فيلم (نحن من هناك): مذكرات سوريَين في المنفى بعين مخرج لبناني
العربي القديم- أحمد صلال
من الأفلام الهامة التي عالجت نزيف الهجرة في هذا الشرق الأوسط الذي يلفظ أبناءه فيلم (نحن من هناك) صحيح أن الفيلم أنتج منذ أربعة أعوام، لكنه تميز عن سيل الأفلام المتشابهة الموضوع برؤيته ولغته الفنية، الأمر الذي أهله للحصول على جائزة أفضل فيلم عربي مناصفة مع الفيلم الفلسطيني (غزة مونامور) في مهرجان القاهرة بدورته الثانية والأربعين عام 2020
يقرر شقيقان سوريان شابان مفعمان بالأمل المغادرة؛ لإعادة بناء حياتهما في مدن أجنبية. يتركان كل شيء وراءهما، باستثناء عطشهم اللامتناهي للحياة، وتصميمهم وروح الدعابة، ورغبتهم في مستقبل أفضل.
هما شقيقان: أحدهما هو عازف البوق، والآخر نجار. كلاهما يزرعان فنّهما، وتفصل بينهما مئات الكيلومترات، أحدهما في جحيم سوريا، والآخر في لبنان، ويكتمل الحديث لو ذكرنا أيضاً المخرج وسام طانيوس، ابن الخال الذي يرافق مشروع هجرة هذين الشابين بكاميرته. “نحن من هناك” ليس فيلماً وثائقياً آخر عن الهجرة. يستعير الفيلم في الواقع أسلوب التخييل الذاتي، حيث يمزج بمهارة صوراً من طفولة الأولاد الثلاثة، مع مشوار الهجرة والتشرد والابتعاد عن موطن الذكريات، ويذهب السرد السينمائي اتجاه ألمانيا والسويد.
هذه القصة إذن، هي قصة رحلة هجرة تهدف، قبل كل شيء إلى الرغبة في التحرر الاجتماعي والثقافي. الشباب لا يهربون من جذورهم، أو أسرهم أو أحلامهم. لديهم فقط انطباع، بأن البلد الذي يعيشون فيه لا يوفر لهم الفرص نفسها التي يوفرها العديد من مواطني العالم.
في الواقع، تثير هذه التجربة السينمائية بمهارة مسألة مشروع الهجرة الذي يُراد له أن يكون اقتصادياً، بقدر ما هو اجتماعي. قبل أن يصبحا مهاجرين، كان هذان الشقيقان رجلين حساسين، مرتبطين بهويتهما، وليس لديهما خيار لإعادة اكتشاف نفسيهما في مكان آخر، على الأقل يشعران بأن وضعهما مقيد كشبان يفترض أن مستقبلهما أمامهما كما يقال. تنجو القصة من الصعوبات التي يواجهها كل مهاجر، عندما يضطر إلى الاستقرار في بلد مضيف. التحدي الذي يواجهه المخرج هو تصوير كيفية حدوث الانتقال من الهروب، والتثاقف إلى نموذج جديد للمجتمع.
يتحدث الفيلم الوثائقي بصدق، وتواضع عن ألم فراق الأحباء، وعن فقدان القدرة على التحمل، وعن المخاطر النفسية، والجسدية التي تنتظر كل واحد من الرجال فريسة مشروع المنفى. لكن بعيداً عن المنزل تمكن من الهروب من البؤس، أو الرضا عن النفس. من جهته، يقرر المخرج وسام طانيوس البقاء في لبنان؛ لتعميق عمله كمخرج، ولذلك فهو ليس فيلماً وثائقياً دعائياً عن طرق الهجرة. الفيلم عبارة عن قصة رجال تدفعهم الرغبة، في أن يكونوا على طبيعتهم بشكل مختلف. وبهذا المعنى، فهو عمل استهلالي يجب أن يتعامل مع عذابات الهجر، ومجهول الأرض المضيفة. الصورة جميلة جداً، والتواريخ القديمة تشهد على فترة طويلة من التفكير، ونضج المشروع السينمائي.
“بعيداً عن الوطن” هو فيلم، إن لم يكن مفيداً، فهو في كل الأحوال مفيد في تشكيل صورة الهجرة، بخلاف الصور التي تقدمها وسائل الإعلام، أو الخطابات السياسية. يجعل الفيلم الوثائقي هذه التجربة الحياتية إنسانية تماماً، وقريبة تماماً من الذات، والتي يمكن أن تكون تجربة أي شخص يغادر بلده، مهما كان السبب.