الرأي العام

حزيران في الذاكرة السورية: السيرة الذاتية للهزيمة

سيرة تكتبها: إيمان أبو عساف

حزيران  شهر الهزيمة في الذاكرة السورية والعربية المعاصرة. الهزيمة التي حولتها عناوين الصحف إلى انتصار، وإلى زحف نحو تل أبيب…  

لكنها في الذاكرة السورية والشخصية اليوم، هي موت المورث،  وآخر مطاف الإستىناس “الحزبي” لانتخابات مجلس الشعب المزمع تصويرها… كما يتم التحضير لتصوير مسلسل أو مسرحية.

في قيظ حزيران التاريخي والمعاصر هذا… كم أتمنى أن أكتب خطاباً فيه كل الوعي، وكل المكاشفة، وكل الحضور والشجاعة،  خطاباً يحدد هويتي وموقفي من الوضع السوري خاصة…. الوضع السوري  بعيداً عن السياسة وتجاذباتها رغم عمق السياسة في سيرة هزيمتنا الذاتية. الوضع باعتباره وضع الناس وعلاقتهم بجذورهم  وأسباب ظواهرهم الاجتماعية وخصوصيتهم التراجيدية.  

أكتب وأنا أملك أدواتي ومناخي وأعرف منطلقاتي،  وأحدد مسالتي الوجودية. أكتب دون مواربة… وقد عودت نفسي أن أحاربها. تلك المواربة التي تتستر متقية والتي مهما جاهدت وكابدت لابد أن تلامس هويتي الجوانية  وتثيرها في لحظة ما 

وهويتي المستيقظة  على إثر القيامة  النهضوية بكل معانيه،  والتي لا تفتأ بقسوة جلاد  تذكرني بسلسلة هزائمي في كل المعتركات  الموروثة منها  والمشهودة… وكم تركت مرارتها في سيرورة تاريخية، حاملة حس الذل وعلقم السقوط!

ذاكرة طفلة وإحساس مراهقة

 صغيرة كنت عندما بكى والدي أمامي متفجعا على سقوط  القنيطرة في حزيران الهزيمة عام 1967.

لحظة لا أنساها رغم أني كنت لا أعرف حدود حارتي العتيقة، المسكونة بالسرود والخيالات والتواريخ المقدسة والمعجزات التي حدثت ذات يوم. يومها عجبت من هذا البكاء، وكم وجدت له هيبة ووقاراً، وكم أفلح في زرع الهزيمة أبدا في داخلي  وفي نوازعي!

وأذكر انني أصبت بالخيبة. طفولتي كانت تلوذ بشكيمة أبي وهذا أبي يبكي… أي أمر جلل أبكاه. الٱباء عظماء لا يبكون   وهم أبطالنا الخلاصيون من الرزايا  والبلاء.

كان أبي يسخر من عمي البعيد الذي كان يكرر كذب إعلام اسرائيل الذي قال بأنه قضى على الطائرات وهي جاثمة في المطار كلها. عمي البعيد كان يقول ساخراً: “ما أكذب الصهاينة. لقد نفدت طائرة واحدة، ولم تدمر كلها….”!!!

أسرى سوريون بيد الجيش الإسرائيلي في حرب 1967

في الحارة وفي المدرسة المتواضعة كانت كل الحكايا. عن العدو المتٱمر والغادر.. وكان تعاطفا مع حماة الديار يزداد باطراد مع تراكم هزائم أولئك الحماة المتصارعين على السلطة، وهكذا مرت سنوات الطفولة والإعدادية وكبرت الهزيمة، ثم كبرت بموازاتها صورة القائد الذي يحمل مشروعا قادما يخطط له سيخلصنا من عار النكبة والنكسة وكل الهزائم! 

القائد المخلص يشرّع أبواب “انتصاراته”!

خلاص مدجج بلوثة العقيدة البعثية وهرفها. العقيدة القومية التي هزمت في وقت قريب في أوربا، تلقفها شباب الشرق  على أساس انها الفكرة المستحيلة والتي ستحققها الارادة والعزم  والكثير من الشعارات وأكثر مما سمي بالمنطلقات النظرية… ولا يحتاج ذلك إلا لتنظيم الشعب وحشده وشحذه،  ولابد من إكثار التفجع واللطم  والعواطف الزائفة  ومرة واحدة رمى البعث الإمكانية  التي تعطي كل التحقق… وأسهب في مديح القائد الذي صحح المسار والذي سيتصدى للهزيمة النكراء بنصر مؤزر

استطاع هنا الأسد المؤسس أن يقود أعنة الخيال العقائدي نحو آفاق لا نهاية لها… ومجتهدا جدا بل شغوفا  شتم كل من خرج عن البعث وتصوره الخلاصي، إذ لا حياة في هذا الوطن إلا للتقدم والإشتراكية على الطريقة البعثة!

بل جرم وقبح وسجن وأعدم كل من يمم وجهه شطر حداثة أو إسلام أو ليبرالية…  وأعد ما استطاع من خزينة القرون الوسطى ومن الأدوات والأسلوب والمنهج.  وتراكم الخراب السلطوي، مستندا على ردم أخلاقي لكا قيمنا وأحلامنا كاساس لاكتمال المسيرة.

مرعباً كان الأسد الامين العام للحزب  والقائد الاستراتيجي والتاريخي  والعامل الاول و….و…. مرعوبا من الذوات التي شردت عن القطيع. وتحقق لها ميزة التبصر والرؤية المتجاوزة 

وكان لابد من أسيجة  فاصلة… فلا شعر إذا لم يكن مديحا.. ولا مسرح إذا لم يكن ترهيبا من السلطة والسلطان… و لا كاتبا  يخرج من هيبة وحضور الرئيس الملهم…   وهكذا قضى الحاكم الأب  المخلص من النكبة والنكسة وكل الهزائم على الوعي  وتحولنا جميعا. إلى حظيرة سميكة الجدران محكمة الإغلاق. ومن شرد كانت له جهات صيدنايا وتدمر وأقبية أفرع مخابرات دمشق، مقبرة بطقوس تعذيب جهنمية تطول أو تقصر.

نعمة الأمن والأمان!

وسقطنا جميعا في الخوف  ورضينا ببقاء الحال بل أكثرنا وأسهبنا في الحديث عن “نعمة” الأمن والأمان. وحكمنا على من تحسس أخلاقيا وتاريخيا ووطنيا وانسانيا، بأنه مشاغب ومتمرد  وهو من جنى على نفسه “يداه أوكتا… وفاه نفخ” والأصح: تفوّه!

وسورية في عهد القاىد الرمز بطل هزيمة حزيران، كانت بلد الأقفاص.  فلكل مجموعة داجنة أو في طور التدحين ثمة قفص. مرة قفص الطلائع ومرة قفص  الشبيبة… ومرة قفص الاتحاد الوطني لطلبلة سورية… ومرة العمال و مرة الفلاحين…و… لكن الميع تعود أن يخرج للتنزه قليلا خارج القفص ثم يعود سريعا… ليروى عن مكرمات القائد والبعث  وانتصارات تشرين ورعب اسرائيل. وخوف العرب من زعيم الأمة

وماد الإعلام السوري الرصين وماج وهو يسير في ركب المسيرة… فكل الشعب السوري المسيج لا يرى إلا من خلاله وبات متأكدا أن هذا الإعلام الخشبي الذي لم تكن تفهم منه شيئاً، المغمض العينين عن الحقائق والآلام والهزائم وكل التراجعات في الوطن،  هو ذروة الإعلام الذي تحسدنا عليه الأمم الأخرى في صدقه وتقدميته وتوجهاته الوطنية وكل ما يقدمه من معايير عبر برامجه هي معايير. أخلاقية على المستوى العام والخاص

وفي حضور العتمة. انتهى كل شيء. لا أفق  لعملية تلاق، أو حوار تثاقف، ولا نية لممارسة نقد أي نقد كان، سوى نقد من خرج على عقيدة البعث وكفر بعبادة الأب القائد. وغاب فعلا التاريخ والواقع في سورية… وتلوث كل شيء من بدءا من الإنسان وصولا للبيئة  التي دفن في ثراها النفايات النووية وجثامين  من أراد التنفس بحرية!

البعث المهزوم ينتظر توجيهات القائد

وعلى مرمى العيون امتد قصر الشعب  محتلا مرتفع من دمشق مستعيرا حداثة المعمار ورفاهية الأباطرة والملوك…  وفي الجوانب الممتدة عميقا كانت أصوات المعذبين حرقا أوجلدا أو تذويبا بالأسيد،  تبعث قشعريرة الطمأنينة في جسد الأب الحاكم الذي أولم لالتهام سورية بشعبها  بدوافع نقمة، وتوليف استعماري  ليس مؤامراتي بصورته التقليدية كما عند البعض بل  بصورة العالم المتحضر.

قصر الشعب الباذخ على قمة قاسيون: جسد رغبة الأسد المهزوم في الحرب في التربع على القمة والحكم  من علٍ

وأما البعث فلقد جمد منتظرا إشارة القائد  ليعقد مؤتمر أو لاجراء موافقة شكلية على قرار ما… وعجز على مستواه كحزب أن يجمع مريديه. وان يرغمهم على دفع الاشتراكات. وكان حاضرا في شعارته بدعم أي طالب يتقدم للدراسة في الخارج أو للقبول في دراسة عليا  او في دراسة أمنية لمن يريد الحصول على وظيفة  في دولة الأسد.. حزب البعث الذي تستر وسكت وبرر كل هذه المسيرة العار، وتلك السجون وكم الأفواه، وقتل الروح الجماعية السورية، وشكّل فراراً من المعركة،  أمام استحقاقات مفصلية ومسائل تخص الضمير الوطني والأخلاقي  وانشغل بالخرف الأيديولوجي وعمم الكذب المنظم،  وبات مسؤولا أبدا امام الشعب والتاريخ عن مرحلة مدانة ومرذولة  وٱثمة.

 كانت ثقافته تحريضية وانتهازية ومضللة ورديئة… وكل ما أظهره على هزالته في سنوات الحكم من مظاهر فنية وثقافية يبدو  مثل نبات سام أسهم في في قتل المواسم الخيرة. واستقر في وعي الناس صورة للتشوه والتزييف وقلة الحس الجمالي، وقلة الحيوية وكثرة الانحطاط، وأظهر الٱفاقين  وشعراء المناسبات ومطربي  انتصارات الوهم  وشعراء المديح الرخيص المأجور وصناعة الاعتداد الكاذب بمسيرة وطن يقوده القائد التاريخي إلى الهاوية.

  لقد برع البعث بلامنازع في  تحيزه للسلطة  وانشقاقه عن قضايا الشعب  بل كشف دعوته العقائدية التي تخولت لعمالة كاملة للسلطة القهرية المرتبطة بقوى قهرية كبرى… واستمر حتى هذا اليوم في النزع الأخير  في لعبة المكر  متناسيا خزيه وعاره في تاسيس ونشر الفساد والتستر عليه والمشاركة في مكاسبه. وأي استئناس يقوم به… لقد خسر كل شيء منذ كان شريكا في صنع النكسة، وفي استلام الثمن، وقد راكم  الفظائع حتى لم يتبق أي زواية فيه للعزل او الترتيب او البناء من جديد… وفاته أن كل الريح تأتي على غير مايشتهي وأن أوزاره لا استطاعة على حملها، ولو تحول الريح لإعصار. 

زر الذهاب إلى الأعلى