عندما ترك مزود الإنترنت وترك خمسة ملايين شخص في عزلة رقمية!
بلال الخلف – العربي القديم
تخيل نفسك تستيقظ في صباح عادي، تُمسك هاتفك، تفتح التطبيقات المفضلة لديك، لتكتشف فجأة أن لا شيء يعمل. شبكات التواصل متوقفة، الرسائل لا تصل، والخدمات الرقمية كلها مغلقة. والأغرب من هذا كله، أن مزود خدمة الإنترنت في تركيا قرر “الحرد”، كما نقول نحن السوريين، أي “الاضراب المقرون بالزعل” وقطع الإنترنت عن خمسة ملايين شخص بالكامل. لا شيء يُعيد الاتصال، وكأن مزود الخدمة قرر معاقبة الجميع فجأة، ليفرض عزلة رقمية لمدّة 30 ساعة كاملة!
عندما وقع هذا الانقطاع المفاجئ، كان أشبه بصاعقة نزلت على الجميع، وفي تلك الساعات رأيت مواقف مضحكة ومثيرة ومليئة بالتجارب من ثلاثة أجيال مختلفة، بدءاً من الأجداد وصولاً إلى الجيل الصغير الذي يعيش حياته كلها في العالم الرقمي.
جيل الأجداد: استراحة من ضجيج العصر
العودة إلى الزمن الجميل أول من لاحظت ردود أفعاله كان الجيل الكبير، آباؤنا وأجدادنا. هؤلاء تقبلوا الوضع بابتسامة وهدوء، حتى أن البعض منهم عبّر عن سعادته قائلاً: “أخيراً، عدنا للأيام الحلوة، حيث كنا نجلس مع بعض ونستمع لبعضنا”. كان هذا الجيل ينظر للأمر كمجرد استراحة من ضجيج العصر الرقمي، وتبادلوا القصص والذكريات حول أيام الطفولة، وزمن الرسائل الورقية والمكالمات عبر الهواتف الأرضية. رأيت كيف استغلوا هذه الساعات للعودة إلى الأحاديث العائلية، وكأنهم يعيشون لحظات نادرة بعيداً عن ضغط الأجهزة.
الجيل المخضرم: لحظة نادرة
جيل التسعينيات، فكان مزيجاً من الحيرة والرضا. هو جيل عاش طفولته ومراهقته بين أوقات اللعب في الخارج وأول لمسات التكنولوجيا، مثل الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر البدائية. بالنسبة لهم، كان انقطاع الإنترنت أشبه بلحظة نادرة تتيح لهم تذكر زمن عاشوه بين الواقع الرقمي والنقاشات المباشرة. في لحظة انقطاع الإنترنت، شعروا كأنهم عادوا لأيام الأشرطة الموسيقية وألعاب “الأتاري”، لكنهم في نفس الوقت لم يستطيعوا التخلي عن إغراءات التواصل السريع ومشاهدة الأخبار بكبسة زر. كانت لهم لحظات طريفة يتخللها الضجر، وكأنهم يقفون بين عالمين! لاحظت كيف كان بعضهم يتحدث عن الطفولة وكيف قضوها في اللعب بالخارج قبل أن يأتي الإنترنت ليأسرهم أمام الشاشات، ومع ذلك، لم يتمكنوا من التخلص من الرغبة في التحقق من أجهزتهم كل بضع دقائق. كان الموقف بالنسبة لهم أشبه بتذكير، وكأنهم يقفون بين زمنين متباعدين: زمن الحرية وزمن التواصل الرقمي السريع.
أحد أصدقائي من هذا الجيل بدأ في تذكر ألعاب طفولته ومراهقته، بل حتى شاركنا قصة عن أول مرة استخدم فيها الإنترنت، وكان يتحدث بشغف عن تلك الأيام. بالنسبة لهذا الجيل، كان الانقطاع بمثابة فرصة لاسترجاع الماضي.
جيل الشباب والتكنولوجيا: بدائل لم يفكروا بها يوماً
الكائنات الرقمية تائهة في العزلة! لكن الموقف كان درامياً بالنسبة للجيل الصغير، جيل التكنولوجيا. هؤلاء لم يعرفوا الحياة بدون الإنترنت، ولم يتصوروا يوماً أنهم سيضطرون لمواجهة انقطاعه المفاجئ. كان من الطريف مراقبتهم وهم يشعرون بأن الحياة قد توقفت، يتجولون بين الغرف ويحملون هواتفهم وكأنهم يبحثون عن أي إشارة أمل لعودة الإنترنت. رأيت وجوههم وكأنهم فقدوا وسيلتهم الوحيدة للاتصال بالعالم الخارجي، حتى أنهم بدأوا يستفسرون عن بدائل ربما لم يفكروا فيها يوماً، كقراءة الكتب أو ممارسة الرياضة او السؤال عن العاب الاجيال السابقة!
هذا الجيل كان الأكثر تأثراً، فهم يعيشون على الإنترنت، يتنفسون من خلاله ويعيشون تفاصيل يومهم كلها عبره. انقطاعه كشف لهم مدى اعتمادهم عليه لدرجة أن بعضهم شعر وكأن شيئاً مهماً قد سُحب منهم فجأة. يمكن القول أنهم “كائنات رقمية” حقيقية، لدرجة تجعلك تشعر أن كل واحد منهم موصول فعلياً بالشبكة، وكأن انقطاع الإنترنت هو انقطاع عن حياتهم.
ساعات دون الإنترنت
ماذا تعلمنا؟ لقد مرت 30 ساعة بطيئة على الجميع، ولكنها تركت أثراً عميقاً. رأينا كيف أن الأجيال تتفاوت في علاقتها بالإنترنت وكيف يمكن للعزلة الرقمية أن تعيد لكل جيل جزءاً من ماضيه أو توقظ لديه شعوراً ربما نسيه. الكبار وجدوا فرصة للعودة إلى الجلسات العائلية، والمخضرمون استرجعوا ذكرياتهم القديمة، بينما أدرك الجيل الصغير أنه بحاجة إلى إعادة النظر في ارتباطه بالإنترنت.
كانت تلك الساعات بمثابة تجربة، درس غير متوقع يذكرنا جميعاً بأهمية التواصل الواقعي، بعيداً عن الشاشات. ومع عودة الإنترنت، كان الجميع أكثر وعياً بدوره في حياتنا، لكن أيضاً، شعرنا أن هناك حياة خلف تلك الشاشات، وربما علينا ألا نغفل عنها كثيراً.