العدالة الانتقالية ألا يجب أن تطال محمد شاهين؟
بعد دقائق بطيئة من الصمت المتبادل، زاد الأمر غموضاً ورهبة حين اختار الدكتور البوح بكل شيء مرة واحدة

عبد الرحمن ريا – العربي القديم
أمرَ أحد العناصر بإغلاق الباب لنبقى وحيدَين في مكتبه. انتظر قليلاً ثم سألني بعض الأسئلة الروتينية؛ ارتباكه الواضح أقلقني، فهو ضابط برتبة مقدّم يشغل منصب رئيس الطبابة في سجن عدرا، وأنا سجين إرهاب[1]. الطبيعي اذاً أن أكون أنا من يشعر بالارتباك.
بعد دقائق بطيئة من الصمت المتبادل، زاد الأمر غموضاً ورهبة حين اختار الدكتور البوح بكل شيء مرة واحدة: “أنا معكم”… ماذا يقصد؟! من نحن الذين يرغب بالانتماء لنا؟
“أنا مع الثورة، وضد هذا النظام المجرم. وقد فكرت عدة مرات بالانشقاق ولكني متردد. ما رأيك”؟
كما تتوقعون، لم أجبه؛ فبعد شهور من التحقيقات وخبرات الفروع والسجون، يصبح أهم ما تتعلمه، ظن السوء بالجميع، الكل ممكن أن يكون مخبراً أو جزءاً من خطة (مؤامرة) غرضها توريطك بقضية جديدة.
“أنا هنا مفيد لكم أكثر، لذلك أتردد بالانشقاق. صدقني، أشعر بالضيق كلما ارتديت ملابسي العسكرية، أو اضطررت للتعامل مع هؤلاء الاوباش، ولكني أعتقد ان ما أقدمه للثوار من مكاني هنا يستحق العناء. لذلك أتردّد”.
كان كلامه صحيحاً، يكاد يجمع سجناء الإرهاب الذين مروا بسجن عدرا على نبل وأخلاق هذا الرجل، ومحاولاته لتقديم الخدمات العلاجية والدوائية، مع لجم عناصره وزملاءه الضباط ومنعهم من إهانة السجناء أو الإساءة لهم (كما هو ديدن السجون). لكن كل ما سبق لم يمنعني من الإجابة بتحفظ، ورمي الكرة نحوه بشكل ينجيني من أي مساءلةٍ لاحقة.
اليوم بعد انتصار الثورة ومطالباتنا بضرورة تطبيق العدالة الانتقالية، ألا يوجد مادة تشمل أمثال المقدم محمد شاهين[2]؟
إن كانت محاكمة المجرمين من عصابة الأسد ضرورة عاجلة، تمهد للمصالحة الوطنية، وتخفف الأحقاد وتحمي من فوضى وحرب أهلية، وتعيد السلم الأهلي. ألا يمكن لإنصاف رجال كهذا الرجل أن يظهر معدن الثورة الحقيقي.
قد نتفهم تعذّر إعادة الاعتبار لهذا الضابط بإعادته لوظيفته، وقد تقدّر الحكومة أن تكريمه ترف غير متاح في هذه المرحلة. ولكن ألا يوجد جهد موازي يمكن أن يقوم به سجناء الثورة أنفسهم؟
ما أكثر صفحات سجناء الثورة وتجمعاتهم ومؤسساتهم، واحدة لجماعة عدرا، وأخرى لسجناء السويداء، وثالثة لسجناء صيدنايا، ومجموعة لمن مرّوا على جناح مخصص أو ربما غرفة ما في السجن و و و.
ألن يكون لطيفاً ومعبراً أن يبادروا لزيارة هذا الرجل لشكره على الاقل؟ ألا يمكن أن تقوم نقابة أطباء الاسنان ببادرة كريمة كهذه “والرجل طبيب أسنان”. ألا يعبر ذلك عن اخلاقيات ثورتنا، وفلسفتها وفكرها.
بتكريم هذا الرجل وأمثاله نشرح لمن لم يعرف بعد؛ أن ثورتنا لم تستهدف مؤسسة أو طائفة أو عشيرة أو منطقة ولكنها استهدفت الظلم والظالمين.
تكريم هذا الرجل يعني أن الثورة ليست فقط لمن خرجوا في المظاهرات أو اعتقلوا وقاتلوا وهجّروا، ولكنها تتسع لكل شريف خدم الحق، ولو من دون أن يقف أمام الكاميرات ليعلن انشقاقه.
هوامش:
[1] جميع معتقلي الثورة تم اعتبارهم إرهابيين، وحوكموا في محكمة الإرهاب أو المحكمة الميدانية
[2] أصبح عميداً فيما بعد، فتاريخ الحادثة يعود لعام 2014