قصتي مع الفن ومع فناني القصر الجمهوري: طلاب يرسمون أفضل من أساتذتهم.. وبعثيون يحتلون المقاعد (2من3)
أسعد فرزات – العربي القديم
أنهيت الحلقة الأولى من شهادتي على الفن التشكيلي في سوريا، بكارثة “علامات المظليين” التي أربكت الحياة الجامعية في ثمانينات القرن العشرين وأساءت لسمعة الجامعات السورية ومكانتها أيما إساءة، فكيف لشاب جاهل أو أرعن أو متأخر دراسياً ان يعفى من شرط العلامات في دخول الجامعة لمجرد أنه شبيبي تمكن من القفز في المظلة من طائرة؟
كانت سياسة نظام حافظ الأسد هي جعل الولاء الأعمى للنظام وللقائد (حافظ ورفعت أيضاً) رافعة كل صعود بالنسبة لشباب سوريا، وبوابة للعبور إلى مستقبل بلا موهبة وبلا جد وبلا دأب علمي، وقد حرص على جذب أبناء الطائفة إلى هذه البوابة بالدرجة الأولى، وإن كان قد فتحها أمام باقي السوريين لتعميم هذه الأمراض على الجميع وخلط الأوراق.
وبموجب دخول هؤلاء إلى الجامعة بشتى الكليات والاختصاصات مدعومين بعلامات القفز المظلي، باتوا يحصلون على منح وبعثات على حساب الدولة، وخاصة لدول المعسكر الشرقي أو أوروبا الشرقية، ضمن ما يسمى بمعاهدة التبادل الثقافي القائمة بين دول وأنصار هذا المعسكر على أساس أيديولوجي وسياسي طبعاً.. ثم يعودون للتدريس كأساتذة بكلية الفنون الجميلة دفعة واحدة.. والمفارقه أن الطلاب الذين يدخلون كلية الفنون، الموهوبون منهم، يرسمون أفضل بكثير من هؤلاء المظليين الذين يفترض أنهم أساتذة!
أيام فترة تخرجي من كلية الفنون جرني الفضول أن أذهب لقاعة السنة الأولى. شاهدت طالبا يرسم بشكل سيء جدا وليس لديه أصلا فكرة عن الظل والنور. بشكل طبيعي قلت له: أين الظل والنور يا رجل….؟ فارتبك وقال لي: “بالله يا أستاذ آفي حدا قلي جيب معك ظل ونور…” وبعد أن فهمت أنه شبيبي ومستثنى من الموهبة، قلت له مازحاً: “بوجهك ع البزورية.. جيب اوقية ظل واوقية نور… وخرجت.
لن تصدقوا… في اليوم التالي وجدت هذا المظلي ينتظرني أمام باب الكلية ليقول لي: “أستاذ. بالله ما خليت مكان بالبزورية وآفي… ما لقيت ظل ولا نور”!
بعد التخرج بفترة قدمنا أنا وصديق لي – أيضا متفوق باختصاصه – إلى مسابقة المعيدين. أمام باب الكلية التقى بنا وكيل الكلية آنذاك والمسؤول الحزبي بالفرقة الجامعية، وهو معروف بانتمائه وولائه للقائد والحزب أكثر من الأب القائد نفسه، واسمه “علي السرميني” وأصبح فيما بعد عميدا لكلية الفنون، هو الآن بديار الحق. قال: “شو عاملين هالايام” قلنا له: “والله قدمنا على مسابقة المعيدين” قال: “أنتم منتسبين للفرقه الحزبية؟” قلنا له: “لا والله”… قال: “معناه راسكم يابس.. بدي أسالكم سؤال وجاوبوني… شو لون المسبحه اللي بإيدي يا أسعد؟” قلت له: “سوداء”. فقال وهو يحدجني بنظرة مشككة: “لا حمرا”.. رددت بإصرار: “سوداء”، فابتسم بمكابرة وقال: “شايف كيف عنيد.” ووجه السؤال إلى صديقي وعندما تلقى الإجابة نفسها قال له: “عنيد متل رفيقك”… ثم ما كان منه إلا نادى على طالب كان ظله أينما ذهب، وكنا نطلق عليه في الكلية الخزمتجي… قال له: تعال يا فلان شو لون المسبحه اللي بإيدي؟ فرد بشكل بديهي “سودا دكتور” .. فقال له موبخاً: “حمرا يا حمار شو..؟” فقال مطأطئاً: “حمرا… حمرا أمرك دكتور…” ونظر إلينا قائلا: “شايفين اللي بيفهم”.
بهذه العقلية كان ينظر للطالب الموالي، والطالب الكفؤ، والطالب الذي يستحق أن يكون معيداً أو يرسل في بعثات خارجية…
طبعا أتكلم عن المظليين هم يعرفون أنفسهم… ولم يكن الأمر مجرد طرفة أو دعابة أو قصة تروى وحسب… بل كان سرقة لأعمار وأحلام جيل بأكمله… جيل أجد نفسي اليوم أميناً أن أروي عنه لكم، كل ما عاناه وعاشه وعاشته الموهبة والفن تحت وطأة البسطار العسكري والمظلة الهابطة من عنان السماء… وهنا أذكر أن من أهم المظليين والمظليات في تلك الفترة، إحداهن من اللواتي حصلن على رتبة عسكرية ووصلن إلى رتبة رائد من قبل رفعت الأسد، ويقال أنها ساهمت وقادت حملة نزع الحجاب عن رؤوس النساء في شوارع دمشق في أيلول الأسود عام 1981، ثم حصلت بعدها على منحة دراسية لإحدى دول أوروبا الشرقية، وعادت لتحمل دكتوراه في الفنون، تخفي وراءها تاريخاً مرعباً من الإعتداء على الحريات العامة وإهانة كرامة النساء… وعادت لتصبح مدرسة في كلية الفنون الجميلة بدمشق، ثم شغلت مناصب عدة آخرها وكيل الكلية للشؤون العلمية!
أيضا من أهم المدعومات اللواتي دخلن كلية الفنون بلا مسابقة ولا أي اختبار حقيقي (لا أتحدث عن الاختبارات الشكلية التي يجتازها المدعومون وهم يضحكون ويلعبون) وهذه ليست مظلية أو حزبية، هي فقط ابنة أهم قائد فرقة عسكرية، وأحد كبار مجرمي المخابرات في سوريا، هو العماد إبراهيم علي الصافي.. وهي شقيقة العقيد جودت إبراهيم الصافي، حيث حصلت على منحه دراسية في الخارج، وهي الآن مدرسة بكلية الفنون الجميلة.. وتلقب بالكلية باسم (بثينة علي) فقط. وهناك سوسن الزعبي التي أصبح شقيقها عمران الزعبي وزير إعلام، حصلت بفضل الدعم البعثي ومشوار أخيها المناضل على منحة للدراسة في روسيا بعد تخرجها من الكلية، وعادت عام ١٩٩١ لتحمل دكتوراه فلسفة في علوم الفن من جامعة ستروغونوف ـ موسكو… جميعهم سرقوا منح المتفوقين وفرصهم!
وصلت هيمنة البعث إلى نقابة الفنون الجميلة في منتصف السبعينات، حيث كان منصب النقيب وعدد من أعضاء المجلس من البعثيين الذين كانوا يفرضون فرضاً ضمن قائمة، من يرد اسمه فيها فهو ناجح سلفاً تسمى “قائمة الجبهة الوطنية التقدمية”… إلى أن أتى فاتح المدرس في بداية الثمانينتات بتشجيع وقتها من أغلب الفنانين الذي ألحوا عليه بأن يترشح مقابل النقيب الحزيي كمستقل وهذا ما حصل… فحصد أكثر الاصوات، وظهر مرشح حزب الجماهير والوحدة والحرية والإشتراكية بحجمه الحقيقي، واستطاع فاتح المدرس أن يحصل على منصب النقيب بدل النقيب الحزبي لكن كانت النتيجة أن تم تجميد النقابة من قبل القيادة والحزب خلال الفترة التي قضاها كنقيب حتى عام 1993.
ولقضية تجميد النقابة حكاية متداولة تُروى عن فاتح المدرس الكبير موهبة وقدراً، رواها الفنان الصديق موفق قات… ففي عام 1986 حضر إلى دمشق ستويان ستويانوف رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين البلغاريين، ومعه لوحة فنية كهدية ديبلوماسية من حكومته لحافظ الأسد. وتم تحديد موعد اللقاء في القصر الساعة الواحدة ظهراً، وحضر الفنان البلغاري وفاتح المدرس نقيب الفنانين في ذلك الوقت، وبعض أعضاء مجلس إدارة النقابة. انتظروا ربع ساعة، ثم نصف ساعة، ثم أكثر… وفجأة قام فاتح المدرس وقال: “أنا تأخرت ولازم روح عندي شغل”. وبالرغم من كل محاولات ثنيه عن الذهاب إلا أنه تحدى الجميع وغادر. قال لي ستويانوف: “حافظ لم يخسر شيء، بالنسبة له فاتح لاشيء، وكذلك الأمر بالنسبة لفاتح، لا يعنيه حافظ بشيء، ولكن النقابة التي يمثلها فاتح خسرت كل شيء”.
وفعلاً تهمشّت نقابة الفنون الجميلة لمدة ثلاثين عاماً، لا صندوق تقاعد، ولا صندوق وفاة، ولا صندوق طبابة أسوة بباقي النقابات.
في حلقة يوم غد سأتحدث عن تشكل ظاهرة فناني القصر الجمهوري، التي ولدت في الأساس من رحم ظاهرة المظليين وما تم منحه لهم من امتيازات وتسهيلات وعلامات إضافية في القبول الجامعي، والذين أصبحوا فيما بعد، أهم من فناني البعث الذي غدوا درجة ثانية وثالثة مقارنة بهم!
غداً: فنانو الامتيازات الكبرى وسبّوبة تماثيل حافظ الأسد الرديئة
تعليق واحد