تاريخ العرب

( كتاب تاريخ) غزة لعارف العارف: حكاية 50 قرناً من حوادث التاريخ وتعاقب الغزاة والفاتحين

د. فطيم دناور

لم يتوقع مؤلف “تاريخ غزة، “أن توحِّد هذه المدينة العالم إعلامياً وسياسياً وإنسانياً، إنّما كانت أمنيته -كغيره من أبناء ذلك الجيل “الوحدة العربية والاستقلال” أمنية بدأت إشراقاتها تطلّ عليه من وراء السحب.

عارف العارف ابن مدينة القدس (1892م)، الذي تلقّى تعليمه من مصادر عربية وتركية، ثم روسية وألمانية، وتعددت ميادين إنتاجه، بين الصحافة والتأليف والترجمة، قذفت به الحرب العالمية الأولى التي خاضها مع الأتراك إلى “سيبيريا” منفيّاً، ما أتاح له تعلّم اللغتين الروسية والألمانية وإتقانهما. وبعد رحلة فرار شاقّة، رجع إلى مسقط رأسه سنة 1919م، لينخرط في النضال السياسي، ضد الاحتلال البريطاني- اليهودي، فترأّس المجلات، وقاد التّجمعات، وانضم للجمعيات، إضافة إلى تقلّده مناصب رفيعة في الأردن وفلسطين، إذ كان يشغل منصب (قائمقام غزة)، في الفترة التي ألّف بها كتابنا هذا.

 وممّا يميّز كتاباته التاريخية أن جلّها جاء نتيجة مشاهداته الذّاتية، وأنّها اتّسمت بالموضوعية، وتحرّي الدقة. والمتصفح لعناوين كتبه يلحظ أنّها دارت حول مدن فلسطين من جهة، والأحداث السياسية التي عصفت بها في القرن العشرين من جهة ثانية، بحيث كانت القدس ومسجدها بؤرة إنتاجه التاريخي؛ وهو ما أهّله للقب “شيخ المؤرّخين الفلسطينيين” أو “عميدهم”.

وأمّا كتابنا “تاريخ غزة” فقد أراد به الكاتب – كما صرّح في المقدمة – نقل ما عرفه، وعايشه في غزة من المبادئ الأخلاقية، والفوارق الاجتماعية، والعوامل الاقتصادية، والحوادث التاريخية إلى أبناء قومه، في باقي أرجاء الوطن العربي، حتى ينقل لهم تاريخ تلك البقعة نقلاً حيّاً شاملاً، داعياً إياهم، ليحذوا حذوه، فيكتبوا عن مدنهم ومناطقهم.

ويمكن أن نفترض الفتح الإسلامي حدّاً فاصلاً، بين مرحلتين أساسيتين في تاريخها، فتكون الأولى: ما قبل الفتوحات الإسلامية، والثانية ما بعده.

قبل الفتح الإسلامي

 بروح الباحث المستقصي للحقائق يرجع العارف قيام غزة إلى عصور سحيقة قبل الميلاد، فهي “ليست بنت قرن من القرون، أو وليدة عصر من العصور، إنّما هي بنت الأجيال المنصرمة كلّها، ورفيقة العصور الفائتة جميعها، من اليوم الذي سطّر فيه التاريخ صحائفه الأولى إلى يومنا هذا”. أما اسمها فقد تبدّل، وتغيّر، بحسب الأمم التي (صارعتها)، وتوالت على غزوها وحكمها، فهي “غزة” و”غزة هاشم” و”غزاتو”… ولهذا الاسم تفسيرات عدة تكاد تجتمع على معنى المَنعة والقوّة والثروة.

في تلك العصور المتناهية في القدم أمّها (المعينيون) القادمون من اليمن للتجارة، قبل أن تتوزّع قوافلهم بين مصر والشام، ثم توالت عليها هجرات القبائل العربية من الجنوب، والشرق والشمال. وتشير كتابات، وآثار قديمة ترجع إلى العصر البرونزي “4000 ق م” إلى قيام حضارة كاملة فيها في تلك الحقب ببنائها، وزراعتها وديانتها وعلاقاتها، وقد مكّنها موقعها الجغرافي، من لعب دورٍ بارزٍ في الحضارات المتعاقبة، إذ “كانت غزة – ولا تزال – حلقة اتصال مباشر بين مصر والشام، إنها ذات قيمةٍ حربيّةٍ في نظر الجيوش التي تعبر الصحراء، ولطالما اعتبرت في التاريخين القديم والحديث (المخفر الأمامي لمصر والشام)”؛ ولهذا كانت موضع اهتمام الملوك، والسلاطين والغزاة والفاتحين الذين اعتلوا عرش النيل، من أيام الفراعنة إلى يومنا هذا.

 ولعل المصريين أهمّ عنصرٍ استوطنها على مر الأحقاب، وكانت على جانب عظيم من الأهمية عندهم، ثم برزت كمدينة رئيسة مزدهرة في عهد الملوك الرعاة (الهكسوس)، إلى أن فتحها الفلسطينيون، قبل إبراهيم عليه السلام، واتّخذوا منها حصناً جنوبياً منيعاً، بوجه هجمات المصريين، وتبين أخبار (شمشون الجبار) الواردة في العهد القديم أنّها كانت موضع صدام الخصمين: الفلسطينيين واليهود، حتى استولى عليها النبيّ سليمان عليه السلام، أواخر الألف الأولى قبل الميلاد، وبقيت بين شدّ وجذب بين الطرفين، إلى أن استولى عليها الملك الكلداني “بختنصر”، وأخضعها لسلطته كباقي مدن فلسطين،

ثم توالى على حكمها الآشوريون والبابليون، والفرس، قبل أن يسيطر عليها اليونان، فغدت إبّان عهدهم أعظم مدينة سورية، حتى وصفها مؤرخوهم بـ” المدينة العظيمة”، لأهميتها التجارية والزراعية، وباتتْ مصدر إشعاع للثقافة اليونانية، يقصدها طلاب العلم من أثينا، ومدن سورية العراق؛ ولهذا يمكن اعتباره العهد اليوناني “الذهبي لغزة”، واستمرت ثقافتها يونانية، طيلة الحكم الإمبراطوري الروماني. ولكن أصابها ما أصاب باقي مدن فلسطين من فظائع الحروب التي تدور بين الرومان والثائرين على حكمهم يهود أو مسيحيين، لكنها حظيت بعهد الإمبراطور (أوريليوس هادريانوس)، بنقش اسمها على أحد وجهي العملة، وبتاريخ عرف في ما بعد ب “التاريخ الغزيّ”. كما اشتهرت في هذا العهد بمدرسةٍ للخطابة ذاع صيتها في سائر بلاد المشرق. أما عن الديانة، فقد استمرت فيها الوثنية بعباداتها وطقوسها، وعدائها للمسيحية، حتى أواخر القرن الرابع الميلادي، إذ اعتنق غالبية سكانها المسيحية، وعادت إلى سابق عهدها بالازدهار الثقافي والعمراني والتجاري، ولكن بحلة كنسية مسيحية.

بعد الفتح الإسلامي

 يرجع عهد غزة بالعرب إلى (المعينيين والسبئيين) الذين أسّسوها، منذ ما يقارب (3750 ق.م) ونظراً لكونها باب الصحراء، ونقطة اتصال شبه جزيرة العرب، بحوض البحر الأبيض المتوسط، كانت الهدف لرحلة أحفادهم الصيفية إلى الشام، يؤكد ذلك قبر هاشم بن عبد مناف جدّ الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيها؛ ولذا سميت (غزة هاشم). ويؤكد العارف أن النبيّ عليه الصلاة والسلام هبط غزة، قبل الإسلام في تجارته إلى الشام، كما هبطها جده، وأبوه، وعمه أبو سفيان، وبعض أصحابه، فالفتح الإسلامي لم يعرّبها، إنّما عزز عروبتها.

 وكانت غزة أول مدينة فلسطينية فتحها المسلمون على يد عمرو بن العاص (634م)، وأنشؤوا فيها مركزاً لمراقبة السواحل، واستوطنها عدد كبير من رجالاتهم وأسرهم التي وفدت مع الفاتحين، فنبغ فيها عدد كبير من أهلها في الأدب، والشعر والفقه والفلسفة، حتى باتت بعد فترة قصيرة – كباقي الشام – عربية بعمّالها ولغتها ونقودها، وكلّ شؤونها، ومن أشهر من وُلد وتوفي فيها الإمام (الشافعي) أحد الأئمة الأربعة في الإسلام، ولكنْ مع ضعف الدولة العباسية، واستقلال أمراء المناطق بالحكم، توالى على حكمها أمراء الدول المتتابعة من طولونية، وإخشيدية وفاطمية وسلجوقية، وكانت كغيرها نهباً للجيوش المتحاربة بين مصر والشام، حتى دخلها الصليبيون، ووطّدوا أقدامهم فيها (1100م)، وأعادوا بناء قلعتها المتهدمة، وألحقوها بعسقلان، وزارها في هذه الحقبة الكثير من الحجاج والسائحين، فكتبوا عنها في مذكراتهم.

وبعد انتصار الأمير صلاح الدين على الصليبيين في حطين (1187م) خضعت كباقي فلسطين للأيوبيين، ولكن بعد وفاته تنقلت بين أيدي الأمراء المتنازعين على الحكم، فعانت ويلات الحروب ودمارها. وحين آلت إلى المماليك في مصر سنة (1250م)، تولوا الدفاع عنها، ضد التتار، فحررها الأمير ركن الدين بيبرس، وقد نزل فيها مراراً، إن في حرب، وإن في قنص، واهتم بمساجدها وتنميتها.

غزة حكومة مستقلة

وفي عهد الملك قلاوون (1293م) أضحت غزة حكومةً مستقلةً، بعد أن كانت قرية من أعمال الرّملة، لكنها عانت في هذه الفترة أيضاً من انتقال الحكم، وتغير القادة، وغارات القبائل من الصحراء، إضافة إلى معاناة سكانها من ضرائب تُجبى، لتغطية نفقات الحروب، أو لبناء المساجد والمباني الفخمة. لكن اللافت أنّها في هذه الفترة كانت من أهم مراكز البريد، يُوزع البريد من أبراجها إلى مختلف الأصقاع. وكانت عملتها الدّرهم، وقياس الأثقال بالرطل، والقماش بالذراع، والأرض بالفدان الإسلامي أو الرومي،

وظلت على هذه الحال حتى دخلها السلطان سليم العثماني غزواً عام (1501م)، ثمّ مرّ بها في رحلة العودة بعد غزوه لمصر، فعانى سكانها من جنده الترويع والقتل والنهب والسبي، وقطع الشجر في رحلتي الذهاب والإياب، وظلت مهملة، طيلة فترة السلاطين العثمانيين، فانتشر فيها الفساد، وكثرت الضرائب والمكوس، وتولى حكمها في هذا العهد آل رضوان (1501م) وتوارثوه بينهم. وفي القرن الثامن عشر تعرضت لاجتياح الفرنسيين على يد نابليون الذي مر بها في طريقه إلى عكا، وفي عودته منها خاسراً مهزوماً، ذكر ذلك في مذكراته، ثم عادت لسلطة العثمانيين. وهكذا كانت غزة، كغيرها من البلاد لا تنجو من محتل، حتى يبطش بها آخر.

