نوفذ الإثنين | عنتاب السورية!
ميخائيل سعد
وصلت إلى مدينة غازي عنتاب، الملَقبة بابنة حلب، في الساعة الخامسة صباحاً، قادماً من مدينة ماردين حيث أقيم وأدرس. كان هدف زيارة المدينة مراجعة طبيب الأسنان السوري محمد حلبي، الذي زرع لي أسناني منذ عامين تقريبا، ولما كان الوقت مبكرا كان لا بدّ من البقاء في مركز انطلاق باصات غازي عنتاب مدة ساعتين على الأقل، كي تستيقظ المدينة، أو كي تستيقظ ”الطبقة العاملة“ الميسورة من السوريين، كما هو حال الطبيب، الذي يعمل كل يوم حوالي عشر ساعات.
حاولت تمضية الوقت، وبعد أن وجدت مكان شاغرا، جلست محاولا متابعة قراءة الكتاب الذي أحمله معي (الفلسفات الآسيوية)، فأنا وقد وضعت قدمي في عامي الخامس والسبعين، لا أزال أجهل أدين الشرق، لقد سحرنا ”الغرب“ طويلا، ونسينا أننا ننتمي إلى الشرق، لذلك عندما نصحني أستاذي المشرف على رسالة التخرج الدكتور ”زبير خلف الله“ أن أكتب مقدمة عن تاريخ الأديان، وجدت أن الفرصة مناسبة لترميم معارفي شبه المعدومة عن أديان الشرق كالهندوسية، والبوذية، والكنفوشوسية، والزرادشتية، والطاوية، وغيرها، وبدأت القراءة، بعد موافقة الدكتور المشرف على الفكرة. قلت: بدأت القراءة وأدهشني حجم التأثير على ثقافتنا الإسلامية، منذ الصفحات الأولى في الكتاب، ولكن عالمي ”السوري“ كان ضاغطا عليّ، فأغلقت الكتاب ونهضت أتجول في مركز انطلاق الباصات، محاولا البحث عن العناصر السورية في المكان، فكان الغالب الحضور الكردي في أزياء النساء، وبعض ملبوسات الرجال، وكانت اللغة العربية تعبر، بين الحين والآخر، مع لهجة حلبية واضحة، وكان سلوك المسنين يلفت أنتباهي، بمسابحهم وثيابهم ونظراتهم االحادة وشواربهم الكثة، وتذكرت سورية الستينيات والسعبينيات من القرن الماضي، وبشكل خاص مدينة حمص والحضور الريفي فيها.
وصلت، في تجوالي، إلى ”كشك“ إسكافي، فقررت تنظيف حذائي النظيف أصلا، وإصلاح فتحة صغيرة، بدأت تكبر، في مقدمته. كان الهدف تمضية الوقت، ولما لم أكن أعرف اللغة التركية، وكان من المستبعد أن يعرف أحد اللغة الفرنسية، قلت للرجل الستيني: صباح الخير، فرد: وعليكم السلام. قلت له: أريد تلميع الحذاء وإصلاحه، ناولي شحاطة، قبل أن يأخذ الحذاء وبدأ العمل فيه فورا. جلست أراقبه، من الواضح أنه لم يتعلم هذه المهنة حديثا، فمهارته واضحة في التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة. بادرني بلهجة حمصية: من أين الأخ؟
قلت له: من حمص. ولكي أقطع عليه سؤاله التالي، قلت: من حي بستان الديوان، حيث كانت مكتبتي وبيتي. أبدى الرجل إعجابه بحذائي، وسألني: من أين اشتريت هذا الحذاء، إن جلده نوعية ممتازة، خجلت أن أقوله له إنه من ”بالة مونتريال“، فلم أكن أرغب بفتح ملف وجودي في مونتريال معه، فقلت له: من إسطنبول.
قال، بعد صمت قصير: هل ستعود إلى حمص؟
قلت فورا: لا، لقد فقدنا أماكننا، لم تعد لنا، لقد شغلها آخرون.، ليس بالضرورة غرباء، قد يكونوا أحيانا كثيرة من الأقرباء، كان لا بدّ من إملاء الأمكنة الفارغة التي تركناها، كي لا تفسد، لذلك لم تعد لنا، إنها لمن يشغلها.
انتعلت الحذاء اللامع، وكانت الساعة قد قاربت السابعة صباحا، فقررت المغامرة والاتصال بالدكتور، الذي أجاب على الهاتف فورا، وقال: تعال، ستجدني في العيادة. كان الأمر محرجا، لأن الطبيب يأتي إلى عيادته عادة في الحادية عشرة، والساعة الآن السابعة والنصف، ولكن حرجي تبخر بعد استقباله الحار لي، وما أن انتهى من عمله بأسناني حتى اقترح: هل تريد فطورا سوريا أم تركيا؟ قلت: سوري. لم يكن محل الحمص والفلافل والفول والفتة بعيدا، فأكلنا حتى التخمة. قال الدكتور محمد: غير بعيد من هنا يوجد محل سوري يبيع عصيرا طازجا، ما رأيك بكأس من عصير الرمان أو غيره؟ ولم ينتظر جوابي فسار ومشيت وراءه، وكان مذاق الرمان منعشا، وذكرني برمان عفرين عام ١٩٧٠، حيث كنت معلما ابتدائيا هناك.
كنت مضطرا على الحركة بسرعة، فعلي أن أعود في نفس اليوم إلى ماردين، وموعد انطلاق الباص في الثانية والنصف، كنت بحاجة إلى دليل، وكان زميلي الجامعي السوري حمود الحمود يعيش في غازي عنتاب، استنجدت به فلبى النداء فورا، وذهبنا لشراء ”دواء أعشاب شعبي“ لصديق سوري في ماردين، كان قد أدمن عليه، وبعد أن أنجزنا المهمة، قال حمود: ما رأيك بصحن ”هيطلية مع قشطة“ على الطريقة الحلبية؟ وكان قد مضى على أكلي للهيطلية أكثر من ٣٥ عاما، عندما أكلتها في حلب، فرحبت بالفكرة دون تردد.
كانت وجبة ”غير شكل“، فقد أكرمنا صاحب المحل الحلبي، والشاب الحمصي الذي يعمل عنده، بعد أن عرف أنني من حمص، وأن قريبه ”عبد الواحد وحّود“ كان صديقي في النضال، في الزمن السوري، قبل أربعين عاما، فأكلنا صحنين في صحن واحد.
انتهي يومي في عنتاب السورية، بعد أن التقيت بالإسكافي الحمصي وطبيب الأسنان الحلبي، وحمود الحلبي، وصاحب المطعم الحلبي، وبائع العصير الادلبي، وبائع الأعشاب الطبية الجزراوي، وصاحب محل الحلويات الحلبي، والشّغيل الحمصي الذي يعمل عنده، وكان الختام أن أوصلني الصديق حمود الحمود الى مركز انطلاق الباصات وودعني هناك.
ألا يحق لي أن أقول ببساطة: كنت في عنتاب السورية؛ سورية التي أنا محروم منها منذ ٣٥ سنة؟؟!!!
ماردين في ٤-١٢-٢٠٢٣