الرأي العام

مستقبل الجماعات الوظيفيَّة بعد مقتل حسن نصر الله

يكتبها: مهنا بلال الرشيد

نفَّذت الطَّائرات الإسرائيليَّة غارات على مقرَّات حزب الله وملاجئه تحت الأرض في ضاحية بيروت الجنوبيَّة بعد سلسلة من العمليَّات الاستخباراتيَّة الدَّقيقة، سبقها قبل عشرة أيَّام تقريبًا تفجير حوالي 5000 جهاز من أجهزة الاتِّصال غير الذَّكيَّة المعروفة باسم متصفِّحات البيجر (Pagers) مع أجهزة اللَّاسلكيِّ، الَّتي تسبَّبت بمقتل أو عطب كثير من حامليها، وبعدما فجَّرتها إسرائيل بحامليها خلال يومين (17-18) أيلول 2024 من خلال اختراق (أمنيِّ-استخباراتيٍّ-سيبرانيٍّ)، وكبَّدت بذلك حزب الله خسائر بشريَّة فادحة، طالت قياداته، ودمَّرت منظومة اتِّصالاته، قرَّرت تصفية حسن نصر الله قائد حزب، الَّذي فهم من هذه العمليَّات المتسارعة انتهاء دوره الوظيفيِّ برغم التزامه بقواعد الاشتباك وقصف العمود خلال سنة طويلة من (الحرب) مع إسرائيل بعد إطلاق حركة حماس عمليَّة (طوفان الأقصى) في السَّابع من أكتوبر/تشرين الأوَّل 2023 في غزَّة. وبرغم تدابير حسن نصر الله الأمنيَّة المتشدِّدة ومخاطبته جمهوره من خلف الشَّاشات منذ زمن بعيد، إلَّا إنَّ إسرائيل استطاعت تحديد موقعه خلال اجتماعه مع قيادات حزبه، ودمَّرت البناء المركزيَّ لحزب الله والأبنية المحصَّنة تحته في ضاحية بيروت الجنوبيَّة؛ ممَّا أسفر عن مقتل حسن نصر الله والصَّفِّ الأوَّل من قيادات حزب الله خلال عمليَّة القصف يوم الجمعة 27 أيلول، وأُكِّد خبر اغتياله صبيحة يوم السَّبت التَّالي في 28 أيلول 2024، وقد عمَّت الأفراح سائر بيوت السُّوريِّين داخل سوريا وخارجها؛ نتيجة لجرائم حزب الله الكثيرة ومساندته نظام المجرم بشَّار الأسد خلال 13 سنة من اندلاع ثورة السُّوريِّين ضدَّ نظام المجرم بشَّار الأسد.

وبرغم انخفاض منسوب التَّفاؤل لدى السُّوريِّين وقَّع بنيامين نتنياهو قبل سفره إلى نيويورك على قرار تصفية حسن نصر الله، الَّذي كان يقود حزب الله بوصفه رئيسًا لأكبر جماعة وظيفيَّة مسلَّحة، أدَّت دورها خلال أكثر من ثلاثة عقود من الزَّمن في هذه المنطقة؛ فلماذا تخلَّص نتنياهو من نصر الله؟ ولماذا تخلَّص من إسماعيل هنيَّة قائد حماس قبله؟ وهل اقترب موعد تصفية المجرم بشَّار الأسد؟ وهل بشَّار قائد جماعة وظيفيَّة؟ وما معنى الجماعة الوظيفيَّة؟ وكيف ينتهي دورها؟

الجماعة الوظيفيَّة

يُعرِّف عبد الوهاب المسيريُّ الجماعات الوظيفيَّة بأنَّها:

“مجموعات بشريَّة تستجلبها المجتمعات الإنسانيَّة، من خارجها في معظم الأحيان، أو تجنِّدها من بين أعضاء المجتمع أنفسهم من بين الأقلِّيَّات الاثنيَّة أو الدِّينيَّة، أو حتَّى من بعض القرى أو العائلات، ثمَّ يوكل لأعضاء هذه المجموعات البشريَّة أو الجماعات الوظيفيَّة وظائف شتَّى لا يمكن لغالبيَّة أعضاء المجتمع الاضطلاع بها لأسباب مختلفة”.

ينطبق تعريف الجماعة الوظيفيَّة تمامًا على قيادة حزب الله وجنوده، ويتماهى هذا التَّعريف مع جماعة اتِّصالات البيجر واللَّاسلكيِّ برغم محاولة المجموعات الوظيفيَّة الإعلاميَّة الأخرى الخاضعة لنفوذ المموِّلين الإسرائليِّين من تلطيف مصطلح الجماعة الوظيفيَّة بإطلاقها مصطلح (الفواعل) مرَّة، وتسمية ما يقرب من عشرين مؤسَّسة إعلاميَّة تابعة لهم بأسماء: العرب والعروبة والعربيِّ وسوريا ذاتها أو أسماء جبالها ومعاركها إلَّا إنَّ معظم المتابعين وكثيرًا من العاملين في هذه (المؤسَّسات) يعلمون جيِّدًا أنَّهم ليسوا إلَّا أعضاء في جماعات وظيفيَّة ستنتهي أدوارهم بانتهاء مصلحة المموِّل أو عند تنامي قناعته بعدم جدوى هذه الجماعة التَّي يموِّلها، أو عند ظهور جماعات أخرى أو تفاهمات كبرى تدفع المموِّل إلى الاستغناء عن جماعته أو جماعاته الوظيفيَّة أو تصفية قادتها كما فعلت إسرائيل بإسماعيل هنيَّة وحسن نصر الله وغيرهما قبيل الانتخابات الأمريكيَّة القادمة في الخامس من نوفمبر/تشرين الثَّاني، حيث يتوقَّع نفر من المتابعين ظهور تفاهمات دوليَّة كبرى بعد هذه الانتخبات الأمريكيَّة القادمة، ويرجَّح أن تنطلق هذه التَّفاهمات من ملفِّ إيران النَّوويِّ؛ لتلقي بظلالها على الثَّورة السُّوريَّة وخريطة سوريا ومستقبل بلاد الشَّام ومعظم الدُّول العربيَّة في القسم الآسيويِّ من الشَّرق الأوسط.

سيكولوجيا أفراد الجماعات الوظيفيَّة

إذن، يُنتقى أفراد الجماعة الوظيفيَّة وقادتها بعناية كبيرة، وفي غالب الأحيان لا تصلح أكثريَّة المجتمع؛ لتكون جماعة وظيفيَّة، بل قد يُنتقى شُذَّاذ الأكثريَّة فقط؛ لإظهار أقلِّيَّات الجماعات الوظيفيَّة بلبوس المجتمع المتجانس أو النُّخبة الثَّقافيَّة المؤثِّرة، ويُستعان ببعض الممثِّلين واليوتيوبريَّة والشَّعارير وطبول الإعلاميِّين ومنافيخهم للتَّعمية على التَّعاون مع الأقلِّيَّات والشُّذَّاذ المجنَّدين في الجماعات الوظيفيَّة؛ فيبدو بذلك التُّلفزيون الَّذي يديره الإسرائيليُّ كأنَّه تلفزيون المجتمع السُّوريِّ كلِّه على سبيل المثال. وكذلك يمكننا ههنا الاستشهاد بالكيفيَّة الَّتي جَنَّد بها حسن نصر الله كثيرًا من أبناء الجنوب اللُّبنانيِّ بدعوى مقاومة العمود الإسرائيليِّ مستغلًّا شعورهم الدِّينيَّ مع البعد الطَّائفيِّ أيضًا، وبهذه الطَّريقة أيضًا اُختير حافظ الأسد وابنه بشَّار لرئاسة سوريا؛ أي قدَّمتهما الدُّول الكبرى لرئاسة سوريا لتحقيقهما شرط الانتماء إلى الجماعة الوظيفيَّة؛ وههنا لا نعني أبدًا أنَّ الطَّائفة العلويَّة كلَّها جماعة وظيفيَّة، ولكن نشير إلى دور عائلة الأسد في تجنيد كثير من أبنائها من خلال تنسيبهم لحزب البعث؛ ليصير الحزب حامل الجماعة الوظيفيَّة المتشكِّلة من شُذَّاذ الطَّوائف والعوائل كلِّها، وكذلك؛ وبهذه الطَّريقة أيضًا انتسب شبَّاب بعض العوائل كلُّهم إلى الجيش السُّوريِّ الحرِّ، وأسَّست بعض العشائر والقبائل فصائل ثوريَّة منضوية تحت لواء العشيرة أو القبيلة؛ ليضمن المنتسبون رواتب تعينهم على رمق الحياة، وتضمن عوائلهم وعشائرهم نفوذها داخل الجيش الحرِّ، ولا نعدم بعض العوائل والعشائر، الَّتي قسمت أبناءها عن وعيٍ تامٍّ، أو انقسم أبناؤها بين الانتساب لفصائل الثَّورة وجماعات بشَّار الأسد الوظيفيَّة.

وبرغم هذا كلِّه يدرك بعض المتنوِّرين مخاطر تحويل الطَّائفة أو القبيلة أو العشيرة أو العائلة أو الحزب إلى جماعة وظيفيَّة؛ فيبتعدون عن الانخراط في هذه الجماعة الوظيفيَّة أو تلك؛ ليسدَّ مكان المتنوِّرين بعضٌ من شذَّاذ الأكثريَّة أو موتوري الأقلِّيَّات الطَّامعين بامتيازات التَّعاقد مع مموِّل الجماعات الوظيفيَّة (العسكريَّة والإعلاميَّة)؛ وههنا تبدو الجماعة الوظيفيَّة-للوهلة الأولى-مجتمعًا متجانسًا أو مجتمعًا نخبويًّا؛ بسبب الإنفاق عليها وارتفاع دخلِ أفرادها وتنسيقهم فيما بينهم للإدلاء بآراء وتصريحات وتحليلات مع كلِّ حادثة رأي عامٍّ تحظى بتغطية واسعة؛ كحوادث البيجر واللَّاسلكيِّ وتصفية حسن نصر الله وقادة حزب الله. وقد كانت التَّحليلات المبثوثة على قناة الجزيرة-على سبيل المثال-ملفتة للانتباه ومجافية لمنطق الحقائق في كثير من الأحيان خلال عشرة أيَّام من تغطية الأحداث في لبنان منذ تفجير البيجرات وأجهزة اللَّاسلكيِّ يومي (17-18) أيلول 2024 حتَّى ما بعد تصفية حسن نصر الله يوم الجمعة الفائت في 27 أيلول 2024، وتناغمت تحليلات ضيوف الجزيرة مع منشورات وتحليلات كثير ممَّن يخضعون لنفوذ التَّمويل الإسرائيليِّ في الإعلام، وهذا إن دلَّ على شيء فإنَّه يدلُّ على رأس مدبِّر واحد، يدير مجموعة وظيفيَّة كبيرة، أو مجموعة كبيرة من الجماعات الوظيفيَّة المتناغمة، الَّتي يعلم بعض أفرادها دورهم الَّذي يؤدُّونه، ولا يعلم الآخرون شيئًا، وهذه هي الطَّامَّة الكبرى؛ لأنَّك أيُّها العضو في أيِّ جماعة وظيفيَّة، وبحسب قول الشَّاعر:

إن كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ!

ينظر المموِّلُ إلى جماعته الوظيفيَّة بوصفها وسيلة لا غاية؛ فينظِّم علاقة تعاقديَّة نفعيَّة معها بوصفها أداة نافعة يعطي لأفرادها من الأموال والامتيازات بمقدار ما ينتفع منهم، ويربطهم بهيمنته؛ ليضمن عجزهم من دونه؛ فيُخلصون في ولائهم له، ويرسُّخ المموِّل عزلتَهم عن باقي مكوِّنات المجتمع “عن طريق الزَّيِّ أو المسكن أو اللُّغة أو العقيدة أو الانتماء الاثنيِّ”؛ فيظنُّون أنَّهم بأبَّهة الأموال من علية القوم، وهذا ما يعزِّز إحساسهم بالغربة والعزلة الاجتماعيَّة في الزَّمان والمكان، ويكرِّس عبوديَّة أبناء الجماعة الوظيفيَّة لمموِّلهم؛ فينعكس ذلك على ضعف انتمائهم، وقلَّة إحساسهم بهويَّتهم الوطنيَّة القديمة أو أيِّ هوئيَّة ناشئة غير هويَّة المموِّل، الَّذي لا يمنحهم شيئًا غير الأموال، ولا يمكنه منحَهم وطنًا، بل يحارب بأمواله عودتهم لبناء الوطن بعد تخليصه من المجرمين، وقد يشعل الانتماء العاطفيُّ السَّابق لوطنهم الأصليِّ عاطفتهم المشبوبة؛ “فيتصوَّرون أنَّهم جزء من تاريخه وتراثه؛ فيتعمَّق شعورهم بالغربة نحو المجتمع المضيف؛ [أي مجتمع الأموال والأُبَّهة؛ كغربة بعض أفراد الجماعات الوظيفيَّة المقاتلة في سوريا، وغربة بعض المجنَّدين للعمل في الإعلام الخاضع لأجندات المموِّلين]-ويعيشون فيه دون أن يكونوا منه”.

قادة حركات ورؤساء أحزاب ودول أم قادة جماعات وظيفيَّة؟

قدَّمت لنا أحداث النِّصف الثَّاني من أيلول 2024 في لبنان وأحدث السَّنوات العشر الأخيرة من الثَّورة السُّوريَّة نماذج واضحة عن صناعة الجماعات الوظيفيَّة وتحويل الدَّولة من خلال جرائم رئيسها المستبدِّ إلى دولة وظيفيَّة إذا أمسك دكتاتور مثل بشَّار الأسد  بكرسيِّ الرِّئاسة أو الحكم فيها عن طريق التَّنكيل بشعبها وتزوير الانتخابات؛ ولذلك تعلو لدى الشَّعب رغبة الخلاص من المجرمين، وبأيِّ ثمن كان؛ ومن هنا يستغلُّ المموِّل هذه الرَّغبة؛ فيُجنِّد السُّذَّج في جماعاته الوظيفيَّة، الَّتي يُنشئها، أو يتسوتردها، أو يستأجرها، أو يجنِّد أفرادهت، ويشرف على أدلجتهم، ويوظِّف أفرادها العسكريِّين على الجبهات، ويوظِّف الإعلاميِّين على مواقع السُّوشال ميديا ومنابر الإعلام، ويوكل “إليهم مهامَّ لا يمكن أن توكل لعضو المجتمع المضيف أو العضو الأصيل (حتَّى لا تزداد قوَّته)، ويستخدمهم أداة لقمع جماهير المجتمع ولامتصاص ما قد يتراكم من ثروات وفوائض لديهم، وبالمقابل يضمن لهم بقاءهم واستمرارهم. ولكنَّه في الوقت نفسه لا يشركهم في السُّلطة الحقيقيَّة، فهم-في الحقيقة-بلا قاعدة بين الجماهير أو أساس للقوَّة، وفي حالة خوف دائم منها، وهم من ثمَّ لا يطمحون في المشاركة في السُّلطلة [بقدر ما ينزعون إلى كسب الأموال] بسبب وضعهم. وقد يتعمَّق ولاء الجماعة الوظيفيَّة لمموِّلها إلى درجة أن تصبح في كثير من الأحيان جماعة وظيفيّة عمليَّة” تنفِّذ أوامره دون تفكير بعواقبها الوخيمة، وتقترب بذلك نهاية الجماعة الوظيفيَّة ونهايات أفرادها؛ فتبدأ بالتَّخلُّص من بعض أفرادها وقادتها؛ فيتخلَّص هذا من ذاك، ويتغدَّى الأوَّل بالثَّاني قبل أن يتعشَّى المغدور به؛ وهكذا تتفكَّك الدُّول والأحزاب والحركات والفصائل والمؤسَّسات الوظيفيَّة، أو هكذا تتفكَّك الجماعات الوظيفيَّة، ولا يمكن لرئيس أيِّ جماعة وظيفيَّة أن يكون رئيسًا عضويًّا فاعلًا حتَّى وإن ظهر بمظهر البطل لمدَّة طويلة من الزَّمن-كما ظهر بشَّار الأسد في بعض القمم العربيَّة، وكما ظهر حسن نصر بعد تمثيليَّة حرب تمُّوز 2006-حتَّى وإن أخذ لقب الرَّئيس وامتيازات القائد، ثمَّ يدخل التَّفكُّك إلى بنية الحركة والحزب والدَّولة؛ أي بنية الجماعة الوظيفيَّة كلِّها، ويدرك أفرادها أنَّهم يعيشون المرحلة الأخيرة من وجودهم الوظيفيِّ، لا سيَّما في مرحلة التَّفاهمات والتَّحوُّلات الكبرى، ثمَّ يأفل نجم الجماعة الوظيفيَّة، ويغيب تأثير أفرادها، ويُراجع المجتمع سلوك أفراده المخلصين من المثقَّفين المتنوِّرين والملتزمين بقضاياهم الأخلاقيَّة خلال حقبة زمنيَّة طويلة بعيدًا عن مموِّلي الجماعات الوظيفيَّة، وينتقي من هؤلاء الشُّرفاء قياداته الجديدة.

زر الذهاب إلى الأعلى