أسرار السلاح الذي غيّر مسار الحروب... ونهاية مرحلة "المسيرات الرخيصة"
العربي القديم – راني جابر
أطلق وزير نقل التقنية الأوكراني “ميخائيل فيديروف” قبل أيام نداءً للأوكران يحثهم فيه على البدء بتصنيع المسيرات في المنزل بهدف خدمة الجهد الحربي للجيش الأوكراني، ضمن ما أسماه مشروع “مٌسيرات الشعب”، هذا النداء يوحي أن موضوع تصنيعها أصبح أمراً سهلاً ولا يتطلب سوى سوية محدوداً من القدرة التقنية لتصنيع المسيرات القابلة للتسليح بسهولة!
تأثير صاعق
أصبحت المسيرات شعار الحرب الحالية ومصدر الأدرينالين والدوبامين في الدعاية والتحكم بالرأي العام، وأضحت مشاهد إبادة مجموعات الجنود والدبابات بالمسيرات الرخيصة المصنعة في ورشات بأيدي مدنيين ويقودها مجموعة من المراهقين بدون خلفية عسكرية، أكثر المشاهد انتشاراً وتأثيراً.
فحتى بداية الحرب في أوكرانيا كان ينظر إلى المسيرات المدنية صغيرة الحجم باعتبارها تهديداً ثانوياً، على الرغم من الاستخدام الواسع لها في حروب الشرق الأوسط وخاصة سوريا والعراق، وبالكاد كان يوجد أي حديث جدي عن التعامل معها خارج نطاق التعامل مع الهجمات ضد الأهداف المدنية.
لكن نجحت المسيرات في إحداث تغيير كبير في شكل ميدان المعركة، على مستوى القدرة النارية وفعالية الاستطلاع، وتسببت في الكثير من التغيير في آلية عمل وحدات المدفعية والدبابات ووحدات الاستطلاع وحتى وحدات الهندسة، ويمكن القول أن موجة استخدام المسيرات الحالية تشابه ظهور الطائرات قبيل الحرب العالمية الأولى أو ظهور الدبابات خلالها، كحاجة عسكرية كان لها ارتدادات على ميدان المعركة والسلاح نفسه فضلاً عن ارتداداتها السياسية والتقنية.
فقد أظهرت الحرب الأوكرانية القدرة الصاعقة والكارثية لهذه المسيرات ضد القوات النظامية والعربات المدرعة خاصة مع سعرها المنخفض جداً، فتجميع مسيرة مضادة للدبابات برأس حربي معادل لصاروخ تاو أو كونكورس وتصيب أهدافاً على ضعف المدى لا يكلف أكثر من ألف دولار، في حين أن سعرصاروخ التاو أو الكونكورس يتجاوز عشرين ألف دولار، ولا تستطيع الحصول عليه بكميات حسب الحاجة بل حسب المسموح.
عدا عن بعض الإضافات التقنية وخاصة الكاميرات الحرارية فالمسيرات الموجودة اليوم في الاستخدام لا جديد فيها، إلا أنها رخيصة وتقبل التعديل بسرعة وتستخدم بأعداد كبيرة، واستخدامها منعتق من المحدوديات التقنية الموجودة في الأسلحة المنتشرة، فمثلاُ يمكن إطلاقها من مسافة عدة كيلومترات بعيداً خلف خطوط القتال والمشغل في مكان آمن وغير معرض للخطر، ويختار الهدف حسب رغبته ويحدد زاوية الهجوم وتوقيته لاستهداف أضعف نقطة في الدرع بدون أي معوقات تقريباًَ، وهو أمر غير موجود في معظم الصواريخ الموجهة المضادة للدبابات في العالم حتى اليوم.
تصاميم جاهزة
يكمن سر نجاح تصنيع المسيرات المسلحة في التصاميم الجاهزة المجربة التي تنتشر على الانترنت، والتي يعمل مدنيون في ورشات صغيرة لتصنيع وتشغيل المسيرات على استنساخها أو شرائها وتجميعها وإضافة بعض التعديلات المحدودة لجعلها قادرة على إلقاء القنابل أو التحول إلى صاروخ موجه لاسلكياً.
أي أن عملية تصنيع المسيرات المستخدمة في أوكرانيا ليست عملية تصميم من الصفر، بل عملية تجميع لوحدات تجارية جاهزة كل منها له وظيفة معينة، وتتلخص مهمة الشخص في اختيار القطع الصحيحة وتركيبها بطريقة سليمة ومن ثم الاختبار، وهذه القطع يسهل جداً الحصول عليها.
