أرشيف المجلة الشهرية

إدلب والغرينتا السورية

بقلم: همام البني

الحديث عن السوريين الذين تعرفوا على بعضهم لأول مرة، بعد ثورتهم لا يخلو من الحقيقة، البلاد ومنذ الاستقلال عن الفرنسي لم تكن أكثر من كانتونات، داخل كانتون كبير، جزر ساهم بانعزالها وعزلتها إشكاليات أزلية، تم السكوت عنها لعقود، منها الطائفي، الإثني القومي وأكثرها خطراً الخوف التاريخي من الآخر.

 في منطقتنا وبلادنا لم تجرِ مكاشفات صريحة، كتلك التي أسست الاتحاد الأوروبي بنسخته التي نشهدها اليوم، أو كمثل التي جرت في الولايات المتحدة، بعد حربها الأهلية ولحظات تأسيسها، أراد الجميع أن يبقى الصراع في منطقتنا باطنياً، والرماد جاهز دائماً؛ ليتحول إلى حرائق.

أذكر في أحد شوارع دمشق القديمة، عند مدخل بيت عنبر الشهير، أوقفني فريق من السياح الإنجليز، يسألونني عن كيفية الوصول إلى المدن الميتة The DEAD ،Cities أو باللفظ الآخر المدن المنسية THE Forgotten Cities، أجبتهم مع ابتسامة: “لقد سألتم الشخص المناسب، فالوصول إلى حماة ليس بتلك الصعوبة، عندما يجيبكم حمصي”، الغرابة تفهمهم للنكتة، واطلاعهم الواسع على الصراع التاريخي بين المدينتين الجارتين، وتأكيدهم أن حماة ليست من المدن الميتة التي قصدوها، بل تلك المدن تقع في إدلب، وشرحوا بإسهاب عن تاريخها الذي يعود لأواخر العصور القديمة، ومراحل الإمبراطورية البيزنطية، وأنها قد هجرت في القرن الثامن والعاشر الميلاديين، وأن تلك المدن تنتشر على مساحة كبيرة، ضمن مثلث ‏مرتفعات جبل سمعان- جبل الكرد، ومرتفعات حارم، وجبل الزاوية. ‏ وكانت تاريخياً المنطقة التي احتضنت أغلب المستضعفين، حتى الوثنيين منهم، الهاربين من بطش أباطرة الشر حينها، ثم كيف تغيرت الطرق التجارية القديمة، بعد نشوء مدن، ومواقع جديدة ازدهرت في ‏العصر الأموي، بعدها تم نسيان تلك المدن، وانتهت اقتصادياً وعمرانياً بشكل تدريجي.

المحرج لي، وأنا في سنتي الجامعية الأولى، أن معرفتي ومعلوماتي الأوسع عن المركز الرئيس لتلك المدن المنسية هو نادي أمية الرياضي، النادي الفقير الذي تخشى كل أندية سوريا مواجهته في ملعبه بإدلب، ومن القصص التي تُروى في الوسط الرياضي غضب المدير الفني البرازيلي الذي درّب فريقنا الحمصي، عندما عاد خاسراً من إدلب، وتعليقه بأن البرازيل لو واجهت أمية في إدلب ستخسر بكل تأكيد، شارحاً عن “الغارينتا” التي تملكها تلك المدينة، أعادت لذاكرته الروح الثائرة في ملاعب أميركا الجنوبية، خاصة في نهائي كأس العالم 1950 في البرازيل، حيث كان يلعب منتخبها مع الأورغواي في نهائي أسطوري، هناك حيث وصل رئيس اتحاد الأورغواي لكرة القدم، إلى مقر منتخب بلاده، وختم خطابه قائلاً:

“أمام 200 ألف متفرج، مهما حصل حتى إذا خسرنا بأقل من ثلاثة أهداف، فلقد قمنا بواجبنا”

ليهجم عليه قائد منتخب الأورغواي فاريلا Obdulio Varela، ويثبته على الحائط ويصرخ به:

“Cumplimos si somos campeones” أي: “نقوم بواجبنا إذا كنا أبطالاً”… وأضاف: “نحن في النهائي لم نصل إلى هنا بالصدفة، إذا كنتم تؤمنون بأنفسكم، وتؤمنون بالفوز سنفوز وسنسعد شعبنا”.

وبعد الدخول إلى الملعب، قام الحكم برمي العملة في الهواء، أمسكها فاريلا، وأعادها له قائلاً: “اسمح لي أيها الحكم، أعطيتهم حرية الاختيار، لهم الحق في اختيار الملعب والكرة، سنفوز على أي حال!”.

وفاريلا الذي رفع الكأس العالمية يومها عامل بناء، وناشط نقابي، ولاعب كرة قدم من بينارول، هو أول من نظّم إضراباً للاعبين، وكان الإضراب الأطول في كرة القدم العالمية، أما الغرينتا، فهي مصطلح مأخوذ من كلمة إيطالية (Grinta)،

بمعنى المثابرة أو الروح القتالية، والعمل دون تراخٍ؛ من أجل الوصول إلى الهدف، وغالباً ما يكون وصفاً للاعبين ذوي الطابع الرجولي، وقوة الشخصية. لا غرابة أن المدرب إسبينوزا في إدلب تذكر تاريخاً رياضياً مفعماً بالأحداث غير المتوقعة، أحداث من تلك التي تتحول إلى قصص تُروى لأجيال عدة، تشعر، حين سماعها أن الهزيمة ليست واقعاً لا بديل عنه، فهناك من يغير مسار التاريخ فقط بشجاعته وروحه الكبيرة.

يرى هيغل في عمله الأكثر شهرة “ظواهر الروح”، فكرة مشابهة لغرينتا الرياضة؛ بأن العملية التاريخية هي عملية” الروح المطلقة “التي تحقق نفسها عن طريق الوعي والتغيير الجماعي للإنسانية، هيغل في “الروح المطلقة” يشرح فلسفته في التاريخ، وكيفية تقدم الروح القوية، عبر مراحل مختلفة من فهم الذات وتحقيق غاياتها.

تبدو غرينتا الطليان، والروح المطلقة التي وصفها هيغل تحلق في إدلب، الثائرة للجميع وعلى الجميع، المدينة التي تشبه أهلها، بروحهم المتمردة، وتاريخهم الذي حاول كثيرون نسفه، برجالها ونسائها، مجتمعها المدني وتُجارها، كلهم كانوا الغرينتا السورية، وروحها التي وسعت الجميع.

__________________________________________

من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024

زر الذهاب إلى الأعلى