التاريخ السوري

خديعة العصر: سوريا في قبضة الانقلاب البعثي

بقلم: د. عبد العزيز ديوب
ربّما اختلفت الآراء حول تعريف تلك الفترة الطويلة من الزمن، والتي أُتخمت قمعاً، وتنكيلاً ونهباً، في ظلّ شعارات تصحيح المسار، أي انقلاب حافظ الأسد الذي أسماه “الحركة التصحيحية”.
قام الأسد ببناء نظامه على تلك الكذبة التي تحوّلت إلى خديعة كبرى، بدليل أنها لاقت، ومازالت تلقى مؤيدين محلياً، وإقليمياً، وعالمياً، بغضّ النظر عن المصالح المتبادلة، مما يُضفي عليها هذه الصفة. ومن المؤكد بأن مفاعيل الزمن الطويل، وتراكماته قد ساهمت في تكريس هذه الخديعة التي تضرّجت بالدماء، وتكلّلت بالدموع.
لاشكّ بأن هذه الفترة قد طالت، ولكن ما يجري اليوم يشير بأنها إلى أفول، وهنا يتوجّب على النخب الثورية تناول أحداثها بكل ما فيها من تضليل، وفساد، وإجرام يفوق الخيال، عسى أن تشكل دروساً مستفادة حاضراً، ومستقبلاً، وخاصة للأجيال القادمة التي سيقع على كاهلها بناء دولة العدالة والمساواة، في ظلّ المواطنة، ضمن أطر ديمقراطية مدنية.
مرة أخرى أؤكد على أن مسيرة نصف قرن من معاناة الشعب السوري، وافتقاره إلى أدنى حقوق الإنسان، وحشره في قوقعة تضعه أمام خيارات محدودة، فإمّا أن يتعاون مع عصابة الإجرام، أو ينزوي، وإمّا الهجرة التي أضحت خياراً للكثيرين، من خيرة أبناء سوريا. نعم، لقد بدأت بكذبة، وتحوّلت إلى خديعة، وتُوّجت بمأساة، ولكنها سوف تنتهي بهزيمة هذه العصابة التي لم يشهد التاريخ مثيلاً لممارساتها الهمجية، وما اقترفته من عمليات تعذيب لا يطيقها بشر، حتى أصبح الموت حلماً في سجونها ومعتقلاتها. أناس يُحرَقون أحياء، نساء وأطفال يُغتَصبون أمام أعين ذويهم، حقول تُحرَق، وبيوت تُدمّر، وحيوانات منتجة تُقتل، وأراضٍ زراعية تُلوّث بالقصف، وأحياء تختنق من جرّاء استخدام الغازات السامة، كلّ هذا، وما خفي أعظم.


بداية لا بدّ من العودة قليلاً لمرحلة ما قبل العام 196٣، حيث تكوّنت نواة ديمقراطية سورية من خلال تكريس دستور عام 1950، بصفته شاملاً، ومستوفياً للفعاليات الاجتماعية كافة، بشتّى مفاصلها الحياتية سياسياً واقتصادياً، على الرغم من تدخّل الجيش في الحياة السياسية السورية، وقد تمثّل بانقلاب حسني الزعيم على الشرعية البرلمانية، وتلته انقلابات أخرى كان آخرها انقلاب الشيشكلي، الذي استمر في الحكم من عام 1952 حتى عام 1954.
اتصفت تلك الانقلابات بأنها خلت من الدموية، والانتقامية والتوحّش، خلافاً لما جرى إثر انقلاب آذار عام 1963 الذي اتّصف بالدموية والطائفية، رغم شعارات الوحدة، والحرية، والاشتراكية التي رفعها. وعلى سبيل المثال اكتفت قيادة الانقلاب بإبعاد قادة الانقلاب السابق إلى السفارات السورية، من خلال تعيينهم كملحقين عسكريين فيها. هذا وقد اختتم الشيشكلي مرحلة حكمه، بصيغة وطنية توضحت بارتقائه إلى مستوى المسؤولية، حيث رفض سحق التمرّد الذي نشب في حلب، ولم يكن انقلاباً بمعنى الكلمة، نظراً لأن التمرد كان محدوداً عدّة وعدداً، بقيادة العقيد مصطفى حمدون البعثي، وقائد الكتيبة، والملازم أول محمد إبراهيم العلي معاونه، والبعثي أيضاً، حيث قاموا باحتلال إذاعة حلب، وأصدروا من خلالها البيان رقم 1، وأمام هذه الحالة، فقد كان باستطاعة الشيشكلي سحق تلك المحاولة، ولكنه رفض اتّباع السلوك الدموي، فتقدّم باستقالته للشعب، وغادر البلاد.

الوحدة تقضي على الحرية!

عادت الديمقراطية إلى المجتمع السوري في العام 1954 متجلية بانتخابات برلمانية، وانتخاب القوتلي رئيساً للجمهورية، ولكن تلك العودة لم تلاقِ ترحيباً من دول كثيرة، ومنها إسرائيل التي ترفض قيام ديمقراطية مزدهرة على حدودها، وهي التي تعتز أمام الغرب بديمقراطيتها الوحيدة في الشرق الأوسط، وتحديداً ضمن مجتمعات متخلفة تدّعي أنها تبغي رميها في البحر، مستندة على ما يُذاع في الإعلام المصري الديماغوجي وغيره، ولذلك جرى تشجيع بعض الضباط بشكل، أو بآخر على تحدي تلك الديمقراطية الهشّة اعتماداً على ركوب موجة المدّ القومي الذي أجّج شعلته الرئيس عبدالناصر، وجاءت النتائج متوّجة بالوحدة مع مصر، ولكن بشروط إذعانية، أهمها حلّ الأحزاب السياسية في سوريا، وقد كانت تلك الخطوة التي قبِل بها السوريون بداية لمرحلة دكتاتورية، تبوأت الأجهزة الأمنية فيها سدّة الحكم، برئاسة عبد الحميد السرّاج الذي مارس الكثير من الأساليب القمعية والإجرامية في آن واحد!
كما صدرت، خلال مرحلة الوحدة التي دامت ثلاث سنوات ونيف مراسيم الإصلاح الزراعي التي أدّت إلى تفتيت الرقع الزراعية إلى مساحات صغيرة، ومبعثرة يصعب استخدام المكننة الزراعية فيها، خلافاً لما قبله، حيث أخذت الزراعة شكل الشركات الزراعية ذات المساحات الشاسعة، وعلى سبيل المثال شركة (أصفر ونجار) في الجزيرة السورية، حيث بلغت تقنياتها أنها استخدمت الطيران الزراعي والمرشّات العملاقة.
كما صدرت مراسيم التأميم لشركات ومعامل، دون الإحاطة بتداعياتها، من حيث الإدارات الجديدة التي تميزت بعدم أهليتها، مما أدى إلى تحقيق خسائر اقتصادية جمّة، نتيجة الفشل في إدارتها، وكانت تلك النتائج من أهم الأسباب، لقيام انقلاب عسكري في 28 أيلول من العام 1961 علماً أن الانقلابيين قد أتاحوا المجال للسياسيين للعودة إلى نشاطهم.

انقلاب البعث يؤسس للفساد والديكتاتورية

وفعلاً، فقد جرت انتخابات حرّة أفضت إلى برلمان انتخب الرئيس ناظم القدسي، وخلال تلك الفترة عادت الصحف والمجلات إلى الصدور، وكادت الحياة الديمقراطية أن تعود إلى عهدها، ولكن انقلاباً دموياً حدث، صبيحة الثامن من آذار من العام 1963 لينهي آخر محاولة، لقيام ديمقراطية في سوريا، ويفضي إلى تأسيس أبشع أشكال الدكتاتورية قمعاً وفساداً ودموية.
قاد الانقلاب مجموعة من الضباط الناصريين والبعثيين، وقد تمثل الناصريون بالفريق محمد الصوفي الذي تبوّأ منصب وزير الدفاع، واللواء راشد قطيني الذي أصبح رئيساً للأركان، وتمثل البعثيون بالعقيد محمد عمران، والمقدم صلاح جديد، والمقدم عبدالكريم الجندي، والرائد حافظ الأسد، وهؤلاء شكّلوا اللجنة العسكرية، خلال وجودهم في مصر، إبان الوحدة كضباط بعثيين مبعدين، والتحق بهم كل من العميد أمين الحافظ، والرائد سليم حاطوم، والنقيب محمد رباح الطويل وغيرهم .
كان الاتفاق بين هؤلاء الضباط ينص على القيام بانقلاب عسكري على حكم الانفصال، والعودة بسوريا إلى دولة الوحدة، ولكن ضباط اللجنة العسكرية نقضت الاتفاق، وظهر سلوكها واضحاً، من خلال المراوغة على ذلك، مما استفزّ الضباط الناصريين، ودفعهم للقيام بمحاولة انقلابية فاشلة في 18 تموز من العام 63 بقيادة العقيد جاسم علوان، وقد جرى إحباطها بشكل دموي، حيث تمّ إعدام عدد من الضباط ميدانياً، واعتقال بعضهم الآخر، ليصار إلى تسريح حوالي 2000 ضابط من خيرة الضباط المهنيين.

اختفاء حافظ في لندن

ولسدّ الفراغ جرى استدعاء عدد كبير من ضباط الاحتياط، وأغلبهم من المعلمين، مما أفقد الجيش توازنه القيادي، وأضعفه قتالياً، وهذا ما أفضى إلى نكسة 1967 إضافة إلى خيانة قائد سلاح الطيران حافظ الأسد، والتي لاحت بدايتها منذ الصف الثاني من العام 1963 وذلك بُعيد تسلّم اللجنة العسكرية تقاليد الحكم منفردة وإقصاء الناصريين، حيث أرسلت عام 1965 وفداً عسكرياً إلى بريطانيا، بهدف تنويع السلاح السوري، من خلال عقد صفقة شراء سلاح منها، وكان حافظ واحداً من أعضاء الوفد، وفي اليوم الثاني لوصوله فُقد لمدة ثلاثة أيام، دون الإبلاغ عن مكانه، ولدى عودته والتحاقه بالوفد تذرّع بأنه التقى مصادفة بواحد من أقربائه، والذي دعاه إلى منزله، ليقيم فيه تلك المدة التي غابها .
عاد الوفد إلى سوريا، حيث قدّم رئيسه تقريراً عن المهمة، ونوّه فيه إلى غياب حافظ، وعليه قامت اللجنة العسكرية بإيفاد أحد أعضائها من النسق الثاني إلى لندن، للتحقق من تلك الواقعة، وهناك التقى مع الملحق العسكري السوري في السفارة السورية، والذي بدوره قام بتحقيق عميق، توصّل من خلاله إلى أن حافظ قد كان على متن باخرة بريطانية، برفقة أدميرال البحر البريطاني نيلسون وزير استخبارات البحرية، مما يشير إلى ارتباطه، أو بالأحرى تجنيده لصالح المخابرات البريطانية.
عاد عضو اللجنة العسكرية إلى دمشق، وتقدّم بتقريره للجنة العسكرية، والتي بدأت بالتحقيق مع حافظ الذي احتجّ، ونفى نفياً قاطعاً علاقته بالبريطانيين، وعندما جُوبه بتقرير الملحق العسكري السوري بدأ بتهديد اللجنة بقصف دمشق بالطيران، وقد كان آنذاك مسؤولاً عن الآمرية الجوية، وعلى الفور دبّ الخوف في نفوس أعضاء اللجنة، وانتهى التحقيق بتقبيل الشوارب، واعتبار الأمر منتهياً، وكأن شيئاً لم يكن، فقد طُويت القضية لصالح حافظ .
اتّصف حافظ بشخصية مسالمة ووضيعة، فقد أوحى للجميع بأنه صديق وفي ووحيد، وحقيقة فقد كان أغلبية أعضاء اللجنة العسكرية والقيادة القطرية يعتقدون بأن حافظ صديق وفي لكل واحد منهم، في الوقت الذي كان فيه حافظ يخطط للانقضاض على منافسه الأول في اللجنة، وهو اللواء محمد عمران الذي يُعتبر مؤسس اللجنة، والأكثر شعبية بين الضباط العلويين، واستمر بالعمل الحثيث إلى أن تحقق مراده، بإبعاد عمران سفيراً إلى مدريد، هذا وقد قام حافظ شخصياً بقيادة السيارة التي أقلته إلى مطار دمشق، ومنه إلى إسبانيا.
أزمة ميشيل عفلق
في بداية العام 1964 كتب ميشيل عفلق الأمين العام للحزب مقالاً طويلاً في جريدة البعث بعنوان “حكم الحزب، أم حزب الحكم” توصّل في نهايته إلى الإجابة عن السؤال، بأن ما يجري في الواقع يؤكد بأن الحزب هو حزب الحكم، وبأن اللجنة العسكرية هي من تحكم سوريا، وعلى إثر ذلك انهالت التهديدات عليه، مما أجبره على مغادرة سوريا إلى لبنان، ليحلّ مكانه الأردني منيف الرزاز، ومن ثم إلى العراق، ليستقر فيها كأمين عام لحزب البعث العراقي، ولدى وفاته رفض حافظ دخول جثته إلى مسقط رأسه، كما رفض أيضاً دخول جثة أكرم الحوراني كمؤسس ثانٍ للحزب .

أمين الحافظ الضالة المنشودة

وجدت اللجنة العسكرية في العميد أمين الحافظ الذي التحق بها بُعيد انقلاب الثامن من آذار، بعد استدعائه من الأرجنتين حيث كان يعمل ملحق عسكريا في السفارة السورية، وجدت فيه ضالتها، فهو أعلى رتبة عسكرية، ومن حلب، ويتصف بالبساطة والشهامة، وعليه أسندت إليه وزارة الداخلية كنائب للحاكم العرفي، وعلى إثر فشل محاولة انقلاب تموز تمّ ترشيح الحافظ، لرئاسة مجلس الرئاسة “الجمهورية” علماً أنه رفضها في البداية مؤكداً على أنه رجل عسكري، وبعيد عن السياسة، ولكنه التزم أخيراً بقرار القيادة القومية.
في نهاية العام 1964 صدر مرسوم بترفيع بعض الضباط ترفيعاً استثنائياً إلى رتبة لواء، وهم صلاح جديد، وحافظ الأسد، وحمد عبيد، وسويداني الذي تسلّم رئاسة الأركان، وعبيد وزارة الدفاع، وذلك تمهيداً للقيام بانقلاب 23 شباط 1966 الذي كانت أولى قراراته تعيين حافظ الأسد وزيرا للدفاع، وقد أدرك الضباط الموالون للرئيس لأمين حافظ بأن جديد والأسد يعملون على ذلك الانقلاب، وأعلموا الحافظ بذلك، ولكنه رفض التحقيق معهما ومع الموالين إليهما، باعتبارهم “رفاقاً بعثيين”، كما كان يقول، وباعتباره رفيقهم وقائدهم عسكرياً وسياسياً، وقد كان على قناعة تامة بعدم احتمال قيامهم بأي خيانة.
في صبيحة الثالث والعشرين من شباط عام 1966 حاصر اللواء السبعون، بقيادة العقيد عزت جديد القصر الجمهوري، حيث تواجد الفريق الحافظ الذي لم يستسلم، وقد قاتل حتى الرمق الأخير، وعندما خرج من القصر مستسلماً، وتقدّم من جديد وحاطوم، قام برمي مسدسه في وجهيهما قائلاً: “لو لم تنفد الذخيرة لدي، ولدى حرّاس، لاستمرّيت بالقتال ضدكم”، هذا وقد قُتل عدد من حرّاسه، وأُصيبت ابنته في إحدى عينيها. تم اقتياده إلى السجن لمدة محدودة، ومن ثم أخلي سبيله، دون محاكمة أو قرار، وغادر إلى لبنان، ومنه إلى العراق، لدى تسلم أحمد حسن البكر الحكم، وبذلك اختفى العضو الثاني في اللجنة العسكرية، بانتظار اختفاء التالي، وهو اللواء سويداني، وتسريح مائة ضابط حوراني معه، بتهمة القيام بمحاولة انقلاب.


من مقالات العدد الرابع من صحيفة (العربي القديم) تشرين الأول/ أكتوبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى