هزيمة المعقولية التاريخية
بقلم: أحمد برقاوي
لم تنهزم المعقولية التاريخية البشرية منذ بداية التاريخ الإنساني وحتى هذه اللحظة كما هو حال هزيمتها في واقعة وجود «إسرائيل» في فلسطين. وستكون أحد الأمثلة النادرة في تاريخ البشرية على الشذوذ التاريخي واللامعقولية في التاريخ. وستدرس – أي هذه اللامعقولية – كما يدرس الطب حال مولود بثلاثة رؤوس بوصفها حالة شاذة.
ما زلت أذكر نقاشي مع مشــرفي العــلمي في الاتحاد السوفياتي انتاولي الكسندروفيش فيدوسييف وكنا نركب القطار معاً متوجهين إلى البحر الأسود. لقد شرحت له تاريخ قضية فلسطين وكان يســتمع بدهـشة، لكن الرجل كاد يفقد صوابه وسألني: أحمد.. ماذا تقول؟ ألا يمكن للعـرب أن يهجموا بليلة واحدة على إسرائيـل ويزيلوها من الوجود؟ كان فيدوسيـيف فيلسوفاً مشهوراً متخصصاً بالفلسفة السياسية بالأصل وبالفلسفة الغربية المعاصرة. ترى ما الذي حمل هذا الفيلسوف على التفكير بهذه الطريقة؟ ببساطة لا معقولية وجود إسرائيل.
بل ولأول مرة ينتصر فيها ما بعد اللامعقول في تاريخ البشر، مجموعة عنصرية أصولية أيديولوجية لا يتجاوز عددها ستة ملايين نسمة يعجز أربعة مئة مليون على إزالتها، حتى لو انتصر العالم لها.
زارنا مرة، في مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة دمشق وفد من مركز دراسات تركي، وكان على رأس هذا الوفد ضابط متقاعد. فرأى مدير المركز في جامعة دمشق أن يظهر له جريمة اسرائيل المصطنعة في تدمير القنيطرة.
واتجهنا نحو القنيطرة المدمرة ورأى بأم عينه حالها، لكنه رأي أيضاً الجولان المحتل على امتداد البصر.
الجنرال التريكي لم يتأثر بمنظر القنيطرة المدمرة، لكنه ابتسم ابتسامة ساخرة وقال: لو إن هذه الأرض تركية محتلة لقمنا بتحريرها مهما كلفنا هذا التحرير من ثمن.
مال إلي مدير مركز الدراسات وقال لي: جئنا به ليتضامن معنا وإذا به يبهدلنا. وكان يومها الرئيس القائد، بطل التحرير وبطل التشرينين والقائد العام للجيش العربي السوري، ولأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكى الأمين حافظ الأسد حياً. طبعاً أنا أعرف الأسباب، ولكل يعرفها ولكنها أسباب هي الأخرى تخل بالعقل الذي يُفكر.
وعندي بأن مؤرخي القرن الخامس والعشرين أو السادس والعشرين سيشكون في وجود حالة تاريخية كهذه في الماضي. لأن هناك حدوداً للعقل بارتباط بالواقع، وهي التي تتعامل مع المعقول بوصفه ممكن الحدوث. واللامعقول بوصفه مستحيل الحدوث، فكيف له أن يصدق ما بعد اللامعقول الذي حدث.