الرأي العام

قبل أن يصبح “جزءاً من الشعب”: هل يستطيع فراس الأسد تسديد فاتورة الماضي؟

بين امتيازات أبناء السلطة ومعاناة السوريين إرث أسود لا تمحوه الكلمات

نوار الماغوط – العربي القديم

في الأيام الأخيرة، أثار منشور لفراس الأسد موجة واسعة من التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي. ظهر فيه كمناضلٍ يدّعي أنه ناصر الثورة السورية لكنه خُذل بنتائجها، ليضع نفسه في صفوف الشعب الذي عانى لعقود طويلة تحت حكم عائلته. ولكن قراءة دقيقة لتعليقات المعلّقين تُظهر واقعاً مختلفاً: استعراض للمظاهر، حيث يسعى كثيرون لإظهار قربهم من شخصية شكلت جزءاً من النظام الذي سحق السوريين وحطم آمالهم لعقود.

يحاول فراس الأسد تقديم نفسه كشخص يريد أن يكون “جزءاً من الشعب”، متناسيًا الماضي الذي صنع امتيازاته. الشعب الذي يدّعي فراس الأسد أنه ينتمي إليه، لم ينسَ ولن ينسى المعاناة التي عاشها في ظل حكم عائلته. المعاناة التي بدأت منذ الطفولة، حين كان الأطفال السوريون يُجبرون على مواجهة واقعٍ قاسٍ من الإذلال والعنجهية والتمييز… و “هذا ابن المعلم” و”ابن أخو المعلم”، بينما عاش أبناء المسؤولين، مثل السيد فراس، في عالمٍ آخر تماماً.

فجوة الطفولة الهائلة

طفولة فراس الأسد هي انعكاس صارخ للفجوة الهائلة التي فصلت بين أبناء الشعب وأبناء النخبة الحاكمة. بينما كان أطفال الفلاحين والعمال والموظفين يذهبون إلى مدارسهم سيرًا على الأقدام وسط البرد القارس، كانوا يقضون ساعات طويلة في الوصول إلى صفوفٍ باردة، ترتعد أجسادهم من الصقيع. هناك، كانوا يتلقون عقوباتٍ قاسية على أبسط الأخطاء، وأحيانًا لمجرد التأخر عن طابور الصباح. أما أطفال المسؤولين، كفراس الأسد، فلم يعرفوا شيئًا من هذا الواقع. كانوا يعيشون في قصور مترفة، يذهبون إلى مدارسهم بسيارات فاخرة، أو يُستقدم المدرسون إلى قصورهم لإعطائهم “الدروس الفاخرة”.

بينما كان أطفال الشعب يترددون في إلقاء الشعارات المفروضة عليهم خوفاً من العقاب، كان أبناء النخبة في مأمن من هذه القسوة. عقوباتهم لم تكن موجودة أصلًا، وحياتهم لم تقترب يومًا من واقع المعاناة الذي عاشه أبناء الموظفين والعمال والفلاحين. وبينما كبر أطفال الشعب تحت وطأة الخوف والحرمان، كبر أبناء المسؤولين محاطين بالامتيازات، يعلمون أن القانون لا يمسّهم، وأن الدولة هي مظلتهم الخاصة التي تحميهم من كل شيء.

مأساة أبناء المعارضين

لكن هذا التفاوت لم يكن يشمل فقط الأطفال الذين عانوا الفقر والحرمان بسبب مهن آبائهم البسيطة، بل هناك وجه آخر أكثر قسوة لهذه المأساة: آلاف الأطفال الذين حُرمت طفولتهم وتعليمهم لأن آباءهم كانوا معارضين للنظام. هؤلاء الأطفال، الذين غُيّب آباؤهم في السجون، أو قتلوا في حملات القمع الوحشية، عاشوا طفولة مثقلة بالخوف والوصمة الاجتماعية، حيث كانوا يُعاملون كأبناء “الخونة”، محرومين من أبسط حقوقهم، بل حتى من فرصة الحلم بمستقبل أفضل.

لم تكن الفجوة بين أبناء الشعب وأبناء النخبة الطائفية الحاكمة مجرد تفاوت في الامتيازات، بل كانت نظاماً كاملاً يعكس حالة القهر التي فرضتها السلطة على السوريين لعقود. أطفال الشعب عاشوا طفولة قائمة على التقشف الإجباري، حيث كانوا يرتدون الأحذية المثقوبة والمعاطف الرثة، في حين كان أبناء المسؤولين يعيشون طفولة مترفة، لا يفهمون فيها معنى الحرمان أو الجوع. طفل الفلاح كان يكبر وهو يعلم أن مستقبله محدود بسقف القمع والطبقية، بينما طفل المسؤول كبر مع شعورٍ بالسيادة المطلقة والامتيازات التي لا تنتهي بما فيها إمتياز إذلالك أو ضربك أمام باب المدرسة أو في الشارع.

من يعيد الطفولة المسروقة؟

الثورة السورية لم تكن مجرد انتفاضة سياسية، بل كانت لحظة للانتقام من هذه الفوارق الصارخة التي عاشها السوريون لسنوات طويلة وأوصلت حياتهم ومستقبل أولادهم إلى أفق مسدود ليس فيه أي أمل بالإصلاح، لكنها أيضاً أظهرت شخصيات عديدة حاولت ركوب موجتها لإعادة تشكيل صورتها، كما يفعل فراس الأسد اليوم. رغم تصريحاته التي يدّعي فيها الوقوف مع الثورة، إلا أن ماضيه لا يمكن طمسه بمنشور على فيسبوك. ماضيه جزء لا يتجزأ من نظامٍ ظلم الشعب وأهان كرامته.

اليوم، عندما يطلب السيد فراس أن يكون جزءاً من الشعب، يتجاهل حقيقة مؤلمة: طفولته المترفة كانت حجر الزاوية لنظامٍ قمع طفولة الملايين. كيف يمكنه أن يدّعي الانتماء إلى شعبٍ عاش في البرد والجوع، بينما عاش هو في قصرٍ لم تطأه المعاناة يوماً؟ هل يستطيع أن يعيد للسوريين طفولتهم التي سُرقت؟ هل يمكنه أن يمحو الفوارق التي صنعتها عائلته ورفاقها في حزب البعث؟

التفاعل الكبير الذي حظي به منشور فراس الأسد لا يعكس بالضرورة تأييداً أو إعجاباً بمضمونه، بل يُظهر جانباً مؤلماً من واقعنا كسوريين. نحن شعب يُفرط في حب المظاهر، نُظهر التفاعل مع شخصيات مثل فراس ليس لأننا نؤمن بكلماتهم، بل لأننا نريد أن نُظهر أننا نعرفهم، وكأنّ قربنا من هذه الشخصيات يُعطينا قيمة إضافية. وسط هذا التهافت، تضيع القضايا الحقيقية، وتُهمَّش المعاناة الحقيقية التي عاشها الشعب.

إدراك حجم الألم

السيد فراس الأسد، إن كنت تريد أن تكون جزءاً من هذا الشعب حقًا، عليك أن تدرك أولاً حجم الألم الذي تسببت به طفولتك وطفولة من يشبهك. طفولتك كانت مليئة بالامتيازات التي لم نعرفها نحن، ومستقبلك كان مضمونًا على حساب معاناتنا

الشعب السوري لن ينسى ولن يغفر بسهولة. ذاكرته مثقلة بكل تفاصيل الظلم الذي عانى منه بشتى صوره وأشكاله، وهي ذاكرة لا يمكن محوها بمنشور أو تصريح. إذا كنت يا سيد فراس جادًا في رغبتك بالانتماء إلى هذا الشعب، عليك أن تواجه هذه الذاكرة بصدق، وأن تتحمل مسؤولية ما ترتب على طفولتك وامتيازاتك. أما  نحن، فلن نسامح ولن ننسى هذا الإرث الثقيل في قلوبنا، لأنه لا يمكن تجاوزه بالكلمات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى