العربي الآن

العدالة قبل الاستثمار: إعادة تدوير الفساد

هل تُستخدم الأموال المستردة أو التبرعات لتعويض الضحايا والنازحين أم أنها تتحول إلى مشاريع استثمارية كبرى تخدم أهدافاً سياسية واقتصادية، أكثر مما تجسد عدالة اجتماعية؟

نوار الماغوط – العربي القديم

حين صاغت الدول الصناعية الكبرى في مطلع السبعينيات مبدأ “من يلوّث يدفع”، بدا الأمر بمثابة انتصار لعدالة بسيطة وواضحة: من تسبب بالضرر البيئي هو المسؤول عن إصلاحه وتحمل تكلفته.

حيث نصّ المبدأ على أن السلطات الوطنية ينبغي أن تعتمد قاعدة “الملوّث يدفع”، بحيث تُحمَّل تكاليف التلوث إلى مسببيه، مع مراعاة المصلحة العامة وعدم تشويه التجارة والاستثمار.

المبدأ هنا لا يتوقف عند تحميل المسؤولية المادية، بل يهدف إلى تصحيح الخلل، وإعادة التوازن بين من تسبب بالضرر ومن تضرر منه. بكلمة أخرى: إنه تجسيد للعدالة البيئية

 ومع مرور العقود، أصبح هذا المبدأ أحد أعمدة القانون الدولي البيئي، وتبنته معظم الاتفاقيات الدولية الكبرى. لكن عند إسقاط هذا المفهوم على الواقع السوري الراهن، سنجد أن المبدأ ذاته يُستحضر بصيغة مشوهة: “من سرق يدفع… ليكسب أكثر”.

 أرقام تتحدّث عن الخراب والآثار

أ. حجم الخسائر الاقتصادية المدمرة

  • يقدّر مركز الدراسات السورية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن تكلفة النزاع الاقتصادي بلغت حوالي 254.7 مليار دولار بحلول عام 2015، بينما بحلول نهاية 2024 ارتفعت التقديرات إلى نحو 923 مليار دولار تشمل الأضرار والخسائر الاقتصادية.
  • تشير تقارير أخرى إلى أن الخسائر في الناتج المحلي الإجمالي بين 2011 و2024 تبلغ ما يقارب 800 مليار دولار بأسعار عام 2010 .
  • كما تقدر الأمم المتحدة أن تكلفة إعادة الإعمار تتراوح بين 250 إلى 400 مليار دولار

ب. حجم النزوح والاحتياج الإنساني

  • ما لا يقل عن 16.7 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية داخل سوريا (70% من السكان)
  • يوجد 7.4 مليون نازح داخليًا، وأكثر من 6 ملايين لاجئ في الخارج
  • منذ ديسمبر 2024 وحتى منتصف 2025، عاد إلى ديارهم نحو 2 مليون نازح ولاجئ  
  • الحرب تسبّبت في نحو 2000,000 ضحية وتدمير هائل للبنية التحتية والتعليم والصحة، ما زاد من معدلات الفقر إلى أكثر من 90% من السكان يعيشون تحت خط الفقر.

في سوريا ما بعد الأسد، أطلقت الإدارة الجديدة حملة شاملة لتجميد أصول رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق، مثل سامر فوز ومحمد حمشو. كما دشنت صندوق التنمية السوري في سبتمبر 2025، معلنة أن التبرعات تجاوزت 30 مليون دولار في أيام قليلة، بالتوازي مع وعود بمشاريع استثمارية ضخمة مع شركاء إقليميين، تجاوزت قيمتها عشرين مليار دولار.

هذه الخطوات قُدمت للرأي العام على أنها بداية لتطهير الاقتصاد، ومقدمة لإعادة الإعمار. غير أن طريقة إدارة هذه الأموال تُثير أسئلة نقدية: هل تُستخدم الأموال المستردة أو التبرعات لتعويض مئات آلاف الضحايا والنازحين؟ أم أنها تتحول مباشرة إلى مشاريع استثمارية كبرى مطارات، مترو، أبراج سكنية تخدم أهدافاً سياسية واقتصادية، أكثر مما تجسد عدالة اجتماعية؟

 المخاطر الكامنة

من دون إطار شفاف يضمن وصول الموارد إلى المتضررين أولاً، تتحول عملية “استرداد الأموال” أو “حملات التبرع” إلى مجرد أداة لشرعنة النظام الاقتصادي–السياسي الجديد. الأسوأ أن بعض الفاعلين الذين تورطوا في الفساد أو استغلوا الحرب قد يعودون شركاء في الإعمار، تحت غطاء الاستثمار والتنمية.

وهكذا، ينقلب المبدأ: من أداة للعدالة إلى أداة لإعادة تدوير النخب، ومن وسيلة للتصحيح إلى وسيلة للربح.

لقد أثبت مبدأ “من يلوّث يدفع” في المجال البيئي أنه أداة فاعلة لتحقيق العدالة واستعادة التوازن. أما في سوريا، فهناك خشية حقيقية من أن يتحول الدفع إلى مجرد إعادة تدوير للفساد، في صيغة أكثر حداثة ومغلفة بلغة التنمية.

العدالة الحقيقية لا تُقاس بحجم المشاريع الاستثمارية ولا بضخامة التبرعات، بل بمدى قدرة النظام الجديد على إعادة الحقوق إلى أصحابها، وعلى ضمان أن من لوّث وقتل ونهب، هو فعلاً من يتحمل الثمن لصالح المجتمع، لا لصالح سلطته أو مصالحه الاقتصادية.

دروس مقارنة من تجارب دولية

لفهم التحدي السوري، من المفيد النظر إلى تجارب أخرى حاولت تطبيق مبدأ العدالة بعد الصراعات أو الأنظمة الاستبدادية:

  • جنوب أفريقيا بعد الأبارتهايد:
    أُنشئت “لجنة الحقيقة والمصالحة”، التي اعتمدت على الاعتراف العلني بالجرائم بدل العقاب الجنائي الصارم. تم التركيز على المصالحة السياسية أكثر من العدالة الاقتصادية، ما ترك فجوة عميقة في مسألة تعويض ضحايا التمييز العنصري. وهنا يظهر التشابه مع سوريا: الخوف من أن يُستبدل مبدأ العدالة بمبدأ “التسوية السياسية” التي قد تترك الضحايا على الهامش.
  • العراق بعد 2003:
    بعد سقوط نظام صدام حسين، فُرضت سياسات اجتثاث البعث ومصادرة أملاك  النخبة المرتبطة بالنظام. لكن غياب مؤسسات شفافة لإدارة هذه الموارد أدى إلى نشوء فساد جديد، وأصبحت عملية إعادة الإعمار نفسها مجالًا لإعادة إنتاج نخب فاسدة. هذا النموذج يوازي المخاوف السورية: أن تتحول أموال “المحاسبة” إلى رافعة لبروز شبكات فساد جديدة.
  • الكويت بعد حرب الخليج (1991):
    فرضت الأمم المتحدة على العراق دفع تعويضات ضخمة (أكثر من 52 مليار دولار) للكويت نتيجة الغزو والتدمير. هنا طُبّق المبدأ البيئي–الاقتصادي بحذافيره: المعتدي دفع، والمتضرر تعوّض. الفارق أن وجود إطار دولي واضح وملزم هو الذي جعل المبدأ ينجح، بينما تغيب مثل هذه الآليات في الحالة السورية.

ما بين مبدأ “من يلوّث يدفع” في البيئة، وتجارب الدول الخارجة من النزاعات، نجد أن العدالة لا تتحقق تلقائيًا بمجرد جمع الأموال أو مصادرة أصول الفاسدين.

من دون ذلك، ستبقى سوريا عالقة في نسخة مشوهة من المبدأ: “من يسرق يدفع… ليكسب أكثر”، بدل أن يكون الدفع وسيلة حقيقية لإنصاف الضحايا وإعادة بناء الوطن على أسس العدالة لا الاستثمار وحده.

:

زر الذهاب إلى الأعلى