في بلاد تحترق بالكراهية… من يُشعل النار؟ وكيف نُطفئها؟
دعونا نسأل أنفسنا هل حرية التعبير حقيقية إذا كانت تنبت في غابة من الكراهية؟

محمود عارف – العربي القديم
في كل مرة أتصفح فيسبوك أسأل نفسي: هل ما نراه هناك هو انعكاس حقيقي لحياتنا نحن السوريون؟ أم مجرد مرآة مشوّهة تعكس كراهية وغضبنا واتهامات بطريقة تزيدها تعقيداً؟ ما الذي جعل كلماتنا تتحول إلى أسلحة تدمّر ما تبقى من ثقة بيننا؟ وكيف تحولت نقاشاتنا إلى معارك من الشتائم والتحريض في مجتمع مازالت تئن جراحه بعد سنوات الدم والفقد؟ هل هذا الواقع طبيعي؟ أم نتيجة تراكم عقود من الكوارث السياسية والأمراض الاجتماعية؟
خطاب الكراهية تحول إلى مرض يأكل عقول السوريين حين غاب الحوار، وأُخرس صوت العقل وحل محله صوت الفزع والغضب. لم يعد أحد يعرف بالضبط متى يتحول الكلام إلى تحريض؟ هل هناك من يراقب الحد الفاصل بين النقد المشروع والتحريض الذي يزرع الكراهية؟ في بلادنا، التي شهدت أشد الفترات قسوة في التاريخ، تجد هذا الخطاب سريع الانتشار كالنار في الهشيم، هل لأننا لا نملك أدوات للردع؟ أم لأن غياب العدالة والحوكمة والتشريعات جعل من الغضب وقود سريع لمن يريدون إشعال الفتنة؟
وما علاقة فيسبوك بكل هذا؟ هل هو بالفعل منصة محايدة تُظهر ما نكتبه كما تدّعي شركة ميتا؟ أم أنه جزء من المشكلة؟ أليست خوارزمياته التي تكافئ التفاعل، وأغلبه غضب وحقد، سبباً في تفاقم الانقسامات؟ ألم نتعلم من دروس ميانمار أن المنصات الرقمية ليست بريئة، وأنها أحياناً تصبح مرتعاً للتحريض على الإبادة الجماعية والاقتتال الطائفي؟ فهل نترك هذه المنصّة اليوم تتحكم في مزاجنا وتوجه أنظارنا نحو الكراهية؟
لماذا لا نحاول أن ننظّم اجتماعات نتحاور فيها وجهاً لوجه، في مقاهي أو ساحات عامة، بدلاً من أن نصرخ في زوايا افتراضية يشوبها الغموض ويغذيها المجهول؟ هل هو خوف من الصراحة؟ أم أننا فقدنا القدرة على الحوار؟ تقارير الحريات الرقمية تؤكد أن القمع والتخويف موجود، لكن هل الحل هو الصمت أو الانكفاء خلف الشاشات؟
أما الأثر، فهو واضح في كل مكان من مدننا، الأحياء التي كانت تتشارك القهوة وأغاني فيروز أصبحت الآن جزرًا متناحرة، إلى متى يمكننا أن الاستمرار في هذا الانقسام؟ وهل ندرك أن ما يُكتب في الفضاء الافتراضي لا يبقى هناك؟ هل تدركون أن هذا الخطاب هو الذي يُشعل الفتنة في الواقع، ويشحذ السكاكين ويغيّب العقول ويجعل الجميع ينسون أنهم شعب واحد؟ يتشاركون ذات المصير.
إذن ماذا نفعل؟ هل ننتظر أن تتدخل شركات التكنولوجيا ذاتها؟ أم هل نبدأ بوضع القوانين المحلية من خلال أطر واضحة تحمي حرية التعبير من جهة، وتحمي المجتمع من التحريض من جهة أخرى؟ تسعون بالمئة من المراسلات والتبليغات عبر فيسبوك هي عشوائية، بلا مراجعين يفهمون خصوصيات لهجاتنا وسياقاتنا هل سمعتم عن شركة ميتا التي باتت تستحوذ على فيسبوك وواتساب وانستغرام وكيف تكشف بين الحين والآخر عن حملات منظمة لتزييف الرأي العام؟ فلماذا لا نجبرها على الشفافية، ولماذا لا نجعل من هذه الشفافية آلية حقيقية للمساءلة؟
هل فكرنا يوما في بناء بدائل محلية؟ منصات سورية مستقلة، يمكن أن نفهم فيها عمق مجتمعنا وتعقيداته؟ منصات لا تحكمها خوارزميات تجرّنا نحو القاع، بل قواعد واضحة تحمي الحوار وتحارب التحريض. هل لدينا الجرأة على الابتعاد عن الاعتماد الكلي على منصات عالمية؟ والقناعة بأن ذلك ممكن وسط الأزمة التي نعيشها؟
وبعيدًا عن القوانين والمنصات، ألا نملك نحن كمجتمع القوة على التغيير؟ لماذا لا نبدأ بأنفسنا؟ نستطيع أن نتوقف عن التفاعل مع منشورات تحرض على الكراهية، حتى لو كانت تمس مشاعرنا؟ نبلّغ عن هذه المنشورات، وننظّف دوائرنا من صفحات تعزز العداوة؟ النقاش الهادئ داخل بيوتنا ومقاهينا هو بداية لمقاومة هذا المد من الفوضى، التوعية الرقمية يمكن أن تكون سلاحنا الحقيقي، وأن نعلن الحرب على الفهم الخاطئ بين الخبر والرأي، وعلى اللغة التي تخفي التحريض خلف نكات ساخرة.
بإمكاننا أن نستخدم فيسبوك بشكل استراتيجي، لا أن نهرب منه، أن نحوله إلى أداة توعية وحملات منظمة ضد خطاب الكراهية يمكننا تدريب محررين محليين على استخدام أدوات المنصة بطريقة فعالة وأن نطالب شركة ميتا بنشر بيانات واضحة حول جهودها في سوريا، ومتابعة مستمرة ليست فقط لإرضاء الرأي العام، بل لتقديم حساب حقيقي
في نهاية المطاف، إذا كان علينا أن نختار بين حرية التعبير وبين حماية المجتمع؟ دعونا نسأل أنفسنا هل حرية التعبير حقيقية إذا كانت تنبت في غابة من الكراهية؟ أم أن الحرية الحقيقية هي تلك التي تنمو في حقل من الاختلاف المحترم، حيث تحرسها قواعد عادلة توازن بين الحق في الكلام والحق في العيش بكرامة؟ يمكن أن يكون فيسبوك جزءًا من الحل إذا ضغطنا بذكاء، إذا التزمنا بالقانون الدقيق والمعايير الواضحة، وبالمسؤولية الجماعية؟
حرية التعبير حق راسخ وجوهر أساسي وركيزة ضرورية لأي مجتمع صحي يريد أن يبقى حيّا والسوريون منذ الاستقلال شغوفون بالكلمة وحريصون على إبداء الرأي حتى في أحلك الظروف. من بائع الخضار في السوق إلى الموظف العادي إلى الطالب والصحفي، الكل لديه رأي يصر على قوله، أحيانًا حتى على طوابير الأفران تجد مواطنا ينتقد ويبدي رأيه بحدث ما قبل أن يشتري خبزه. لكن إذا كانت هذه الحرية تُستخدم في المنصّات لتحطيم هذا المجتمع من الداخل؟ كيف نواجه قوة تكنولوجيا المعلومات التي أصبحت أداة للهيمنة والتلاعب؟ هل نبقى مجرد متلقين سلبيين، أم ننتفض ونطالب بقوانين لحرية تعبير مسؤولة، تحترم الكرامة الإنسانية؟
الاختيار بين الفوضى المنظمة وبين النظام الذي يحمي حق الجميع في الاختلاف هو خيارنا جميعاً اليوم، لا غداً.