أرشيف المجلة الشهرية

هناك أنا.. لست هنا أيها "العربي القديم"!

إيمان الجابر – العربي القديم

ثمة أيادٍ يهدينا إياها القدر، لتحررك من فكرة الانتظار، من فقدان الشغف في كل شيء، من تحقيق الذات والأحلام التي تجعلك تقهقه عالياً، كلما ترددت أمامك أو مرت في ذهنك، ثم تهطل دموعك بلا توقف، كمطر غاضب، يكاد أن يجرف ملامح وجهك، لتواجه نفسك بسؤال: من أنا، ولماذا أنا هنا؟!

أنت هنا، سجين الفكرة، (حرية سوريا، وما يسمى بالعودة إلى وطن حر).

 لا تفكر كثيراً، كل شيء سقط أمام الواقع شديد الوقاحة، وقد أغلقت عليك داخلك، وما عليك إلا الانتظار للغد.

أمي مازلت تتوقع مني لقاء جديداً في بيتها، يدوم أكثر من مجرد شهر كل سنتين أو أكثر، لقاءات مسروقة، تجمعنا في دول الجوار، ولشدة قربها من بلادك، تكاد تظن أن الهواء فيها، هو ذاته المحبوس هناك خلف الحدود، هكذا أراد الإنسان أن يجعل لكل شيء حدوداً، هذا الهواء الأردني كم يشبه هواء سوريا!

 الوعد الذي قطعته أمام نفسي، ألا أتخلى عما آمنت به، وخرجت مرغمة من بيتي لأجله، هو أصعب الوعود، لا أحد غيرك إلا أنت، يعرف ما معنى التخلي والاستسلام للضعف الإنساني، لتعود إلى هناك.

معركتك مع نفسك أبدية، لا منتصر فيها، ولا خاسر غيرك، (أَنتَ الخَصمُ وَالحَكَمُ).

ويد تمتد نحوي كَيَدٍ. من خلال الموج مُدَّت لغريق.

في لحظة يأس شديد يأتيني صوت أعرفه قائلاً:

  • لا أريد أن يظهر العدد الأول من (العربي القديم)، ولا يكون اسمك فيه يا إيمان.
  • لم أعد أكتب في الفن، منذ بداية الثورة، عن ماذا أكتب؟
  • اكتبي عن أي شيء… نحن سنهتم بالتاريخ والذاكرة السورية!  
  • نسيت الكتابة منذ زمن طويل يا محمد، كل ما أنشره على موقع (فيسبوك) هو باللهجة السورية المحكية.

 زعيق ماكينات الخياطة، وتنافر الأصوات مع الآلات المختلفة التي يحتاجها صناعة معطف محشوّ بريش الإوز) باهظ الثمن، لتقوم هذه الأصوات بما يشبه الاغتصاب، والانتهاك لحقوق أذنيك بقسوة، حتى وهي محشوة بسدادات الآذان، تظن أنها تنبع من داخلك.

سأكلمك لاحقاً.

عن أي كتابة تتحدث يا محمد! أغلق سماعة الهاتف سريعاً، وأعود إلى مكاني خلف طاولة كبيرة، لأتابع عملي،

 أتلفت حولي، لقد سرقت دقائق قليلة جداً، هدرتها في حديث مقتضب مع الصحفي (محمد منصور) الذي كان منشغلاً في مثل هذه الأيام قبل عام بإطلاق العدد الأول من مشروعنا السوري المستقل (العربي القديم)، هذا الوقت للعمل المباع مسبقاً ليس لي، إنهم يحسبون عليك حتى النفس الفائض عن الحاجة.

تقتلني هذه الإضاءة البيضاء الصارخة، تجبر عيني على الاتساع والتحديق المؤلم لساعات طويلة، ترتيب قطع قماشية صغيرة وفق مجموعات، هو ما يشغل بالي لمدة ٨ ساعات يومياً، لا أفكر إلا كيف ستنتقل من يد ليد بلا أخطاء، تحملني مسؤولية تركيب قطعة في غير مكانها.

 بشر امتزجت أجسادهم بالآلات، كل شيء يبدو آلياً، حتى الكلمات القليلة، الموسيقا حرام، قد تشغلك عن مهامك، أو تذهب بك في لحظة شرود عابر إلى هناك.

وقت المنازلة مع الوقت للتخلص من ساعات العمل، الذي هو عمرك، لا ينتهي أثره إلا عندما تصل إلى سريرك لتنام، وتعود لتكرر اليوم الذي يليه نفسه بلا زيادة ولا نقصان، هكذا يمكن أن تتخلص من سنوات عمرك، وأنت في حالة انتظار.

وفي كل صباح أفكر ماذا يفعلون بالإوز الذي ينزعون ثيابه عنه، لينجزوا كل هذه الأعداد الهائلة من المعاطف، وفي اعتقادي أنها كافية لسكان الكرة الأرضية لو وزعت بالتساوي. يا لجشع الإنسان، لا حدود له! وأقول في سري لن ألبس هذا النوع من المعاطف أبداً.

اكتبي يا إيمان عن العمل التطوعي. 

(حاضر رح جرب) كتبت ومحوت، وأنا في المترو/الحافلة، هذا الوقت لي، لا أحد يدفع لي ثمنه، ساعة زمنية وأكثر، في كل ذهاب وإياب (العمل/البيت)، اعتذرت، تهربت ربما، لا أريد أن أكتب عن تجربة، لا يمكن المرور عليها بمقال واحد، بعد قليل كتبت المقال.

وهكذا في كل مرة أحاول الهرب، وأقول له المقال السابق كان مجرد صدفة، مازلت عاجزة عن الكتابة.

يجب أن تعودي إلى الكتابة يا إيمان!

يمر عام، ولا ينتهي الكلام، والعدد رقم (1) يصبح العدد (13). اكتبي لابد أن تكتبي، في داخلك كاتبة ناضجة، ولديها الكثير لا تقمعيها. وأنا أقول لنفسي، إنه يظن ذلك، وبعض الظن كثير من المحبة والاهتمام.

شكراً محمد منصور.

___________________________________

مقال الصفحة الأخيرة – العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024

زر الذهاب إلى الأعلى