المخابرات والناس: سيارة رئيس الفرع وبائعة البقدونس
قصص يرويها: فايز النعيمي*
كان يوماً مضطرباً يشبه ما سبقه وما تلاه من الأيام في العاصمة دمشق، فالانتفاضة السورية في أوج قوتها حينذاك، وكتائب الثوار تقتحم وتسيطر على بعض أحيائها، وأصوات القصف والاشتباكات تصدح في الأجواء، ومخاوف ضباط النظام وعائلاتهم تزداد مع كل دقة في عقارب الساعة، فالمصير المجهول يشغل تفكيرهم وأحاديثهم التي وضعوا فيها خططا كثيرة لينجوا بأنفسهم، في حال انتهى حكم الأسد وبالتالي دخول المؤسسة العسكرية في متاهة الانهيار والتصفيات والمحاسبة
وهنا أروي قصة كنت شاهداً على حدوثها كوني أحد قاطني حي شرقي التجارة بدمشق، وابن القائد العام للشرطة العسكرية في سوريا، قبل أن يعلن انشقاقه عن النظام أواخر العام 2012
في صيف العام 2012، كنت خارجاً من منزلنا الواقع في أحد أبراج حي شرقي التجارة واتجهت لاستقل سيارة من مرآب السيارات بداخل برج العسكريين الروس – ويعرفه جيداً جميع من يسكن تلك المنطقة – فالحراس في محيطه وبداخله يتبعون للشرطة العسكرية التابعة لوالدي في ذلك الحين.
وما هي لحظات من دخولي حرم برج الروس حتى صدرت أصوات صراخ من امرأة عجوز، كانت تتعرض للضرب والتعنيف والإهانة بقوة من قبل عنصر مخابرات يحمل بندقية بيده، أمام برج سكني قريب يقطنه عدد من ضباط المخابرات.
ذهبت حينها باتجاههم، وقد تبعني رئيس مفرزة الشرطة في (برج الروس)، قلنا لعنصر الأمن:
– لماذا تضربها ماذا فعلت هذه العجوز؟
– قال: شافتها (مرت المعلم) من عالبرندة نزلت تحت سيارة الأودي تبع المعلم، ويمكن تكون حطت عبوة ناسفة”!
كانت العجوز في هذه الأثناء تتوسل وتطلب منا المساعدة مرددة:
– “والله ما حطيت شي وقعت مصرياتي تحت السيارة ونزلت اجيبهن وكيلك الله ما حطيت شي يا سيدي”
لكن عنصر الأمن كان مصراً على سحب الاعتراف منها، ليتدخل رئيس مفرزة الشرطة العسكرية قائلأ لها:
-“خالتي إنتي شو إلك شغل تحت السيارة وكيف وقعتي المصاري”
أجابت بخوف وهي على وشك انهيار:
– ” والله يا خالتي أنا على باب الله ببيع بقدونس وحشايش، وكنت عم ضب المصاري ووقعت مني 25 ليرة حجر، لهيك نزلت ع الأرض لدور عليها، والله ما حطيت شي ولا بعرف شو هي الناسفة”
هنا طلب رئيس المفرزة المنحدر من بلدة الرامي في ريف إدلب من عنصر الأمن أن يتركها وشأنها مخاطبا إياه:
-“لك حرام درويشة هالختيارة اتركها تروح”
ليجيب عنصر الأمن: “والله مرت المعلم صرخت وقالتلي شوف هالختيارة شو حطت تحت السيارة أنا رح دق ع معلمك، ولهيك آفيي إتركها يا سيدي إلا إذا هي قالتلي… وكرمالك رح اسألها إذا بتركها أو لا”
اتجه عنصر الأمن نحو كولبة الحراسة آخذاً معه المرأة العجوز وقد ظهر لنا وهو يهاتف زوجة المعلم ثم عاد بها بعد لحظات نحو سيارة الأودي، وقال: مرت المعلم ما وافقت… وقالتلي إنو المعلم أرسل دورية من الفرع وهم على وشك الوصول!
وفعلا لم تمض دقائق حتى وصل أربعة عناصر يستقلون (بيك اب) مثبت عليها سلاح (دوشكا) وبدأوا بفحص السيارة من تحت وعلى الأطراف وأخذوا هوية العجوز، وبعد تأكدهم بأن لا عبوة ناسفة ولا ما يحزنون، بدأوا بالصراخ على العجوز وتعنيفها وترهيبها رغم أنها كانت مستمرة بالبكاء، بدل الاعتذار منها لأنهم اتهموها ظلماً بناء على شكوك “مرت المعلم” ليعود رئيس مفرزة الشرطة للتدخل والطلب إليها تركها وشانها على اعتبارهم لم يجدوا شيئا.
بعد جهد جيهد استجاب عناصر الأمن وسمحوا لها بالذهاب، مع إطلاقهم تهديدات بأن لا تعود العجوز إلى هذا الشارع مجدداً وإلا….. “أبتعرفي شوبيصير فيكي ولك ….. “
ودائما في ظل هذه السلطة الهمجية لم يكن يعرف السوريون “شو بيصير فيهم” حتى لم يكونوا يعترضون على شيء أو يطالبون بالحرية أو بإسقاط النظام… لقد كانت حياة السوري خير تجسيد للمثل القدَري المتطيّر تشاؤماً: “ياماشي على رجليك ما بتعرف شو مقدر عليك”!
_____________________
* إعلامي بارز في تلفزيون (سوريا)