الرأي العام

دلالات وقضايا | ثقافة المجتمع وثقافة الأقلِّيَّة

يكتبها: مهنا بلال الرشيد

مرَّ ثلاث عشرة سنة من عمر الثَّورة السُّوريَّة ضدَّ عائلة الأسد، الَّتي حكمت سورية منذ أكثر من أكثر من خمسين سنة باسم حزب البعث العربيِّ الاشتراكيِّ صارت ثقافة الدَّولة وثقافة المجتمع ظاهرة بحثيَّة تستحقُّ الدِّراسة في مناطق النُّفوذ الرَّاهنة في سوريا، وذلك بعد مرور خمسين سنة من حكم عائلة الأسد المجرمة، الَّتي صنعت ثقافة جمعيَّة بعدما جعلت حزب البعث قناعًا لسطوتها، وصار خيرَ وسيلة هذه العائلة لإخفاء طائفيَّتها واعتمادها على الفاسدين لإحكام قبضتها على الدَّولة، وسيطرت من خلال رجال الحزب من أعوانها الفاسدين وأدواتها على أهمِّ مؤسَّسات الدَّولة السُّوريَّة وأدقِّ مفاصلها، ولا نرمي في هذا المقال لتشريح أيديولوجيا حزب البعث، الَّذي صار وسيلة عائلة الأسد لقمع الشَّعب السُّوريِّ، وإنَّما سنتحدَّث عن الفرق بين ثقافاة الدَّولة ونشرها من خلال التَّعليم وثقافة المجتمع، الَّتي تنتشر تلقائيًّا من خلال تفاعل الفرد مع عائلته والعوائل الأخرى في حيِّه ومدينته. فحزب البعث مثلًا-عندما حكم سوريا أراد المشرفين على التَّعليم فيه ضخَّ الأيديولوجيا البعثيَّة في المناهج لأدلجة الأجيال؛ ولصناعة المواطنين الصَّالحين من منظور عائلة الأسد، والمخلصين لها، والمتفانين في خدمتها، ولم يرغب المشرفون التَّعليميُّون أبدًا بتنشئة المواطنين الصَّالحين لخدمة الدَّولة والمجتمع.

بدأ مشرفو البعث أدلجة التَّلاميذ في مدارس التَّعليم البعثيَّة منذ مرحلة الطُّفولة المبكِّرة؛ وذلك حين خلطوا أيديولوجيا البعث أو ضخُّوا سمومها مع أساسيَّات التَّعليم من خلال منظَّمة (طلائع البعث) المهيمنة على تعليم الأطفال في المرحلة الابتدائيَّة؛ أي في مرحلة مبكِّرة من عمر الطِّفل انطلاقًا من شعار مجَّانيَّة التَّعليم. وإن محا التَّعليم المجَّانيُّ الأمِّيَّة بين أطفال سوريا في المرحلة الابتدائيَّة قبل غربلة التَّلاميذ واختيار ثلاثين بالمئة من النَّاجحين لإكمال الدِّراسة الثَّانويَّة بعد امتحان شهادة الدِّراسة الإعداديَّة من جانب، فإنَّه من جانب آخر أطلق الرَّاسبين وثلثي النَّاجحين إلى سوق العمل بعد تلقينهم ما يكفي من الأيديولوجيا البعثيَّة منذ نعومة أظفارهم، ولن يفلت الرَّاسبون برغم مغادرتهم المدارس من تأثير هذه الأيديولوجيا لانشغالهم بالعمل في حياتهم المستقبليَّة، وسيطرة كثير من أفكار البعث على عقلهم الباطن؛ كانخداع بعض الأسر الَّتي دمَّرت عائلة الأسد بيوتها وقتلت أبناءها بخُزعبلات محور المقاومة في وقتنا الرَّاهن، وما هذا إلَّا لتغلغل هذه الأيديولوجيا إلى عقلها الباطن في مرحلة الطُّفولة المبكَّرة، عندما كانت عقولها صفحات بيضاء بحسب أفكار جون لوك التَّربويَّة. وكذلك يزيد كلٌّ من منظَّمة شبيبة الثَّوة والاتِّحاد الوطنيُّ لطلبة سوريا جرعات الأيديولوجيا في مناهج الدِّراسة الإعداديَّة (المتوسِطة) والثَّانويَّة والتَّعليم الجامعيِّ، ويخلق بذلك التَّعليم المجَّانيُّ في سوريا البعث أو سوريا الأسد جيوشًا من المؤدلجين من المتفوِّقين والنَّاجحين، الَّذين أكملوا دراستهم والرَّاسبين وغير المتفوِّقين دراسيًّا من الَّذين انتقلوا إلى سوق العمل.

كيف تنطبع الأيديولوجيا في الدِّماغ؟ وكيف تنطبع ثقافة المجتمع؟

يرى جون لوك أنَّ عقل الطِّفل يكون أشبه بالصَّفحة البيضاء عند ولادته، ثمَّ تنطبع عليها خبرات الحياة من خلال تجارب الطِّفل الحسِّيَّة؛ أي يكتسب الطِّفل بحواسِّه ثقافته كلَّها؛ فيتعلَّم من خلال التَّقليد والتِّكرار معتمدًا على السَّمع والبصر كلَّا من النُّطق والكلام والقراءة والكتابة، ويتلقَّى في مرحلة ما قبل المدرسة جزءًا مهمًّا جدًّا من ثقافة العائلة، الَّتي يقارنها فيما بعد بثقافة المجتمع؛ فيكتشف خصوصيَّة عائلته أو بين العوائل الأخرى المشابهة لها والمختلفة عنها من ثقافة عوائل المجتمع. وفي المدرسة خلال المرحلة الابتدائيَّة يكتشف التِّلميذ بعض التَّمايزات والفروق الطَّبقيَّة، لكنَّ التَّعليم الخاضع لأيديولوجيا الدَّولة أو أيديولوجيا الحزب المهيمن على الدَّولة برغم بعض التَّمايزات الطَّبقيَّة يخلق مع مرور الوقت ثقافة جمعيَّة، تضع المدرسة لَبِناتها الأساسيَّة، ويكرِّسها الإعلام الرَّسميُّ من خلال التِّلفاز والمذياع ونشرات الأخبار والبرامج الثَّقافيَّة؛ ومن هنا ندرك سبب اشتراك الأجيال السُّوريَّة من مواليد تسعينات القرن الماضي وثمانيناته وما قبل تلك التِّسعينات والثَّمانينات بثقافة جمعيَّة مشتركة، وتكاد تكون متطابقة إلى حدٍّ بعيد، فمناطق النُّفوذ الخمس في سوريا الثَّورة بين (2011-2024) كانت كلُّها تحت هيمنة حزب البعث من خلال التَّعليم المؤدلج في المدارس الابتدائيَّة والإعداديَّة أو المتوسِّطة والثَّانويَّات العامَّة والمهنيَّة وفي المعاهد والجامعات أيضًا، وبعد الانتهاء من اليوم المدرسيِّ أو الجامعيِّ كان التَّلاميذ والطُّلَّاب يتابعون في الغالب برامج التَّلفزة والإذاعة في سوريا، وتبقى كلُّ التَّمايزات الَّتي يدركها (التِّلميذ-الطَّالب) أو الخبرات الحسِّيَّة الَّتي تنطبع في عقله دون عتبة ما يثير استغرابه، أو يدعوه للتَّأمَّل والتَّفكير لا سيَّما لدى أغلبيَّة المسلمين السُّنَّة في سوريا.

ثقافة الأقلِّيَّة

يُستثنى بعض الأقلِّيَّات الَّتي تحرص على تعليم أبنائها خصوصيَّاتها وتمايزاتها عن باقي المجتمع السُّوريِّ أو عن الأغلبيَّة في المجتمع السُّوريِّ، ويُحسب لبعضهم حرصهم على تعليم أبنائهم أنَّ إدراك الخصوصيَّة وإن كان يحمي الطِّفل من الذَّوبان في ثقافة الأكثريَّة، يجب ألَّا يقود نحو العنصريَّة أو الطَّائفيَّة، ويحسب على البعض أو لا يحسب لهم تماديهم في تلقيم الخصوصيَّة لأطفالهم أو تلقينهم إيَّاها؛ حتَّى تنمو لدى الأبناء، وتنمو مع مرور الزَّمن، وتصبح نزعة عنصريَّة أو طائفيَّة مقيتة، ولا يخفيها أولئك الأبناء قناعة أو محبَّة بالتَّعايش السِّلميِّ والتَّفاعل الثَّقافيِّ مع باقي أبناء المجتمع بقدر ما يخفونها تقية ومكرًا. وكانت مؤسَّسة الجيش العربيِّ السُّوريِّ واحدة من أبرز مؤسَّسات الدَّولة الَّتي يكتشف فيها المجنَّدون لخدمة العلم أو الوطن الخاضع لسلطة (البعث-عائلة الأسد) كثيرًا من التُّقية لدى أولئك (الشُّبَّان) الطَّائفيِّين ممَّن أسرف أهلهم في تركيزهم على خصوصيَّتهم وتمايزهم عن الآخرين خلال تنشئتهم المبكِّرة؛ لذلك يُصدم المجنَّدون لخدمة الوطن في معظم الأحيان بطائفيَّة أولئك الَّذين لُقِّنوا الطَّائفيَّة، وأُرضعوا العنصريَّة منذ نعومة مخالبهم، حين يسألون المجنَّدين عن طوائفهم وعائلاتهم ومذاهبهم ومناطقهم الجغرافيَّة.

كيف تنطبع الثَّقافة في مناطق النُّفوذ الرَّاهنة

مع بداية الثَّورة السُّوريَّة ضدَّ حكم عائلة الأسد انقسمت سوريا إلى خمس مناطق نفوذ تقريبًا، واحدة شرق الفرات، وأخرى غرب الفرات، وثالثة في إدلب، ورابعة في دمشق وباقي سوريا المفيدة لبشَّار الأسد وخاضعة لحكمه، وخامسة جنوب سوريا في درعا والسُّويداء، الَّتي انخفض فيها تأثير البعث، أو تراجع نفوذه، واقتصر على الوجود الشَّكليِّ، ويمكن الحديث عن مجموعة أخرى كبيرة من السُّوريِّين، الَّذين هاجروا، واندمجوا مع ثقافة البلدان الَّتي استضافتهم؛ ومن هنا ارتفع تأثير ثقافة المجتمع في سكَّان مناطق النُّفوذ الخمس والمهاجرين السُّوريِّين في البلدان المستضيفة، وتراجع أو انعدم تأثير المؤسَّسات (الوطنيَّة) أو المؤسَّسات، الَّتي تدافع عن مصالح عائلة الأسد الحاكمة باسم الوطن أو اسم حزب البعث، الَّذي يرفع قادته الشِّعارات الوطنيَّة للتَّعمية على فسادهم وممارساتهم الطَّائفيَّة، الَّتي تخدم عائلة الأسد، وبالمحصِّلة لم يعد هناك ثقافة جمعيَّة واحدة يتَّفق عليها سكَّان مناطق النُفوذ هذه مثلما كان عليه الأمر حين أنشأت الدَّولة أو حزب البعث أجيال ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته.

