الجهات التي ساهمت بكل هذا الخراب الإنساني والدمار الهائل، وإلزامها بإعادة إعمار وترميم ما تهدم والتعويض على المتضررين، واستعادة الجزء الأكبر مما تم نهبه.
__________________________________________
من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024