منقار البطة – التطور العمراني والديموغرافي في الجزيرة العليا
مهند الكاطع – العربي القديم
تتردد تسمية منقار البطة ( BDC -bac du canard) في الوثائق الفرنسية التي تتناول الجزيرة العليا. فأين تقع هذه المنطقة؟ وما أهميتها الجغرافية؟ وكيف تبدلت الحدود فيها؟ وكيف تشكلت إدارياً وتطورت عمرانياً؟
يسعى هذا المقال فلإجابة على كل هذه التساؤلات موثقا معلوماته بالصور والوثائق والخرائط.
أولاً: الحدود
نلاحظ في الخريطة المرفقة صورة مفصلة عن منطقة منقار البطّة التي بقيت موضع نزاع لترسيم الحدود بين فرنسا وبين تركيا منذ عام 1921 وحتى شهر حزيران من عام 1930، وتشمل هذه المنطقة الشريط الشبه مخروطي الذي يضيق من أحد طرفيه إلى أن يصل إلى نقطة الصفر، ومن هنا جاء اسمه (منقار البطة) . وهذه المنطقة يحدها شمالاً مرتفعات طور عابدين ويتخللها جملة من المرتفعات التلية والجبلية بين نصيبين وجزيرة ابن عمر، رأس المخروط في نصيبين، وقاعدته التي يبلغ عندها أقصى درجات العرض عند مرتفعات كراتشوك وصولاً إلى جزيرة ابن عمر.
ثانياً: الجغرافية
جغرافياً يمكن تمييز ثلاث محدادت لمنطقة منقار البطة:
1- من نصيبين إلى جزيرة ابن عمر، الجنوبية لجبل طور عابدين الحدود الشمالية لمنقار البطة، وتمتد إلى جبل إيليم – إيليم داغ (980 متراً) الذي ينفصل عنها باتجاه الجنوب كرأس جبل في السهل (هذه المنطقة كلها في تركيا)
2- في الوسط يشكل عز الدين داغ ( 730 متراً) مرصداً طبيعياً رائعاً يمكن من خلاله غرباً رؤية السهل الذي بعد نصيبين، وفي الشرق مخفض دجلة، وكانت تميزه من بعيد شجرة كبيرة تقع على قمته. (وهذا الجزء أيضاً بقي في تركيا).
3- في الجنوب الشرقي يمتد جبل قراتشوك داغ ( 813 متراً) إلى الغرب بواسطة لايلك داغ (710 متراً) كحاجز يبلغ طوله 40 كم من فيش خابور إلى المصطفاوية، منحدراته الجنوبية هي الأكثر أنحداراً، كانت المصطفاوية تشكل نقطة عبور كراتشوك ومن هنا اكتسبت أهميتها وتنازعت كل من تركيا وأنجلترا وفرنسا على السيطرة عليها. (هذا الجزء تم استعادته إلى سورية سنة 1930).
ثالثاً: الديموغرافية:
شكلت العشائر الكردية الأثنية الأبرز من سكان منقار البطة في تلك المرحلة، حيث يتركز في المنطقى الوسطى من منقار البطة والتي انقسمت لاحقاً بين تركيا وسورية عشيرة الشيتيين الكردية يخالطهم بعض عشائر طيء، يليهم الآليان بزعامة عبدي آغا الذي يقيم في كوندك والعباسا الكردية أيضاً (آباسا)، وقد انقسمت عشائر المنطقة الوسطى وقراها بين تركيا وسورية، وبالاستمرار شرقاً نحو المنطقة الجغرافية الثالثة اقصى الشمال التي بات معظمها في سورية نصادف عشائر الميران الكوجر التي تحتل مع الهاسينان حوض دجلة، يخالطهم فيها الشرابيين العرب في تلك المنطقة، وقد اضيفت إلى هذه العناصر الأصلية عناصر قبلية كردية من الشمال الذين اضطروا إلى اللجوء إلى سورية بعد عام 1926، والعناصر السريانية التي لجأت بعد عام 1930 مع استكمال السيطرة الفرنسية. وفي المنطقة الأولى من منقار البطة إلى الجنوب والجنوب الشرقي من القامشلي تشكل عشائر طيء النواة العربية الأبرز. ناهيك عن العناصر المتنوعة التي استوطنت القامشلي بعد تاسيسها (يهود، أرمن، سريان، عرب ماردين، أكراد..الخ).
تظهر خريطة بريطانية تعود لسنة 1943، كيفية توزع مختلف العناصر الأثنية والدينية (كرد، أرمن، شركس، سريان يعاقبة، آشوريين، يهود، بروتستانت، يزيديين، سريان كاثولين) في الشريط الحدودي مع تركيا حصراً، وهي مسألة نوه إليها محمد كرد علي سنة 1931م في رسالة إلى رئيس الجمهورية آنذاك محذراً من سياسات منح المهاجرين الأراضي في منطقة واحدة، داعياً إلى توزيع المهاجرين ودمجهم بباقي المناطق السورية.
رابعاً: الطرق والمسارات:
لم يكن آنذاك هناك وجود لأي طرق معبدة ومنتظمة في منطقة منقار البطة، باستثناء دروب ومسارات ترابية أهمها:
1- الطريق القديم: طريق مباشر وتقليدي بين نصيبين وجزيرة ابن عمر، أو ماعُرف بالطريق الروماني والذي كان من المفترض أن يشكّل الحدود السورية – التركية وتم الاختلاف في تعيينه بين نصيبين وجزيرة ابن عمر. وتمتع الأتراك والسوريون نفس الحقوق في استخدامه في تلك الحقبة. ويتخلل الطريق القديم القرى التالية: (نصيبين، كويرهاسين Guirhassin، كويرتوين، تل مينار، غريميرا، تل حسن، مريه، غونيك، سيرفان، كيربراز، سيركاني، ألاكاميتش، بانيتش، نار يندجي، جنوب دوبيتش، تل إبيل، كيلاني، بازفت، فورد، شرق جسر صقلان، جزيرة ابن عمر)
2- مسار نصيبين – مصطفاوية
لا تشكل مساراً مستمراً، بل سلسلة من المقاطع المتغيرة، غالباً تكون نصيبين- أزنوار- ديرونة، ولا يتجاوز المصطفاوية.
3- طريق القامشلية -الموصل: وهو طريق القوافل الذي يمر بدمير قبو ويقطع وادي الرميلة، قامت القوات الفرنسية بتطويره وجعله مناسباً للمركبات، وتم بناء العديد من المجاري التي تسمح بمرور المركبات في جميع الفصول. وهو الوحيد الصالح للمركبات، أما باقي المسارات لا تصلح إلا للبغال ولا يمكن الوصول إليها إلا بواسطة الحيوانات أو المشاة.
خامساً: المهاجرون
بهذه السيطرة والاتفاقيات الموقعة مع الجانب التركي وصل الفرنسيون إلى دجلة في 4 حزيران 1930، واستكملوا سيطرتهم على جزء من منقار البطة وتم تشكيل قضاء دجلة وتعيين كادرها الإدراي، فكان أول قائمقام فيها هو شفيق الراشد، وأول حاكم صلح شفيق الجبل، وتم تعيين تشكيلات الدرك وخلافها، وبدأت المنطقة وبتشجيع فرنسي تستقطب المهاجرين من الأراضي التركية وبشكل خاص السريان من مناطق آزخ وجزيرة ابن عمر وباقي المناطق الشمالية.
- تشكيل قضاء دجلة :
أدى ضمّ المناطق الجديدة إلى اتساع الرقعة الجغرافية لمنطقة الجزيرة الأمر الذي خلق حاجة إلى فصلها عن دير الزور وإعادة تشكيل مناطقها إدارياً فصدر القرار الإداري رقم 2392 في 1 أيلول/سبتمبر 1930 القاضي بتشكيل لواء الجزيرة مركزه الحسجة الذي ضم منطقة إدارية جديدة حملت اسم قضاء دجلة ومركزه عين ديوار.
