العربي الآن

تفاهة الشر في صيدنايا: غياب التفكير وتطبيع الجرائم الكبرى  

التفاهة هنا ليست مرادفاً للبساطة، بل هي انعكاس لفقدان الوعي الأخلاقي

محمد صبّاح * – العربي القديم

«كان آيخمان لا يفكر، وهذه هي النقطة، التي تميز جميع مرتكبي الجرائم الكبرى في هذا العصر».

تشير آرندت إلى أن التفاهة تكمن في غياب التفكير النقدي لدى مرتكبي الجرائم. لم يكن أيخمان مدفوعاً بعقيدة شريرة بقدر ما كان متفانياً في أداء وظيفته دون النظر في العواقب الأخلاقية لما يقوم به.

كان مجرد ترس في آلة ضخمة تتطلب الكفاءة والالتزام بالأوامر، وهذا ما جعل هذه الجرائم الكبرى ممكنة: لم يكن على كل فرد أن يكره ضحيته أو حتى أن يفكر بما يفعله؛ يكفي أن يؤدي دوره بروح بيروقراطية صارمة.

مجرد إجراء إداري

الأمر الأكثر إثارة للرعب هو أن هذا النهج جعل الإبادة تبدو وكأنها مجرد إجراء إداري. لم تكن هناك وحشية علنية في عملية اتخاذ القرارات أو تنفيذها، بل كانت «مهنية »إلى أقصى حد.

لهذا كان النازيون الجدد (نظام الأسد) يفضلون استبعاد أولئك الذين يظهرون كراهية مفرطة أو انفعالاً أثناء أداء مهامهم، لأن المطلوب كان التزاماً بارداً وغير عاطفي، يخلو من أي تدخل شخصي قد يعطل سير العملية بكفاءة.

تعرض حنّة آرندت  في كتابها  (أيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر) بقولها: «إنّ إنجاز مذبحة مثل الهولوكوست، لم تكن لتتم بهذه الكفاءة، لو أن الموظفين الذين قاموا بالعمل امتلكوا حقداً خاصاً ومشاعر عداء شخصية تجاه ضحاياهم، بل كانت السلطات النازية تحرص على استبعاد من تظهر عنده مثل هذه المشاعر أثناء عمليات الإعدام.

على العمل أن يكون مهنياً تماماً، روتينياً، بل حتى مملاً » .

هذا التحليل يثير سؤالاً فلسفياً وأخلاقياً مهماً : كيف يمكن للإنسان أن ينفصل تماماً عن البُعد الأخلاقي لأفعاله..!؟

في سياق  صيدنايا، تحول الإنسان إلى أداة تنفيذية تخضع بالكامل للنظام الأعلى. كل ما كان عليه فعله هو تنفيذ التعليمات بأقصى درجات الدقة، دون أي تأمل في تأثيرها الإنساني. كانت البيروقراطية الأسدية منظومة مصممة لتحييد الضمير الشخصي وقتله، وتحويل الأفراد إلى أدوات خاضعة بالكامل لتوحش السلطة.

عندما يتوقف الإنسان عن التفكير في طبيعة أفعاله

لكن التفاهة هنا ليست مرادفاً للبساطة، بل هي انعكاس لفقدان الوعي الأخلاقي. فالشر لم يكن نتيجة وحشية فردية أو نزعة عدوانية، بل كان نتيجة غياب التفكير. السجّان لم يكن قاتلاً متعطشاً للدماء، بل كان مجرد موظف يتبع القوانين والتعليمات، وهذا ما جعل جرائمه أكثر رعباً؛ لأنه كان ينفذها دون أدنى إحساس بتبعاتها.

ما تحاول آرندت إبرازه في تشريح النظم الإجرامية هو أهمية التفكير في مواجهة الشر. عندما يتوقف الإنسان عن التفكير في طبيعة أفعاله وتأثيرها الأخلاقي، يتحول إلى أداة في يد منظومة قد ترتكب أفظع الجرائم. الجرائم الكبرى لا تحتاج إلى أفراد  « شريرين » بالضرورة، بل إلى أفراد يفتقرون للتأمل والنقد الذاتي.

ستانلي ميلغرام في كتابه «تجربة الطاعة».

أجرى تجربة شهيرة في الستينيات لفهم لماذا يطيع الناس الأوامر حتى عندما تتعارض مع قناعاتهم الأخلاقية.!!!

يجد ميلغرام أن معظم الناس مستعدون لتنفيذ أوامر من سلطة عليا، حتى لو أدى ذلك إلى إيذاء الآخرين ،هذا يشبه استنتاج آرندت بأن الطاعة العمياء قد تؤدي إلى الشر دون الحاجة إلى دوافع خبيثة.!!!

تقترح آرندت إجابة مذهلة حول سؤال…!!

كيف تعمل تقنية الشر، في إضفاء شرعنة لممارساتها، لتغدو فعلاً مبرراً، واعترافاً غير قابلٍ للاعتراض.!!!!

فتقول: بأن القانون أو الإجراءات القانونية توفر درعاً أخلاقياً للموظفين الذين يقومون بمهمة الإشراف على مراحل التنفيذ المختلفة؛ أي أنّ هذه الإجراءات تقوم بتحويل السؤال الذي قد ينتاب ضمائرهم نحو: «هل ما أقوم به أخلاقي..؟؟؟» إلى  «هل ما أقوم به قانوني؟» 

في هذه الحالة تقع المسؤولية الأخلاقية على المشرِّع، وما على الموظف المواطن الصالح المنتمي لوطنه ودولته إلّا أن يطيع القانون وينفذه»

هنا نجد أنّ المسؤولية الأخلاقية تُرحَّل إلى صانع القرار أو المشرع، بينما يتحول المنفذون إلى أدوات محايدة خالية من الإحساس بالذنب.

لهذا كانت «تقنية الشر» عملية ممنهجة تعمل على جعل الأفعال اللاأخلاقية مقبولة من خلال :

الإجراءات البيروقراطية : تقسيم المهام إلى خطوات صغيرة تجعل من الصعب على الفرد رؤية الصورة الكاملة أو إدراك الأثر الكارثي لأفعاله.

إلغاء الإنسانية على تحويل الضحايا إلى أرقام أو فئات مجردة لتخفيف الشعور بالذنب.

تطبيع الجرائم الكبرى

جورجيو أغامبين في كتابه «حالة الاستثناء» فسر كيف تقوم الدولة بتطبيع الجرائم الكبرى من خلال فرض «حالة استثناء» حيث تجعل القوانين العادية غير قابلة للتطبيق، ويظهر كيف يمكن تحويل البشر إلى «حياة عارية» أي أنهم يُجرَّدون من أي حقوق سياسية أو إنسانية.

« الحياة العارية »  هي حالة يفقد الإنسان فيه كل شيء ويصبح محض جسد يُمكن التحكم به.

يستشهد أغامبين بمثال «الهوموساكر» في القانون الروماني، وهو الفرد الذي يمكن قتله دون عقوبة ولكنه لا يُمكن التضحية به كقربان ديني، مما يجسد حالة التهميش المطلق.

هذا المفهوم ينطبق على الأفراد والجماعات التي تُستبعد من الحماية القانونية، مثل السجون السياسية ( صيدنايا )، المعازل العرقية (الغيتو)، ومعسكرات الاعتقال.

من خلال إعلان حالة الاستثناء، تُطبع الجرائم الكبرى (مثل التعذيب، والاعتقال التعسفي، والقتل) باعتبارها ضرورية لحماية «النظام السياسي». لهذا تخلق السلطة  رواية تُبرر تجاوز القانون العادي، بذريعة «محاربة الإرهاب/ وهن عزيمة الأمة/ القضاء على المندسين»

تصبح الحدود بين ما هو قانوني وغير قانوني غير واضحة، مما يسمح بارتكاب جرائم تُعتبر قانونية بحكم الضرورة.

____________________________________

  • كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى