الرأي العام

تفاصيل سورية | كيف أسس الغرب للجريمة الأسدية في سورية

يكتبها: غسان المفلح

في الزاويتين السابقتين حاولت أن أوضح نقطتين لأهميتهما القصوى في سورية. لا يمكن لأي باحث رصين وموضوعي وحريص بالوقت نفسه أن يتجاوزهما.

الأولى: أنني أوضحت أن سورية كانت تتطور باتجاه تجربة ديمقراطية، تحولاتها يمكن تذكرنا بانتقالات سلمية نحو الديمقراطية، بفضل مراكز القوى التي أسميتها سلطة الاعيان. لكن الترسيمة الاستعمارية الجديدة وضعت العسكر على طاولة البحث والقرار. وضعت العسكر ليس في سورية وحسب، بل في غالبية دول ما يسمى العالم الثالث آنذاك. هذا الملف تداخل مع حدثين جديدين على المنطقة. قيام دولة إسرائيل على جزء مما يعرف بسورية الكبرى أو منطقة بلاد الشام، على أرض فلسطين. هذا الحدث الذي بات يحتل الأولوية القصوى لكل القوى التي خرجت من الحرب العالمية الثانية سواء مهزومة أو منتصرة. لهذا الأمر بعد تاريخي لدى هذه الدول وبعد إمبريالي، وأحيانا بعد داخلي أيضاً.

 دخلت سورية هذه المنطقة الانقلابية للعسكر، ثم تبعتها مصر ، ودول عربية الأخرى. باتت إسرائيل أوروبيا غربيا ثم أمريكيا جزء لا يتجزأ من تعاطي هذه الدول مع ما يسمى دول الطوق أي الدول المحيطة بإسرائيل. العسكر في مصر قطعوا أيضا الطريق على تطور تجربة ملكية دستورية ديمقراطية.


هنالك مقدمة مهمة جدا في هذا الملف وهي: أن هذه الدول الكبرى وجدت من السهولة بمكان التعاطي مع ديكتاتور واحد لكل دولة من جهة، ولمنع تطور أية تجربة ديمقراطية واعدة في كل المنطقة. حتى السوفييت آنذاك نتيجة لطبيعة نظامهم الستاليني شاركوا بهذه المعمعة. حيث دعم السوفييت غالبية الانقلابات العسكرية أيضا. عموما في هذه الانقلابات جل ما يهتم به الديكتاتوريين بالدرجة الأولى الغطاء الدولي سواء كان غربيا وهذا هو المطلب الأهم، او حتى شرقيا. بقيت سياساتهم عين على الغرب والعين الأخرى على بقية دول العام. مفارقة أخرى في هذه المنطقة النفطية الإسرائيلية أن الغرب بزعامة أمريكا لم يكن يريد تقوية القطاع الخاص، ولا على أي صعيد، بل إبقاء حركية الاستثمار واستخراج النفط وغيره من الثروات والتصدير والاستيراد بيد الديكتاتور ومن معه تحت عنوان” قطاع عام أو قطاع الدولة”. هذه النقطة تحتاج لبحث خاص لأهميتها في تاريخ سورية، حيث قضت الديكتاتورية على القطاع الخاص التقليدي.
 في سورية أيضا كان الغرب حريصا كل الحرص على تقوية الديكتاتور على حساب البلد ولبقاء الدولة فاشلة.


لا يمكن لتجربة ديمقراطية أن تنشأ وتتطور دون قطاع خاص قوي. هذا ما جرى تحطيمه على مدار سنوات العسكر. حيث ما تبقى من هذا القطاع كان رهنية لشراكة اجبارية مع عسكرهم. الديمقراطية هي في النهاية مراكز قوى طبقية. مراكز قوى تمتلك حضوراً حراً نسبياً في الاقتصاد والاجتماع والسياسة. هذا تفصيل سوري كان سائداً بالمعنى النسبي للعبارة، قبل دخول العسكر على الخط*. سؤال ربما يبدو خارج الموضوع لكنه مهم جدا: لماذا بريطانيا غادرت معظم مستعمراتها وتركت خلفها تجارب ديمقراطية حتى لو كان منها ما هو رث؟ الهند باكستان بنغلادش مصر حتى العراق نسبيا*. الطريف بالموضوع أيضا كل هذه الانقلابات كانت تسمي نفسها ثورة او حركة تصحيحية.. الخ معزوفات العسكر.


دخول العسكر في هذا الحقل جعل من جنرالاتهم يحكمون بلاد كاملة بقوة السلاح دون أي شرعية تذكر، مع بعض الاستثناءات القليلة جدا. لم يبقى لهؤلاء العسكر إلا أن ينظموا واجهات مدنية لحكمهم. سواء على المستوى الأيديولوجي أو السياسي أو الاقتصادي والاجتماعي. هذا من جهة ومن جهة أخرى عليهم أن يحوزوا على شرعية دولية. اعتراف دولي وتعاطي دولي يزيد من قبضتهم على البلاد التي يحكمونها. هذا العسكر منهم من كان يساريا ومنهم من كان يمينيا ومنهم من اختار أيديولوجية خاصة من بنات أفكاره المشبعة بالنرجسية القذافي مثالا. أيضا ادخلوا مصطلحات إلى التداول السياسي والإعلامي: الاب القائد، القائد الملهم، القائد الخالد، قائد الأمة..الخ كثيرا من ملفوظات و”حواديت” الأسطرة الكاذبة منذ لحظة نطقها. الطريف أيضا في هذا الحقل، هو بعض صحافة ومثقفي الغرب، عندما يلتقون بأحد هؤلاء الأساطير!

 يؤسطرونه أيضا من خلال التعاطي معه، كونه فعلا الأفضل في حكم هذا البلد أو ذاك. هنالك فارق مثلا بين ما كتبه الشهيد الفرنسي ميشال سورا في كتابه “الدولة المتوحشة” وبين ما كتبه باتريك سيل في كتابه “الصراع على الشرق الأوسط الجزء الثاني” أو حتى نيكوس فاندام في كتابه “الصراع الطائفي في سورية” وبعض تنقيحاته وكتاباته اللاحقة. إذا كان مفهوم أن فاندام دبلوماسي محترف، سيراعي مصالح دولته ورؤيتها لسورية من جهة دون أن يفقد حصافته. فهل هذا ممكن؟ لكن باتريك سيل تشعر أنه” إل إم 6″ البريطانية. وأمثلة كثيرة على هذه النماذج.
ببساطة يمكننا القول ما هي حصيلة حكم العسكر لبلداننا حتى اللحظة؟ لينظر أي مراقب بقليل من الضمير ويقيم هذه الحصيلة، ليكتشف دون عناء انها كانت حصيلة كارثية على كافة الصعد.


هذا الملف بالذات يحتاج لحفر أكثر في سورية، حتى نعرف كيف تأسست الجريمة الأسدية واستمرت حتى الآن.

______________________________
هوامش:
* لم يكن حدثا عابرا في تاريخ العراق، بل كان إيذانا ببدء سلسلة من الانقلابات العسكرية في المنطقة العربية برمتها، ففي 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1936 قاد الفريق بكر صدقي أول انقلاب عسكري في تاريخ العراق والمنطقة العربية؛ ليطيح بحكومة ياسين الهاشمي. ودشن الانقلاب حالةً من عدم الاستقرار السياسي، وبدأ العسكر التدخل الفعلي في الحياة السياسية.منهم من يعتبر انقلاب حسني الزعيم 1949 آذار هو الانقلاب العسكري الأول في المنطقة! يتنافسون على الكارثة.


** العراق أيضا كانت تسير باتجاه ملكية دستورية نسبية، لكن أتى انقلاب 14 تموز (أو ثورة 14 تموز)، هي الحركة التي أطاحت بالمملكة العراقية الهاشمية التي أسسها الملك فيصل الأول تحت الرعاية البريطانية، وقتل على إثرها جميع أفراد العائلة المالكة العراقية وعلى رأسهم الملك فيصل الثاني وولي العهد عبد الإله ورئيس الوزراء نوري سعيد.

زر الذهاب إلى الأعلى