إسلام أبو شكير في رواية (خفة يد):سرد المأساة بخفة الناجي لا بخفة المهرّج
مشروع إسلام أبو شكير السردي يقوم على حكايات تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تحفر عميقًا في طبقات الوعي والذاكرة والخيبة.

ياسر الظاهر- العربي القديم
رواية (خفة يد) للأديب والإعلامي السوري إسلام أبو شكير التي يتمرد فيها على التقاليد الكلاسيكية لكتابة الرواية، فهي من الروايات القصيرة أو ما يطلق عليه بـ (النوفيلا) وهو نوع من الرواية التي لم يحظ بانتشار واسع في عالمنا العربي لندرة كتابه، أنا شخصيا لم أقرأ سوى بضع روايات منه كانت لروائيين غربيين كالنمساوي ستيفان زفايج، وهو فن روائي كان رائجا منذ عقود طويلة (ولايزال) في الأدب الأوروبي وأدب أمريكا الجنوبية،
ويشكل مثل هذا النوع من الروايات التي كتبها بعض كتابنا العرب إضافة هامة إلى فن الرواية العربية ، ورغم وجود العدد القليل من نصوصها في العالم الروائي العربي نجد أنها تتفوق على كثير من الروايات الطويلة المحشوة بالثرثرة المملة والأفكار المستهلكة.
يبدأ النص حين تنفتح ذاكرة الراوي على صورة له (عثر عليها صدفة في حقيبة أوراقه وحاجاته الشخصية) مع فتاة تجلس ملاصقة له على سرير بطريقة مثيرة،
في غرفة يتذكر أنه سكنها في سنته الجامعية الأولى في مخيم اليرموك بدمشق، ساعده على تذكر ذلك محتوياتها التي عدَّدها لنا بدءا من السرير، ثم الطاولة ولوحة لموديلياني أهدافها له صديقه الرسام الذي ترك مهنة الطب ليتفرغ لفن الرسم وقد مات منتحرا وهو في سن الخامسة والثلاثين.
مساءلة الواقع العربي والإنساني
في هذه الرواية يكمل إسلام أبو شكير مشروعه السردي (في مجموعاته القصصية ورواياته) القائم على مساءلة الواقع العربي والإنساني، من خلال حكايات تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تحفر عميقًا في طبقات الوعي والذاكرة والخيبة.
منذ العنوان، يستعير الكاتب مفردة “الخفة” ليجعلها مدخلاً لقراءة العالم. لكنها ليست خفة التسلية أو السطحية، (بل تلك الخفة التي تكشف ثقل الحياة ومعناها المتداعي) . في هذا السياق، يصبح الراوي في «خفة يد» لاعبًا ماهرًا، يستخدم الحيلة والسخرية ليوازن بين قسوة الواقع ورغبته في الاستمرار. إنها خفة الناجي لا خفة المهرج.
يمزج الكاتب في سرده لأحداث نصه غير التقليدي، بين ماهو ذاتي يخص إسلام أبو شكير(طالب الجامعة، غرفته في مخيم اليرموك، هجرته إلى دبي، كتابته للمقال الصحفي….. الشبه بكمال الشناوي، اقتناءه لكتب تشيخوف، )، وما هو متخيل لشخصية غير عادية، في لعبة تتعب القارئ وتحيره، تأخذه مرة نحو أقصى جهات الواقع وأخرى نحو سماوات الخيال، ما بين غموض يبعده عن فهم ما يحدث ووضوح يقربه من حل ألغاز جعلت رأسه يتصدع من التفكير بحلها. مما يجعل القارئ في حالة شك دائم:
هل ما يحدث حقيقي، أم مجرد “خفة يد” سردية؟
أما الزمن في الرواية فنجده يتشظى، والحدث يتحرك في دوائر مفتوحة ولكنها سرعان ما تنغلق على أمل أن تنفتح ثانية، والشخصيات تتبدل وجوهها كأنها في عرض سحري طويل، فوجه سوسن ملاك هو وجه فاتن جارة الراوي وسمر هي سيمو، وعروة المدني يتقاطع مع مودلياني في كثير من الأمور أبرزها أنهما رسامان،
لكن خلف هذا اللعب السردي نكتشف أن هناك مأساة أمة فقدت يقينها، وشاهد ذلك الشخصيات التي اعتقلت وقتل بعضها تحت التعذيب و الناجية منها تم عطبها بإطفاء عينها أو شل يدها فعاشت بقية حياتها تعيش كابوس ما لاقته في زنازين اعتقالها على يد جلاديها، وهي هنا لا تبحث عن البطولة، بل عن النجاة من اللامعنى. فقط لأن التوقف يعني الموت. هنا يبرع الكاتب في رسم شخصيات تنبض بالسخرية والمفارقة والإنهاك النفسي. كل شخصية تعكس جرحًا جمعيًا، وتتحرك في فضاء خانق حيث العبث يصبح نظامًا، واللاجدوى قانونًا.
أما لغة أبو شكير في هذه الرواية فنراها مشغولة بعناية. فجاءت “مخففة” من البلاغة الثقيلة، لكنها تفيض بالمكر والدهشة. تتحرك بين اليومي والتأملي، بين السخرية والفلسفة، لتخلق نغمة سردية خاصة يمكن تمييزها بسهولة ضمن المشهد الروائي العربي المعاصر بجمله المشحونة بالإيحاء، لكنه يترك للقارئ مساحة للتأويل والاستنتاج.
براعة الترميز لما عانته شخصياته
في نهاية الرواية، (يتبدى أن «خفة اليد» ليست مجرد حيلة سردية، بل استعارة عن الكتابة ذاتها.) فالروائي، مثل الساحر، يخدعنا ليقول الحقيقة. وأبو شكير، وهو من أكثر الأصوات السورية وعيًا بالتقاطع بين الأدب والسياسة والذاكرة، يجعل من روايته مرآة لبلدٍ محاصرٍ بأوهامه، ومجتمعٍ فقد ثقته بيده، حتى تلك التي تكتب أو تصفق أو تحتج.
لذلك نجد جميع من تعرفنا إليهم في هذه الرواية ضحايا قمع وظلم وهنا تبدت براعة الكاتب في الترميز لما عانته شخصياته بل لما يعانيه المجتمع السوري من بؤس وآلام مما جعل رؤيته للواقع أعمق وأجمل مما لوسمى الأشياء بمسمياتها.
«خفة يد» ليست رواية عن السحر، بل عن الحيلة التي رسمت كامل المشهد السوري الذي نزف ولا يزال ينزف (الجرح الذي في جبين الراوي).
وبهذا يؤكد إسلام أبو شكير أن الأدب السوري، رغم الألم، لا يزال يمتلك تلك الخفة الذكية التي تلتقط المأساة بيدٍ ساخرة، وتعيد تركيبها فنًّا ومعنى.