تم تعيين السيد شفيق الراشد (مدير ناحية المعرة) مديراً من الدرجلة الأولى وعُهد إليه بوكالة قائمقامية الدجلة بموجب القرار رقم 2586 المؤرخ في 2 تشرين الثاني / نوفمبر 1930. وبدأ العمل على تطوير القضاء الجديد، فأحدثت شعبة توزيع مساعدة للبريد في عين ديوار في 1 آذار / مارس 1931 وتم ربطها بمركز البريد والبرق في القامشلي. وبالنظر إلى بلوغ الواردات المخمّنة للرسوم البلدية في قصبة عين ديوار أكثر من خمسمئة ليرة سورية، فقد تقرر تأليف لجنة بلدية في قصبة عين ديوار وأصبحت بلدية.
عين ديوار القديمة والحديثة:
كانت عين ديوار سنة 1931 تتألف من ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: هو القسم الصغير ومحل قرية عين ديوار الفرعية، وموقعها أول القصبة، أهالي القسم مسلمون (معظمهم أكراد) وكانوا زهاء 50 عائلة.
- القسم الثاني: وهو في اليمين، عبارة علن تلّة فوقها قشلة عسكرية للفرنسيين مع جنود من المتطوعين معظمهم من العناصر المسيحية اللاجئة من جبال الطور وآزخ لا يقل عددهم عن 50 عائلة قرب القشلة.
- القسم الثالث: وهو ما يسمى مركز قصبة عين ديوار، وهي على أكمة مطلة على نهر دجلة، تبعد عن قرية عين ديوار القديمة 8 كم، تم انشاؤها سنة 1930 وفيها مركز للمستشار الفرنسي والحكومة التي يرأسها القائمقام، الذي أصبح غانم افندي غنيمة ( قائمقام دجلة).
من عين ديوار إلى ديريك
عند تأسيس قضاء دجلة كانت (ديريك) عبارة عن قرية صغيرة تابعة لقصبة عين ديوار، وديريك هو تصغير دير، بالسريانية (ديروني) والاسم منسوب إلى دير صغير يقع شرقة هذه القرية قديماً تابع لأبرشية بازبدي.
موقع (ديريك) سمح لها بالتطور الديموغرافي السريع، فقد بلغ عدد سكانها سنة 1931 نحو 900 نسمة جميعهم من المسيحيين، لتتحول مع حلول عام 1933 إلى قصبة ، وقد تقرر إحداث بلدية فيها (بلدية ديريك) في 18 تموز/ يوليو 1933. كما تم تعيين السيد محمد كنجو قائمقام جديد لقضاء دجلة في آواخر تشرين الثاني/نوفمبر 1933. وفي أيلول/ سبتمبر 1936 تم تخصيص مبلغ من المال كسلفة لبناء مقر الحكومة في عين ديوار، لكن سرعان ما تم إلغاء قضاء دجلة، قبل أن يعادل تشكيله في 21 أيلول/ سبتمبر 1939 لتصبح ديريك هذه المرة مركزاً للقضاء، بدلاً عن المركز السابق عين ديوار، والتي تحولت إلى ناحية تتبع هي وناحية ديرونا آغا لقضاء دجلة.
من ديريك إلى المالكية
في 24 آذار / مارس 1957، وبموجب المرسوم رقم 346 تم تعريب اسم ديريك إلى المالكية، وبقيت ديريك (المالكية) حتى سبعينيات القرن الماضي بلدة متواضعة لا تتجاوز مساحتها العقارية 0.5 كم مربع، لكنها نمت وتوسعت خلال النصف قرن الماضي إلى نحو 6 أضعاف مساحتها السابقة، وهي مركز منطقة في محافظة الحسكة يتبعها ناحيتان هما اليعربية (تل كوجر/كوجك) والجوادية (جل آغا).