وظلّ هذا حالها، إلى أن يئست الجماهير العربية من الإصلاح، ونمت بينهم رغبة بالتخلص من الحكم العثماني، بالتزامن مع سعي الإنكليز لاحتلال مصر والشام، فخاض الإنكليز معارك مع العثمانيين انتهت بسيطرة الإنكليز على غزة وباقي فلسطين، وغدت المدينة خراباً، بعد أن هجرها أهلها، وانتشروا في المدن والقرى المجاورة، ثم عادت واستردت عافيتها تحت الانتداب، وهي الفترة التي كتب فيها المؤلف هذا الكتاب، وتحدث عن مناطقها وأحيائها وبساتينها، ومواشيها، وأسواقها، ومساجدها، وقصورها، ومدارسها، ومصانعها، وشاطئها، وطبائع سكانها، وأزيائهم، وأعيادها، ومصادر دخل الأفراد، والمستوطنات اليهودية فيها، وأرفق إحصائيات دقيقة لكل ذلك.

تلك حكاية “غزة” التي سردها الكاتب ب 367 صفحة، غطى تاريخاً يربو على خمسين قرناً من الزمن. وشملت دراسته غزة المدينة، وما يحيط بها من قرى ومناطق ارتبطت بها تاريخيّاً وجغرافيّاً، بل اتسعت التغطية في كثير من الفترات، حتى شملت إقليمي سورية ومصر.

وبما أن المادة تاريخية، فمن الطبيعي أن تترابط الأحداث، وتتداخل الحدود الفاصلة بين قيام الكيانات وتبدلها؛ ولهذا عمل الكاتب في نهاية كل مرحلة تاريخية إلى الحديث عن بداية المرحلة التالية، قبل أن يخصص لها فصلاً مستقلاً، بحيث يشدّ رباط المراحل المتتالية، ويوثق عراها، فينعكس ذلك على انطباع القارئ بترابط الأفكار. أما طريقته في عرض المادة، فهو يورد الآراء المختلفة، دون تدخل، ثم يختم كل إشكالية برأيه مشيراً إليه إشارة واضحة بالقول: “وعندي أن ….”. وقد دعم كتابه بصور توضيحية وإحصاءات عددية دقيقة.

وتنتمي لغة الكتاب إلى تلك المرحلة من التأليف العربي (منتصف القرن العشرين)، مرحلة تجمع بين جزالة القديم ورشاقة الحديث، فعلى سبيل المثال لا الحصر، حين يورد أقوالاً شائعة لمجهولين يستخدم عبارة: “وعلى قول أن…” كما استخدم التاريخ الهجري تارة، والتاريخ الميلادي تارة أخرى. أما المصطلحات اللغوية، فتحمل أثر تلك الحقبة أيضاً، من ذلك استعمال التسميات الإدارية آنئذٍ، ومنها استعمال كلمة (العربان)، للدلالة على البدو.

ووثّق المؤلف معلوماته من مصادر ثلاثة: الأول الرُّقم والآثار، والثاني أمهات كتب التاريخ العربية، والتركية والإنكليزية والفرنسية، إضافة إلى ما اقتبسه من مذكرات السائحين، وما ورد من أخبار العهد القديم التي تحدثت عن غزة، وأما المصدر الثالث، فكان الإحصاءات الكمية التي حصل عليها من مقامية غزة، وما حولها من أقضية، وهي إحصاءات في غاية الدقة والتفصيل.

وأرجع المؤلف أهمية غزة في جميع مراحل التاريخ لموقعها الجغرافي الواصل، بين الشام ومصر والجزيرة، وهي الآن تمثل خاصرة الوطن العربي، فهل يمكن لوطن أن يولد من الخاصرة!؟

____________________

صدرت الطبعة الأولى من كتاب “تاريخ غزة” في القدس: عن مطبعة دار الأيتام الإسلامية عام 1943. وأعيد نشره منذ ذلك الوقت في طبعات عدة

من مقالات العدد الخامس من صحيفة (العربي القديم) تشرين الثاني/ نوفمبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى