فنون وآداب

تحويل الألم من حالة عاطفية إلى أداة لفهم البنى الاجتماعية والسياسية

قراءة في كتاب في (ضوء الألم: تفكير في البنى الاجتماعية السورية) لمضر الدّبس

ياسر الظاهر – العربي القديم

 “أن نُفكِّر في الضوء يعني أن نكتب وننشر: نكتب لنلتزم ونُنظِّم، وننشر لنحاور ونتحاور؛ فكلّ فكرةٍ غير مكتوبةٍ في زمن الألم، وكلُّ فكرةٍ سريةٍ، وكلُّ حوارٍ غير منشور أيًا كان موضوعه، نشاطٌ في الظلام: في عتمة الألم نحو الجهة المؤدية إلى التيه. وبالكتابة والنشر والحوار ندخل إلى الفضاء العمومي، وفي الضوء -فحسب- يكون التفكير عموميًا، عموميته من علانيَّته ووطنيته من عموميته؛ فالتفكير في الضوء سمةٌ وطنية أصيلة بالاشتراط،،

 الألم بوابة للتفكير

في خضم الأزمة السورية الممتدة، من ٢٠١١ يظهر الألم السوري  كعامل مركزي في تشكيل الهوية الوطنية والسياسية للسوريين. لكن، وفق رؤية الدكتور مضر  الدبس في كتابه “في ضوء الألم”، الألم ليس مجرد تجربة عاطفية أو معاناة شخصية، بل أداة لفهم البنى الاجتماعية والسياسية وإعادة التفكير في مستقبل البلاد.

يقدم الكتاب تأملات عميقة حول كيفية تأثير الألم على تشكيل الهويات، وعلى إنتاج السرديات الوطنية، ودوره في صيانة أو هدم النسيج الاجتماعي. يرى الدبس :

أن الألم يمكن تحويله من حالة سلبية إلى منطلق للفكر النقدي والإبداع، وهو ما يسميه “التفكير في ضوء الألم”.

 “الألم سلبي، والتفكير في ضوء الألم إيجابي؛ الألم انتقام، والتفكير في ضوء الألم عدالة؛ الألم شقاقٌ، والتفكير في ضوء الألم اشتقاق؛ الألم حرب، والتفكير في ضوء الألم سلام…”

هذا التصور يعكس قدرة الفكر على تحويل تجربة الألم إلى أداة لبناء الوعي الاجتماعي والسياسي، وهو ما يجعل قراءة الكتاب تجربة معرفية فريدة.

النظام السوري: قراءة في بنية السلطة وسلوكها

يتناول الدبس النظام السوري من منظور بنيوي، موضحًا أن الممارسات العنيفة للنظام ليست مجرد أحداث عشوائية، بل جزء من هيكل سياسي قائم على العصبوية والتحكم بالقوة.

يشرح الكتاب كيف أن هذه البنية ساهمت في ترسيخ الانقسامات الاجتماعية والسياسية، وجعلت الصراعات مستمرة ومتكررة. كما يشير إلى أن فهم جذور هذه الظواهر هو الخطوة الأولى نحو البحث عن حلول فكرية وسياسية للنزاعات السورية…. ولاسيما ما يحدث الآن على أرض الواقع السوري.

المعارضة السورية: التحديات والأخطاء المتكررة

لا يكتفي الكتاب بتحليل النظام، بل يسلط الضوء على المعارضة السورية، ويبين أن غياب التخطيط الاستراتيجي والرؤية الواضحة أدى إلى تكرار الأخطاء وعدم القدرة على استشراف المستقبل.

يشير الدبس إلى أن المعارضة غالبًا ما تعتمد على التفكير الاستقرائي المحدود، ما يقلل من قدرتها على التعامل مع التحولات المفاجئة في المشهد السياسي، ويعكس الحاجة الملحة إلى تعزيز التفكير النقدي والتحليل الاستراتيجي داخل قوى المعارضة.

وهو  مانراه اليوم من تخبطها وسطحية تفكيرها وانتهازيتها للحظة السياسية التي تظهر على المسرح السياسي الآن، وتحليلاتها  التي لاتعبر إلا عن مصالحها السياسية الضيقة وغالبا ما تكون لا وطنية، بل على العكس نراها إما مرتدة نحو العصبية أو الطائفية مما يزيد من تعقيدات المشكلات القائمة على أرض الواقع.

الألم والجماعة: البعد الاجتماعي

يعتبر الدبس الألم الجماعي عنصرًا محوريًا في تشكيل الهوية الوطنية والاجتماعية. فالانقسامات الطائفية والعرقية ليست مجرد فروقات سياسية، بل تعكس ألمًا عميقًا يتغلغل في بنية المجتمع.

ويشير إلى أن معالجة هذا الألم تتطلب إعادة إنتاج سرديات وطنية جديدة تعكس التعددية والتنوع، بعيدًا عن الانقسامات التقليدية التي تؤدي إلى الصراعات المستمرة.

بهذا المعنى، يصبح التفكير في ضوء الألم ليس مجرد ممارسة عقلية، بل أداة لتحرير المجتمع من قيود الانقسامات التاريخية والسياسية.

تصور الدولة الجديدة: الاشتقاق كآلية للتغيير

في القسم الخاص بالتصورات البديلة، يقدم الدبس مفهوم “الاشتقاق” كنموذج لإعادة بناء الدولة السورية بعيدًا عن الطائفية والانقسام الإيديولوجي.

الدولة، وفق هذا التصور، يجب أن تكون فضاءً للعدالة والحرية والسلام الاجتماعي، لا مجرد أداة للسيطرة أو القمع.

ويؤكد الدبس أن تحويل الألم الجماعي إلى طاقة للتغيير هو الشرط الأساسي لبناء دولة حديثة ومستقرة، وهو ما يربط بين التحليل الفكري والسياسة العملية بطريقة مبتكرة.

الإسلام والحداثة: جدلية الانتماء والعدالة

يتناول الكتاب العلاقة بين الدين والحداثة، مشيرًا إلى إمكانية وجود إسلام وطني حديث يتوافق مع قيم العدالة والمجتمع المدني.

يؤكد الدبس أن ممارسة الدين في إطار وطني عقلاني يمكن أن تكون قوة للتماسك الاجتماعي ودعم التحولات الديمقراطية، بعيدًا عن التطرف الديني أو الاستخدام السياسي للدين.

هذا الطرح يقدم رؤية متوازنة للتقاطع بين الدين والحداثة، مع تأكيد ضرورة بناء مشروع وطني يجمع بين الانتماء الثقافي والفكر الحداثي. وهو ما لا نراه في المجتمع السوري اليوم، إذيتصدر المشهد (الآن)

 في بعض طوائفه مرجعيات دينية تعمل على تعقيد مسار هذا المشروع الإسلامي الوطني الذي سيكون قوة للتماسك، بينما  تدخل تلك المرجعيات خلخل من النسيج الاجتماعي السوري وساهم في إضعافه.

المنهجية الفكرية: الدمج بين الفلسفة والتحليل السياسي

يعتمد الدبس على مزيج من الفلسفة، العلوم الاجتماعية، والتحليل السياسي لتقديم رؤيته.

الأدوات الفكرية التي يستخدمها تشمل العدالة، الصيانة، الاشتقاق، والسلام، وهي مفاهيم توجه التحليل نحو إعادة بناء الدولة والمجتمع بطريقة منهجية.

ويؤكد الكتاب على دور الكتابة والنشر كوسيلة للخروج من الظلام الفكري:

 “كل فكرة غير مكتوبة في زمن الألم، وكل فكرة سرية، وكل حوار غير منشور، نشاط في الظلام: في عتمة الألم نحو التيه.” وهو هنا يسلط الضوء على أهمية التعبير الفكري والمشاركة المجتمعية في تشكيل الوعي النقدي لدى المجتمع السوري.

الأبعاد الفلسفية: الألم أداة للتأمل والتحول

يمثل الألم، في رؤية الدبس، أداة فلسفية للتأمل في بنى المجتمع والسياسة، وليس مجرد شعور عاطفي أو تجربة شخصية.

التحليل النقدي للألم يتيح للمجتمع إعادة التفكير في أنماط السلطة، إعادة صياغة الهويات الوطنية، وبناء علاقات اجتماعية أكثر تماسكًا.

كما يشجع الكتاب على تحويل التجربة المؤلمة إلى فرصة للتعلم والإبداع الاجتماعي والسياسي، من خلال التفكير النقدي وإعادة الإنتاج الفكري للواقع.

الأثر الثقافي والفكري للكتاب

إن  كتاب (في ضوء الألم) مساهمة جادة في تعزيز الوعي النقدي لدى القراء والباحثين، إذ يوفر لهما أدوات تحليلية لفهم جذور الانقسامات والتوترات الاجتماعية والسياسية، ويمهد الطريق لبناء مشروع وطني أكثر عدالة واستقرارًا.

كما يمثل مرجعًا هامًا للباحثين في الدراسات الاجتماعية والسياسية، لأنه يجمع بين التحليل الواقعي والتصورات المستقبلية، ما يمنحه بعدًا تطبيقيًا  إلى جانب البعد النظري والفلسفي،  كذلك يعدّ الكتاب إضافة مهمة للأدبيات النقدية والسياسية حول سوريا، فهو لا يكتفي بوصف الأزمة، بل يقدم منهجية فكرية لتحويل الألم إلى فرصة للتفكير النقدي، والتخطيط لمستقبل أكثر عدلاً وسلاماً.

إنّ قراءة الكتاب تمنحنا أدواتٍ لفهم الواقع السوري بعمق، وتشجع على التفكير في آليات التغيير الاجتماعي والسياسي، لتصبح التجربة المؤلمة فرصة للتجديد، وليس مجرد معاناة عاطفية وتجربة شخصية مستمرة.

زر الذهاب إلى الأعلى