فنون وآداب

رحيل مؤرخ إدلب: الوثيقة الأخيرة في وداع فايز قوصرة

مهنَّا بلال الرَّشيد – العربي القديم

ودَّعت مدينة إدلب شمال غرب سوريا يوم الخميس الواقع في الثَّالث والعشرين من أيَّار مايو 2024 ابنها البارَّ بها ومؤرِّخها الأبرز فايز قوصرة عند عمر يناهز 79 عامًا، بعد أن قضى ثلاثة أرباع حياته في توثيق تاريخ مدينته وأرشفته، وقد نعا الفقيدَ مجموعة كبيرة من أصدقائه ومحبِّيه وعدد من أبناء الوسط الثَّقافيِّ السُّوريِّ تقديرًا لجهوده في توثيق جانب كبير من تاريخ سوريا وأرشفته.

وُلد الرَّاحل بين أوابد مدينة إدلب التَّاريخيَّة العريقة مع نهاية الحرب العالميَّة الثَّانية سنة 1945؛ ولأنَّ الإنسان محكوم بشروطه التَّاريخيَّة شغف الرَّاحل بالتَّوثيق والأرشفة وكتابة التَّاريخ؛ وقد لا ينجو من هذا الشَّغف أيُّ مثقَّف ينشأ في إدلب محافظة المدن والممالك المنسيَّة بعد الحربين العالميَّتين الأولى والثَّانية بوقت قصير، كذلك كان الرَّاحل سبطًا لمؤرِّخ حلب الشَّهير محمَّد راغب الطَّبَّاخ الحلبيِّ صاحب كتاب (إعلام النَّبلاء في تاريخ حلب الشَّهباء)، وبهذه الجينات الوراثيَّة المحبَّة للتَّأريخ والتَّوثيق والأرشفة اكتملت أثافيُّ شغفه بعد السِّاقين الزَّمانيِّ والمكانيِّ، وسُرعان ما انعكس ذلك على ميوله واتِّجاهاته؛ فبدأ يرتاد المركز الثَّقافيَّ في إدلب منذ تأسيسه سنة 1960، ونشر أولى مقالاته عندما كان طالبًا في الثَّانويَّة في جريدة الخمائل الحمصيَّة سنة 1962، ثمَّ درس في جامعة دمشق، وحصل على إجازتين جامعيَّتين منها، واحدة من قسم التَّاريخ، والثَّانية من قسم الدِّراسات الفلسفيَّة والاجتماعيَّة؛ ممَّا زاد نضوج وعيه التَّاريخيِّ، وكرَّس حبَّه في توثيق تاريخ أجداده في كلٍّ من إدلب وإيبلا ومعرَّة النُّعمان وكفرتخاريم وسائر شمال غرب سوريا.

فايز قوصرة مع أحد أحفاده يستعرض حصيلة عمر من التأريخ

آمن بالنَّجاح فكتب ما يقرب من أربعين كتابًا منشورًا ومخطوطًا

برغم معاناة الرَّاحل الكبير من التَّهميش الممنهج لمدينة إدلب وكثير من أوابدها ومنجزات مثقَّفيها في دولة البعث لم يستسلم المؤرِّخ الرَّاحل لهذا النَّوع القاسي من الحروب الظَّالمة، بل حمل قلمه بيمينه وآلة تصويره بشماله، واتَّخذ من عنوان مقاله الأوَّل (إيمان بالنَّجاح) عنوانًا لحياته كلِّها، وراح يوثِّق تاريخ الأجداد العريق من (إيبلا إلى إدلب)، وتحدى الإهمال والتَّعتيم الممنهجين، وآمن بنفسه، وظلَّ بجهوده الفرديَّة الخالصة يتحدَّى تهميشه وتهميش (إدلب) مدينته الَّتي أحبَّها، فكتب ما يربو على أربعين كتابًا، أنفق من قوته وقوت عياله على نشر نصفها تقريبًا، وما يزال النِّصف الثَّاني منها كنزًا ثمينًا، يحتاج إلى يتعهَّده بالنَّشر والعناية تقديرًا لجهود هذا المؤرِّخ المثابر، الَّذي لم يسكت تناسي مدينته؛ فكتب (إدلب البلدة المنسيَّة) في جزئين، وراح يوثِّق تاريخ مدن الشِّمال السَّوريِّ العريقة واحدة بعد أخرى؛ فأخذنا في جولات أرشيفيَّة توثيقيَّة شيِّقة ومهمَّة للغاية في متحف معرَّة النُّعمان وفي مُدن حارم وكفر تخاريم ومعرَّة مصرين وقلب لوزة وجبل الزَّاوية وجبل باريشا وغيرها، وكتب لنا عن تاريخ ولاية الفوعة والثَّورة العربيَّة في الشِّمال بقيادة إبراهيم هنانو، ووثَّق آثار الحضارة الإسلاميَّة في محافظة إدلب، وجمع لنا معظم مشاهدات الرَّحَّالة وكتاباتهم عن إدلب منذ نشاطهم الأخير خلال ثلاثمئة سنة تقريبًا في كلٍّ من مصر وبلاد الشَّام، وبقي يكتب، ويخطُّ، ويوثِّق، حتَّى أدخله مرضه الأخير في غيبوبة، امتدَّت ما يقرب من عشرين يومًا، انتهت بوفاته ورحيله عند دار الظُّلم والتَّهميش والعناء إلى دار العدل والإنصاف والبقاء.

النِّزاع الأخير وشغف التَّوثيق

فاز فيلم (النِّزاع الأخير) الوثائقيُّ الَّذي صوَّره ابن إدلب الآخر علاء السِّيِّد عيسى بجائزة مسابقة الجزيرة عن الأفلام الوثائقيَّة القصيرة، وقد عكس هذا الفيلم شيئًا من معاناة فايز قوصرة المؤرِّخ من ظروف الحرب وشَظف العيش فيها وعجزه عن التَّنقَّل بين أوابد الأجداد والمدن المنسيَّة الَّتي أحبَّها. تألَّم المؤرِّخ الرَّاحل بسبب مشاهداته براميل مروحيَّات المجرم بشَّار الأسد، وهي تتساقط على قصور الأجداد ونقوشهم وجداريَّاتهم في ممالك إدلب وأوابد مدنها المنسيَّة بدلًا من أن تعتني بها، وتحوِّل أقواسها وتيجان الأعمدة في قصورها ونقوشها ولوحات فسيفسائها إلى أكبر متحف على مستوى العالم للحضارات المتعاقبة؛ نعم إدلب الَّتي وثَّقها فايز قوصرة أكبر متحف للحضارات المتعاقبة بين ضفاف نهر العاصي وضفاف نهر الفرات على سفوح جبل الزَّاوية وجبل باريشا وفي سهول الغاب والرُّوج والبادية الَّتي تتَّصل بسهول بادية تدمر والحماد. لقد تنقَّل الرَّاحل بين هذه الضِّفاف والسُّهول والسُّفوح والهضاب، وتفرَّدت عدستا عينيه بتقديم أوَّل لمعظمها. 

ملصق فيلم (النزاع الأخير) لعلاء السيد عيسى: رحلة توثيق ما حل بالآثار مع فايز قوصرة

موسوعة أرشيف كبيرة ومكتبة تاريخيَّة أثريَّة متنقِّلة

يطلق طلَّاب التَّاريخ والآثار في الشِّمال السُّوريِّ على الرَّاحل فايز قوصرة لقب المكتبة الأثريَّة والعين الوثائقيَّة المتنقِّلة، وقد استحقَّ هذا اللَّقب عن جدارة، ولو فتح القارئ كتابًا من كتبه سيعثر فيه على عشرات الوثائق، إن لم نقل المئات، الَّتي تتراكم في كتبه الكثيرة؛ لتصير مئات وآلافًا، تفرَّد بنقلها دوننا جميعًا، وتفوَّق بجهوده الشَّخصيَّة في هذا المجال على وزارة الثَّقافة ومديريَّة المتاحف وأقسام التَّاريخ والآثار مجتمعين؛ لذلك أحبَّ الرَّاحل أبناء سوريا كلِّهم، لا سيَّما المشغوفون بتاريخ أجدادهم من المثقَّفين والمؤرِّخين وطلَّاب الآثار والتَّاريخ، ويكفي للاستدلال على هذا أن يفتح القارئ الكريم صفحة الرَّاحل في موقع الفيس بوك؛ ليشاهد مجموعة كبيرة من صوره ووثائقه، الَّتي تفرَّد بجمعها، ويقرأ عددًا كبيرًا من مقالات كتبه، ويستمتع بتلك المقالات المتميِّزة من كتبه المخطوطة، الَّتي تغري كلَّ غيور بأن يثني على جهود الرَّاحل، ويسعى إلى نشرها؛ لنقدِّر هذا المؤرِّخ بعد رحيله، وليستفيد التَّراث الإنسانيُّ من جهود رجل رصد ثلاثة أرباع حياته للجمع والكتابة والتَّوثيق؛ ولتكتمل بهذه الجهود هذه الوثيقة الأخيرة من حياة مؤرِّخ مكافح نذر نفسه وماله ووقته لأجيال قادمة ستقدِّر واحدًا من أميز أجدادها المؤرِّخين، عاش بين سهول إدلب، وأخلص لجبالها وهضابها، منذ نعومة أظفاره حتَّى احتضنته هذه السُّهول بعد وفاته ورقوده في مثواه الأخير!

زر الذهاب إلى الأعلى