كذلك كرَّست مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ هذه الفرقة أو ذاك الانقسام؛ لأنَّها حلَّت مكان الإعلام الرَّسميِّ، الَّذي كان يضخُّ أيديولوجيا الحزب الحاكم، ويخلق ثقافة جمعيَّة توحِّد النَّاس على أفكار محدَّدة بطريقة مباشرة حينًا، وبطريقة غير مباشرة في معظم الأحيان. وبدأت الدِّراسات الرَّاهنة تشير إلى جيل (Z) في سوريا، ويعني به  الدَّارسون مواليد ما بعد سنة 2000 ممَّن كانت أعمارهم عشر سنوات وما دون ذلك مع انطلاقة الثَّورة السُّوريَّة؛ فهذا جيل متحرِّر من تأثير الأيديولوجيا الجمعيَّة الَّتي كان يضخُّها حزب البعث من جانب، لكنَّ هذا الجيل ومن الجانب الآخر والأكثر أهمِّيَّة صار عرضة لكثير من الأيديولوجيَّات والضَّخِّ الإعلاميِّ العشوائيِّ المفتوح على مصراعيه في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ؛ لذلك صار وعي هذا الجيل بهويِّته وثقافته وذوقه أيضًا مختلفًا عن وعي الأجيال السَّابقة بكلِّ تأكيد؛ ومن هنا وعلى الصَّعيد الفنِّيِّ لا نستغرب أن يكون الجيل (Z) من أكثر المعجبين بالنَّمط الغنائيِّ أو الموسيقيِّ المتمايز عن السَّائد، والَّذي يقدِّمه الشَّامي على سبيل المثال، ولسنا هنا بصدد دراسة حالة الشَّامي الفنِّيَّة برغم اختلافنا مع المتعصِّبين له أو ضدَّه، وقد تغاضى هذا الجيل (سماعيًّا على مستوى الكلمات) عن جمل وعبارات ومفردات غنائيَّة استخدمها الشَاميُّ ممَّا يستحيل أن تتغاضى عنها الأجيال السَّابقة، فامرؤ القيس-وعلى جلالة قدره مثلًا-لم يسلم من نقد الأجيال السَّابقة كلِّها حين استخدم كلمة (مستشزرات) في قوله في وصف شعر حبيبته:

غدائره مستشزرات إلى العلا     تضلُّ العقاص في مثنى ومُرسلِ

 أمَّا بعض المستمعين من جيل (Z)؛ فيستلذُّ في نطق كلمة (عَجْرِف) في قول الشَّاميِّ مطربهم المفضَّل: (أنا ورد بس ورد نرجس، واسمي كافي يخلِّيني عجرف)

في المحصِّلة أشرف قادة حزب البعث قبل الثَّورة على التَّعليم، وضخُّوا الأيديولوجيا البعثيَّة، وأرغموا النَّاس  البسطاء على اعتنقاها لضعف الوعي لديهم، وقصموا ظهور المعارضين المتنوِّرين لأنَّ الانقلاب والعنف جزء من مبادئ هذا الحزب، وخلقوا مع مرور الوقت وبالهيمنة على التَّعليم والإعلام ثقافة جمعيَّة، وصنعوا المواطن الصَّالح نظريًّا بالنِّبة لهم، والنَّاف عمليًّا لعائلة الأسد، حتَّى لو لم ينفعها بشيء غير الخدمة معها بالتَّجنيد الإجباريِّ، وقد ظهرت فائدة التَّجنيد الإجباريِّ في سَوق أبناء الطَّوائف لقتيل بعضهم، ولحماية كرسيِّ بشَّار الأسد بعد الادِّعاء بأنَّ حماية بشَّار وكرسيَّه المغتصب هي حماية الوطن؛ ولهذا بعد أدلجة التَّلميذ تعليميًّا غالبًا ما يقضي بقيَّة حياته، ولا يدرك-ولا لحظة واحدة-أنَّه كان وما زال ضحيَّة من ضحايا أدلجة التَّعليم في دولة البعث ومنظَّمات أدلجة التَّعليم في سوريا؛ كمنظَّمة طلائع البعث؛ أي منظمَّة أدلجة بواكير الأطفال منذ نعومة أظفارهم، وتُستكمل هذه الأدلجة التَّربويَّة من خلال السَّيطرة على الاتِّحاد الوطنيِّ لطلبة سوريا المشرف على أدلجة طلَّاب الجامعات السُّوريّة من خلال تقرير منطلقات الحزب النَّظريَّة ومبادئه الأساسيَّة كمواد دراسيَّة في الجامعات السُّوريَّة، وبالإشراف على منظَّمة اتِّحاد شبيبة الثَّورة، الَّتي تؤدلج طلَّاب المرحلتين الإعداديَّة أو المتوسِّطة مع مرحلة التَّعليم الثَّانويِّ، ويُعنى بشبيبة الثَّورة شباب ثورة الثَّامن آذار-مارس أو انقلاب حزب البعث في الثَّامن من آذار 1963.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى