غوتة في إدلب
خير الدين عبيد*
اليوم ٣-٢-٢٠٢٤ السَّاعة الثَّالثة ظهراً دخلتُ بيت السيّدة غودرون تيسين شنايدر.
لقد قرّرتُ أن أكتبَ هنا مقدّمةَ الكتاب أو (الكتالوج)، فهي التي اقترحت عليَّ فكرة الكتابة عن لوحاتي ومنحوتاتي، بعد تقاعدها من إدارة صالة الفن “الكونستفاآين”.
جلستُ في الصَّالون قبالة المكتبة الضخمة، كانت رائحةُ الكتب، دفئها، قِدَمُها، صمتُها، رصانتُها، تآخيها، صبرُها، واحدة.
ومصيرها، واحد!
خيَّرتني بين ثلاثة أنواع من الشَّاي، اخترتُ شاياً بالياسمين.
عندما أحضرتِ الشَّايَ السّاخن، فوجئَتْ بتمثال غوتة الرّخامي أمامي على الطّاولة، نظرَتْ إلى الخزانة.. وجدَتْ مكانَهُ فارغاً، مسحَتْ عنه الغبار، وأعادته.
قلتُ لنفسي: ماذا فعلتِ ياغودرون؟ هممتُ بشرح فكرتي، رغمَ ضعفي باللغة، لكنّني صمتُّ، خمَّنتُ أنّها ستعرف أنّ هناك سبباً دفعني؛ لتغيير مكانه.
هلْ أحسَّتْ أنّه فَقَدَ وطنَهُ؛ بابتعاده عن رفِّ المكتبة، أَمْ أحسّتْ بالكتب “وقد تململت”؛ لفقدها مادَّة وجودها.
كانت فكرتي، عندما وضعتُ تمثاله الرّخامي أمامي، أن نتحدَّث وجهاً لوجه ككاتبين، كصديقين، كرجلين، لا فرق.
بلغة الإيحاء، المشاعر، الرّخام، لا فرق.
أمّا وقد تمَّ إرجاعه إلى مكانه، متحصّناً بالكتب، ناظراً إلى زاوية أخرى، فقد قرّرتُ أن أتحصَّن بقلمي.
بجانبي.. رأيتُ لوحةً صغيرةً لي، اقتنَتْها غودرون من أحد معارضي، لوحة لمروج إدلب المزروعة بأشجار الزّيتون، للتراب الأحمر كالحنّاء، وللبيوت البيضاء المتناثرة في العمق كاللآلئ.
كفرصة أخيرة للالتقاء، أمسكتُها، ووضعتُها خلفه.
ها هو يقف في إدلب، يتأمّل زيتونَها، وها أنا أجلس في نوينهاوس، أتأمّلُ ذاتي.
العالمُ صغير جدّاً يا غوتة.
لكنْ .. ما هذا! لماذا تجري، أيُّ رخامٍ أنت، ومن ذاك الذي يظهر خلفَ الأشجار ويختفي؟
_غودرون تعالي، لقد ظهر الشّيطان مفيستوفيلس مرةً أخرى، إنّه يتخفَّى خلف أشجار الزّيتون.
لمْ تسمعني، ركضتُ خلف غوتة، كان معطفه طويلاً معيقاً، خلعَهُ ورماه.
كان مفيستوفيلس قد تغيَّر عبر السّنين، صار مرعباً، فتَّاكاً، سريعاً وخاطفاً، ما إن يمرّ بجانب شجرة، حتّى تحترق، وتصبح رماداً.
إنّه يُهدِّم البيوت بلحظة، يدور كزوبعة، مبتلعاً الصّبايا.. كلّ الصّبايا، والأطفال.. كلّ الأطفال، والرّجال.. كلّ الرّجال.
_غوتة. افعل شيئاً، ألم تقتله؟ ها هو ذا حيٌّ يا فاوست، لم يمت.
اختفى مفيستوفيلس، وقفنا، نظرنا في عيون بعضنا لاهثَين، قال:
_أنتَ تعرف تضاريس الأرض، هل يمكنك إحضار معطفي؟
عندما أحضرتُ له المعطف، كان جالساً تحت شجرة زيتون، مستنداً إلى جذعها، بين أصابعه حبّة زيتون خضراء، يعصرها.. فينقط الزّيت.
ناولتُه المعطف، أخرج رسالةً من جيبهِ، قال:
_إلى متى سيبقى هذا العالم مجنوناً؟ اسمعني.. مؤكّدٌ أنَّ حبيبتي لاتزال حيّة، الظّاهر أنّ كلَّ رسائلي لم تصلها، أعطِها رسالتي الأخيرة، اسمها مُنارٌ بالزّيت.
ثمّ وضع إصبعَهُ فوق اسم “شارلوت”.
حضَرَتْ غودرون حاملةً صحن شوكولا، قالت:
_هل ماتزال تكتب؟
نظرتُ. كان غوتة الرّخامي واقفاً على رفّ المكتبة، مرتدياً معطفَهُ السّميك الطويل، ويداه خلف ظهره، ومن خلفه لوحتي، حقول الزّيتون، التراب الأحمر كالحنّاء، والبيوت البيضاء اللامعة في العمق كاللآلئ.
وضعت يدي على جبيني حائراً، سمعتُ صوتاً أنثويَّاً حلواً شجيَّاً يناديني من المدى البعيد! تلفَّتُّ حولي، شممتُ رائحةً عطرة، نظرتُ إلى الورقة التي أكتبُ عليها… كانت مبلَّلةً بالزَّيت!
* قاص وفنان تشكيلي
__________________________________________
من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024