كما تقدم مواقع بيع القطع الإلكترونية سواء في الصين أو أوروبا العديد من النصائح والمجموعات الجاهزة؛ التي تحتوي كامل المكونات لتصنيع مسيرة والتي تستطيع طلبها عبر الشبكة، وأي شخص بدون خبرة تقنية يستطيع تجميع واحدة تحمل قذيفة (ر ب ج 7 ) بمدى يصل حتى عشرة كيلو مترات، وتجربتها وتسليحها خلال يوم واحد فقط!، بل وصل الأمر حد بيع مسيرات مخصصة للتسليح على العديد من المواقع الصينية والتي لا تتطلب إلا إضافة رأس قذيفة مضادة للدروع.
أي أن عشرة أشخاص يستطيعون -إذا توفرت الموارد- تصنيع حوالي 100 مسيرة خلال أقل من شهر؛ وهو عدد كاف لإخراج كتيبة دبابات كاملة من الخدمة (31 دبابة) بنفس تكلفة خمسة صواريخ كونكورس!.
تأقلم سريع
رافق ظهور الدبابات والطائرات خلال الحرب العالمية الأولى عملية تأقلم سريعة نتج عنها تطوير أنواع جديدة من الأعتدة والأسلحة والتكتيكات المضادة للطائرات والدبابات، والتي بدأت من أسلحة عدلت لتستخدم ضدها إلى أسلحة مصنعة خصيصاً ضد الطائرات والدبابات، وتعمل بأسلوب مبني على خصائصها المميزة، ليقابل هذا الأمر بحصول تعديلات وتطويرات في الدبابات والطائرات لتتفوق على هذه الأسلحة والتجهيزات؛ وبدأت بذلك حلقة من الفعل ورد الفعل بين الدول والشركات الكبرى المصنعة للعتاد العسكري نعيش أحد فصولها اليوم.
فالمتتبع بحرص لتفاصيل الحرب الأوكرانية يدرك أن التجهيزات والتكتيكات المضادة للمسيرات بدأت تترسخ كأمور معيارية وأساسية لدى الوحدات المقاتلة، وتخفض تأثيرها بشكل واضح وأصبحت مشاهد المسيرات التي فشلت في تدمير أهدافها أمراً معتاداً.
ولعل أسرع عمليات التأقلم الواضحة، هو ظهور المظلات على عدد كبير من الدبابات الإسرائيلية بعد أقل من أسبوعين على أول استخدام للمسيرات خلال حرب غزة الحالية، بعد تدمير دبابة في محيط غزة بقذيفة ألقيت من مسيرة.
وحوش هشة
تعتمد الإجراءات المضادة للمسيرات حالياً على الخصائص التقنية لها بشكل كبير، حيث
تعاني المسيرات الصغيرة المسلحة من عدة نقاط ضعف مهمة؛ ترتبط بأنها مصنعة بطريقة مرتجلة، وتتمثل أساساً في حمولتها الصغيرة؛ فهي لا تحمل إلا كمية قليلة من الذخيرة وترتبط فترة طيرانها ومداها بسعة البطارية التي تحملها، والعيب الثاني هو مداها القصير نسبياً والمرتبط بوجود خط نظر مع الهدف، ما يحد مدى الاستخدام حسب المنطقة والتضاريس وكثافة الأبنية والأشجار.
كما أن الكثير من المسيرات غير قابل لإعادة الاستخدام ومجرد إطلاقه يعني أنه يجب أن تُفجر ولا يمكن استعادتها بسبب طبيعة الصاعق المرتجل في الرأس الحربي.
أما أكبر عيوب المسيرات فهي هشاشة التصميم الميكانيكي، فعلى الرغم من تصنيع المسيرات من مواد عالية المقاومة مثل ألياف الكربون، لكن أصغر أذية في البدن سواء بسبب الرماية عليها أو الاصطدام أو الشباك المضادة للمسيرات تعني سقوطها وفشلها في مهمتها، ما تسبب في انتشار الشباك المضادة للمسيرات كأول خط دفاع ضدها ، وظهرت على الدبابات بداية ثم كجزء من الاستحكامات الهندسية والخنادق.
تشويش إلكتروني
أما أهم نقطتي ضعف في المسيرات التجارية فهي وصلة التحكم الراديوية ومستقبل تحديد الموقع ، حيث تدرك المسيرة وضعها وموقعها بالاعتماد على مستقبل إشارات الموقع العالميGPS والذي يقدم لها موقعها في الزمن الحقيقي، ويساعد في عمليات الملاحة نحو الأهداف أو مناطق البحث والسطع البصري والحراري، إضافة إلى أوامر القيادة من المشغل والتي ترسل عبر وصلة التحكم الراديوية والتي تتحول لأوامر بالمناورة أو رمي القنابل أو الاتجاه للهدف وغيرها.
بالنسبة للمسيرات المصنعة بتجميع القطع المشتراة من مواقع بيع القطع الإلكترونية؛ فهي تستخدم وصلات راديوية مدنية غير محمية من التشويش ولا تمتلك أي تقنية لمواجهته، ما يجعل منها عرضة للفشل عند التعرض لأي عملية تشويش منظمة، وخاصة كلما ابتعدت عن مصدر إشارة التشغيل.
هذه الحقيقة أصبحت محور العديد من الأجهزة المضادة للمسيرات، والتي بدأت بالظهور سواء على العربات المدرعة أو التحصينات المختلفة، والتي تتمثل في أجهزة تشويش راديوي عالية الاستطاعة، تتسبب بقطع الاتصال اللاسلكي بين المشغل والمسيرة أو تغذيها بإشارة موقع غير صحيحة، تتسبب بفقدانها للموقع الحقيقي وفشلها في الوصول إلى المنطقة المستهدفة.
وهذه التجهيزات مع تكتيكات استخدامها تتطور بسرعة كبيرة، في حين ما تزال وصلات التحكم الراديوية بالمسيرات تراوح مكانها ولا يوجد أي تطوير فيها؛ لأنها تعتمد على محددات ثابتة لا يمكن تغييرها ضمن معايير تشغيل المسيرات المدنية، ما يعني أن الوقت لن يطول قبل أن تفقد هذه المسيرات الكثير من فاعليتها وتنخفض نسبة نجاحها في إصابة أهدافها إلى درجة تصبح أعدادها غير كافية لإحداث أثر ميداني كما كانت تفعل بداية الحرب.
لا تنشر القوى المستخدمة للمسيرات بالمجمل إلا مقاطع توثق نجاحها في قتل مجموعات أو أفراد العدو، وتحجم عن نشر المقاطع التي تظهر فشلها في القصف أو فقدان التحكم في المسيرة، أو فقدان الاتصال سواء وصلة التحكم أو الفيديو نتيجة التشويش، لكن بدأت تنتشر مقاطع تظهر فشل هجمات المسيرات بسبب التشويش والاعتراض والشباك المضادة، ما يعني أن المسيرات الصغيرة بوضعها الحالي وصلت إلى سقف الفاعلية الميدانية وتخطته، وبدأت مرحلة جديدة أصبحت فيها مجرد سلاح من أسلحة ميدان الصراع وبفاعلية أقل من فاعلية الموجة الأولى لظهورها بعد فقدان عنصر المفاجأة.
بمقابل وصلات التحكم الراديوية المدنية الرخيصة الحساسة للتشويش، يوجد وصلات راديوية بمعايير عسكرية مشفرة ومضادة للتشويش (منها ما يعمل وفق أسلوب القفز الترددي)، ولكن هذه الوصلات غير متاحة للمدنيين، وينحصر استخدامها في المسيرات عالية الكلفة والمصنعة عند شركات كبرى، وهي بالمجمل لحد اللحظة غير مخصصة للأعمال الانتحارية بل عمليات السطع والقصف من بعد، ولن يطول الوقت قبل ظهور نسخ رخيصة منها مناسبة للاستخدام مع المسيرات الانتحارية الرخيصة، لكن لن تصل بسهولة لأيدي المدنيين بل ستكون محصورة بيد الشركات .
يمكن القول وكنتيحة لعامين من القتال والاستخدام الواسع للمسيرات خلال الحرب الأوكرانية؛ أن التقنية الرخيصة التي استخدمت لتصنيع المسيرات واستخدامها لإغراق الأرتال المدرعة للجيوش النظامية نارياً وصلت إلى ذروة الفعالية خلال الحرب الحالية، وقد بدأ منحنى فاعليتها بالهبوط مع تطور العتاد المضاد للمسيرات والتكتيكات للتعامل معها سواء الأسلحة المضادة للطائرات أو وسائط الحرب الألكترونية أو وسائط الدفاع السلبي، في حين ما تزال المسيرات تحافظ على مستوى تقني ثابت بدون تطوير حقيقي.
الاستثناء العام هو اتجاه تطوير المسيرات ضمن حلقة الفعل ورد الفعل، والتي سينتج عنها مكونات تحكم وملاحة ووعي ظرفي للمسيرات مبنية على تقنيات متقدمة وخاصة الذكاء الصناعي، والتي ستعيد لها بعضاً من الفاعلية التي فقدتها بسبب عملية التأقلم، لكن هذا التطور سيكون محصوراً تقريباً بيد الشركات الكبرى التي تمتلك القدرة التقنية والمالية على خوض مشاريع التطوير الكبرى لخوارزميات ومكونات المسيرات، وستتحول المسيرات الرخيصة المنتشرة حالياً إلى سلاح أقل تأثيراً لكنها لن تخرج من ميدان المعركة، وسيصبح استخدامها أقل وبتكتيكات مختلفة أكثر استفادة من التقنية المحدودة الموجودة فيها.