حكمت الهجري: الشيخ متنوراً وتنويرياً وثائراً وقائداً
عندما نريد التحدّث عن شيخ الحكمة حكمت الهجري، نحاول أن نكون قد امتلكنا القدرة على مقاربة هذه الشخصية، من خلال استقصاء تاريخي واجتماعي، حتى نصل إلى الصواب الموضوعي، إذا صح التعبير.
وقبل أن أدخل في سبر أغوار شخصية الشيخ، أريد أن أتحدث عن المجتمع الدرزي المغلق المؤدلج، كما بقية النحل والملل، والمطلوب هنا أن نتعرّى بالمعنى الفكري، لكي يكون التناول موضوعياً، وسنبدأ بالمجتمع الدرزي الذي يتجمّع جنوب سورية في أكثره، ضمن منطقة تعرف بجبل العرب، أو جبل الدروز.
المذهب الدرزي… تاريخ وعقائد
تكوّن المذهب الدرزي تحت خيمة الدين الإسلامي، لكنه ابتعد عنه كثيراً، وبالكاد يلتقيان. وكان للدروز أدوار تاريخية، سنأتي على ذكر بعض بعضها، في سياق الحديث عن تاريخ عائلة الهجري، أو في الأمس القريب، حيث كان للدروز الدور الأكبر في الثورة السورية الكبرى، الأمر الذي شكّل عمقاً في الهوية، وأبعاداً ممتدة، حتى تصل الجذر العربي.
ولما كان تناول تاريخ العقيدة الدرزية يحتاج إلى مباحث عميقة وواسعة، رأيت أن أترك ذلك لعلماء التاريخ والاجتماع، والعلوم الأخرى المتآزرة، بالإضافة إلى أن مقال الرأي عادة، لا يسمح بحالة بحث طويل، وموسع وعميق.
وهذا مايجعلني أبدأ من لحظة ظهور المذهب، والذي يعود الى مرحلة تكوّن الدولة الفاطمية التي دخلت مصر سنة 973 ميلادية، والجدير بالذكر أن المذهب الدرزي قد انفتح بصورة كبيرة، على الفلسفة اليونانية التي أعطت قيمة كبرى للعقل، ومن هنا يأتي العداء العقائدي للمذهب، والذي أسند كل الوجود إلى العقل الاول.
العقّال والجهّال، والتقسيم المجتمعي
والعقل في المذهب الدرزي هو أول رتبة في الروحانيات، وهو الذي يدرك، عبر كشف حجاب الحس، وسأعتمد على هذا الجانب، دون الجوانب المتعددة الأخرى التي ولفت المذهب، راجية قدر المستطاع أن أجد سنداً فكرياً وتاريخياً لمشيخة العقل، حيث إن العقل هو الحد الأول، ويبدو أنه في ذلك الحين كان مقبولاً، على اعتباره طرحاً تنويرياً من باقي طروحات ذلك الزمان.
والدروز قسموا مجتمعهم إلى طبقتين: طبقة العقال، وطبقة الجهال.
أما طبقة العقال، فهم ملتزمو مبادئ الدين وسلوكياته ومحرماته، وهم قراء الحكمة، وأما الجهال فليس عليهم أي دعائم تكليفية، وأعتقد أن هذا التقسيم يقصد منه حجب ما هو ثمين عن العوام، وتقسيم المجتمع الدرزي إلى عقّال وجهّال ترك للمجتمع هامشاً من الحرية، جعل المجتمع الدرزي، في ما بعد يتقبّل العلمانية، لذلك عند الدروز الدين لله، لكن الدروز بصورة عامة يتعاملون مع المقدس، ضمن تنظيمهم المجتمعي والثقافي.
ولما كان العقل النقدي بناء، ويعيد إنتاج التنوير كان علينا أن نترك هذا الأمر، أي النقد للمختص في الفكر، والفلسفة والدين المقارن.
ملامح من سيرة الشيخ العلماني
وفي عودة إلى شيخ العقل الذي قال إننا مجتمع علماني. فلقد قصد فعلاً حرية المجتمع في اختيار ما يناسب الحياة الإنسانية للمواطن السوري، على أن يبقى دور الدين دوراً ثقافياً، وقد تأخذ هذه الثقافة صورة نظام اجتماعي، وليس شرطه الإيمان، وهنا يكمن الفرق بين المذهب الدرزي وباقي المذاهب.
والشيخ أراد أن يقول إن المجتمع لا يؤسس بالدين، وإنما بالسياسة والعلوم والمعرفة، والجغرافيا موجودة، والمطلوب دولة قوية مؤسساتية عمادها القانون، والعدالة والمساواة بين الجميع.
حكمت الهجري معروفي. والدروز عموماً يحبون لقب عشيرة بني معروف، والمعروفي قد يفسّر بأنه صاحب المعروف والفضل، إذ كان للدروز تاريخ في النضال، والدفاع عن الأمة العربية، وفي المجتمع وبعيداً عن الحروب كان لهم عادات وتقاليد أهمها الكرم والشهامة. ويذهب بعضهم الآخر إلى تفسير لقب بني معروف، على أن الدروز أصحاب المعرفة.
وقد ورث الهجري الحالي عن أجداده منصبه الديني، وكان لعائلته الكريمة مكانة دينية اتصفوا خلالها بالورع والتقوى، كما يراها الدين الدرزي، وكان لهم أدوار نضالية مشهودة ضد الاحتلال العثماني، والاستعمار الفرنسي،
وفي بداية الحراك السوري، أعود لأؤكد أن السويداء دخلت المعترك، ولم تترك قط الساحة النضالية. وهنا لا نسرد أقاويل، بل نؤكد بموثوقية هذا المسار.
وفي المقابل قامت السلطة المستبدة. بالتعامل مع موضوع السويداء، عبر أساليب العزل، ونشر الشائعة، وفبركة الدسيسة، بل ذهبت إلى ما بات معروفاً، من إنهاك المجتمع بالمخدرات، والعصابات والسلاح المنفلت، وما شابه.
وفي وقت مبكر لجأت إلى اغتيال شقيق الشيخ حكمت الهجري، لأنه أظهر مواقف لصالح الوطن، واعتقدت أنها نجحت في إخفاء جريمتها.
وتولى الشيخ حكمت الذي درس الحقوق في جامعة دمشق بين عامي 1985-1990، تولى الرئاسة الروحية لمشيخة العقل عام 2012، وكان في السابعة والأربعين من العمر، وكان الحراك في الشارع مستمراً، إما على شكل مظاهرات، أو اعتصامات صامتة مدنية، أو من خلال المنتديات التي اتخذت أسماء فنية، كي تخفي نضالها الفكري.
كل مرحلة حسب معطاياتها
ولم تترك السلطة أي طقس، إلا وتدخلت به، أو فيه بذراع أجهزة الأمن، وقد اُرتكبت بشاعات مشهودة. في كل مشهد كان الدروز يدفعون أثمان مواقفهم من السلطة، والتضليل بالشائعة والاتهامات، لكن لم يبقَ الجبل بكل حالاته، إلا منسجماً مع هويته الوطنية، ومتابعاً بدأب كل مرحلة حسب معطياتها، وكنا نثق أن الأصالة والتجذر والانتماء لابد أن يعبّر بوقت ما عن هويتنا الوطنية.
ولقد جالست الشيخ مع مجموعة من الحراكات المدنية، وكنت منذ ذلك الحين على يقين أنه مثقف، حتى مقام البعد الإنساني. وفعلاً هو رجل دين متموضع في المكان والزمان، كحامل لتراث الدروز عموماً، وتراث عائلته خصوصاً.
وشعرت أنه من الذكاء والحنكة التي ملكته الصبر والتأني، ليراقب التطورات على كل الأصعدة، منتظراً موازين القوى التي ستأتي في حين ما، لإظهار الموقف الوطني الأكثر رقياً في تعبيره، عن الهويات المعقدة والمركبة في سورية.
وعلى وقع حراك الشارع المتحضر تأتي مقاومة الشيخ، لتؤثر في الحراك إلى ما هو تجاوز، نحو المعيار والقيمة العامة ألا وهو الوطن.
هنا لم ينفصل الشيخ الهجري عن دينه، ولا عن وطنيته وثقافته، واستطاع التجاوب بصورة مختلفة مع الثورة السورية، ويبدو أن جملة ظروف اجتمعت لتكوّن هذه الفرادة من تنشئة تربوية، واستعدادات خاصة، مما جعله قوياً، في الانفتاح على مواقف حرة أصيلة، تعرف أن تختار، دون تقديس لمذهب، أو دين، أو فرد، أو حزب.
وظهر الشيخ فرداً أصيلاً، وطالب بحرية يصونها القانون، وظهر مثقفاً عابراً للعقائد، وناهضاً بالمجتمع، معيداً لإنتاج قيم المدنية والوطن. وظهر شيخ العقل العارف دينياً، شيخاً يملك معرفة كبيرة في صناعة مجتمع منفتح متصل ومتثاقف مع محيطه القريب والبعيد.
وهكذا أصبح الشيخ الهجري قادراً على مجافاة التطرف والإقصاء، ومنحازاً للوطن، واعتبار الوطن وحده المقدس والمعصوم، وتحت سقفه نتعايش ضمن منطق التعدد والتشارك.
وها هو يعلن مرة تلو الأخرى سلمية الحراك، وأولوية الوطن، فيبرز الشيخ قائداً لمرحلة التحرر والنهضة، والإيمان العميق بالوطن، وهذا تحول جذري في الفكر والتوجه، وفعل تغييري. فالانتقال من مشيخة مذهب إلى تبني قضية الوطن هو امتلاك لفكر هادم للانغلاق، يعتنق التقدم والانفتاح، عبر تأكيده أننا مجتمع علماني، وشعارنا: الدين لله والوطن للجميع.