المخرج مأمون البني يتذكر: أستاذ الديانة المصري اتهمني بالإلحاد والمسرح المدرسي عرفني بياسر العظمة
مأمون البني
أنهى المخرج السوري مؤخراً كتابة مذكرات حياته الحافلة التي عاشها، منذ تفتحت عيناه على الدنيا في حي سوق ساروجة الدمشقي في أربعينيات القرن العشرين، وحتى سنوات منفاه الباريسي الذي اختاره بعد خروجه من سورية، وتنقله بين دبي وبيروت ومدن أخرى. وقد خص الأستاذ مأمون (العربي القديم) مشكوراً، بهذا الفصل الشيق من مذكراته، وهو يتناول سنوات فترة الوحدة ثم الانفصال بين نهاية خمسينيات القرن العشرين، ومطلع الستينيات سارداً بلغة رشيقة وعين يقظة مشاهداته الحية والملهمة (العربي القديم)
فاجأ الرئيس جمال عبد الناصر العالم في شهر تموز – يوليو 1956 بتأميمه قناة السويس، والذي كان سبباً في إعلان بريطانيا، وفرنسا بمشاركة إسرائيل الحرب على مصر، وعُرف بالعدوان الثلاثي الذي انتهى بانسحابها تحت ضغوط دولية، ومقاومة شعبية شرسة سواء من الداخل المصري، أو من بعض البلاد العربية مثل سوريا التي وقفت جيشاً وشعباً ضدّه، وقامت بنسف أنابيب النفط المتجهة إلى القارة الأوروبية، والتي تعبر الأراضي السورية، باتجاه البحر المتوسط. كما استشهد طالب الكلية البحرية الضابط السوري جول جمال ورفيقاه، وهما مصري، وآخر سوري اسمه نخلة سكاف، حين قاموا بنسف البارجة الفرنسية جان دارك.
قصص كثيرة رُويت عن حرب ال 56 منها الصحيح، ومنها ما كان من صناعة آلة الإعلام المصري الذي لم يجرؤ أيّ عربي على تكذيبه، إلا بعد موت عبد الناصر؛ فانبرت أقلام معادية لمسيرته تفنّد أكاذيب إعلامه حينها، وكان منها الصحيح، ومنها ما فبركه اللوبي الآخر المسيطر سياسياً، والذي نما، وتمدد بعد السبعينات من القرن العشرين.
قامت الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، وبدأت وزارة المعارف تطلب من المدرسين سوقنا إلى ساحة الضيافة، إما للتعبير عن قبولنا وفرحنا بإقامة الوحدة، أو للتهليل والتطبيل للأسمر عبد الناصر. كنت فرحاً أني سأنهي الصف الخامس، وأحصل على الشهادة الابتدائية، لأنتقل إلى الصف السادس الإعدادي مدرسة اليافعين، لكن أنا، وأبناء صفي صُعقنا.! فبعد حصولنا على شهادة السرتفيكا كان علينا العودة مجدداً إلى المدرسة الابتدائية، لنيل الشهادة الابتدائية، والتي أصبحت حسب قرار عبد الناصر تُمنح بعد امتحان الصف السادس، وكان بالنسبة لي أول سقطة لسياسة عبد الناصر!
كانت السقطة بالنسبة لعمري مختلفة عن السقطات الجسام التي تكلم عنها خالد العظم في مذكراته. حين قال:
“إن جمال عبد الناصر اشترط لتوقيع صك الوحدة أن تأتي كامل الحكومة السورية إلى القاهرة، لحضور مراسم التوقيع بين الرئيسين السوري والمصري، وأيضاً وجوب حضور الضباط الثلاثة عشر الذين أخذوا على عاتقهم أمام عبد الناصر إجبار الحكومة السورية بالموافقة على الوحدة، وإلا سيحدث الانقلاب لا محال”.
كان من بين الضباط عفيف البزرة، وأمين النفوري، وأحمد عبد الكريم، ووزير الخارجية صلاح البيطار المدني الوحيد رقم 14. خضعت الحكومة لذلك، وفي الطائرة التي أقلت الوزراء قال خالد العظم للرئيس القوتلي: “كم أتمنى أن تقصف إسرائيل هذه الطائرة التي تقلنا عسى أن يتعثر قيام هذه الوحدة التي لا أضمن استمراريتها..” كما كتب في مذكراته عن عبد الناصر أنه استبدل الرموز الوطنية السياسية في سوريا بالجلاد (السلطان الأحمر) عبد الحميد السرّاج صديق الأمريكان.
أقام عبد الناصر حفلاً كبيراً، بمناسبة التوقيع على قيام الوحدة، واحتفى بضيوفه السوريين أجمل احتفاء، لكن وبعد الانتهاء من التوقيع، وإعلان الوحدة، واقتراب عودتنا (والكلام لخالد العظم) قدمت لنا المراسم الرئاسية طائرة عسكرية، لتقلنا إلى المطار العسكري في مدينة الإسكندرية، ومن هناك نستقل طائرتنا، وادَّعوا أن السبب أمني.. وصلنا المطار العسكري في الإسكندرية، ونزلنا للغداء، وإذ بطاولات ألمنيوم عليها طناجر من الأرز، وبضع قطع من اللحم وزعها علينا العساكر ضمن قصعات، عندها وقف الرئيس القوتلي، والدمعة تلمع بعينه، فنظرت إليه، وقلت أعتقد أن الأمر قد انتهى.
حظ سيئ مع المدرس المصري
بعد نيل الشهادة الابتدائية الثانية انتقلت إلى الإعدادي، ولم نوفق بأساتذة مصريين معارين جيدين، فقد كان حظ مدرستنا الإعدادية الثامنة في حي القزازين (وراء مقبرة الدحداح) سيئاً، وحظيت باشتباكات عدة معهم. فقد كان أستاذ الأشغال اليدوية هو نفسه مدرس مادة الديانة، ولم يكن يستسيغ أسئلة تثير التفكير، وكنا بعمر بداية تشكّل الوعي، وبحاجة ماسة لمن يجيب على أسئلة مكبوتة لدينا، لأن (التابو) الديني يمنعنا من طرح الأسئلة التي تثير تساؤلات تتعلق بعلاقة الإله بالإنسان، وما على الفرد إلا الطاعة والانقياد، وترك مسائل حل الألغاز الدينية للفقهاء…!
أطلق علينا أستاذ الديانة أنا وصديقي حسن صريوع فلسطيني الجنسية، تسمية سَمعنا بها للمرّة الأولى، وهي (ملحدون)، لكن عندما أكمل شتائمه أطلق علينا أيضاً صفة الكفار، هنا فهمنا أن كلمة كافر يعني ملحد، أي معناها مغضوب عليه عند رب العالمين. في هذه اللحظة ربطت كلمة مغضوب عند الرب يعني مغضوب عند الوالدين، يعني أني سوف أذهب للنار، وأتعذب كمثل المغضوب عليهم الذين وصفهم النبي محمد في روايته (الإسراء والمعراج) أثناء انتقاله إلى السماء، ومشاهدته حرق الكفار بالنار…! بعد الشتائم التي فهمنا بعضاً منها كوننا لا نعرف اللهجة المصرية، طردنا المعلم من حصته لأجل غير مسمى، هنا أحسست أن الأستاذ ربما يقوم بعقابنا الدنيوي، ليخفف عنا عقابنا الإلهي…!
اكتظت أسواق دمشق بالسائحين المصريين، واكتسحت اللهجة المصرية الشارع السوري، فقد كانت محببة لدى السوريين، من خلال الأفلام والتمثيليات، والمسلسلات الإذاعية التي كانت بدورها رائجة جداً، ومتابعة من قبل أكثر الناس، وخاصة من النساء والرجال الذين في عمر التقاعد، كونهم يلازمون بيوتهم طيلة ساعات اليوم. ومن الطريف أن أسواق دمشق التجارية كثر فيها بائعو البسطات، أو المتعيشون، كما جرت تسميتهم، وهؤلاء كان جلّهم من المصريين الذين اكتسحوا الساحة بلهجتهم المصرية، وتفننوا ببيع أشياء لم تكن معروفة عندنا، مثل بيع قمصان النايلون بدون كوي، فالبائع ودون أن يصمت ولو للحظة يروّج لبضاعته، يغطس القميص في الماء، ومن ثم يدعكه بيديه، وبعد ذلك يفرده وكأنه خرج مكوياً، ويبيعه بأسعار زهيدة. هذه القمصان نافست مع الأسف أسعار القمصان القطنية السورية الصحية للجسم، وهذا البائع رأيت كيف تم القبض عليه بعد الانفصال، لاتهامه أنه عنصر من المخابرات المصرية.
عبد الحليم في دمشق
بدأت آلات الإعلام، والدعاية المصرية تنشط بشكل فعال تبهر الجماهير السورية التي هي أصلاً متحمسة للمقولة: “في الاتحاد قوة”، فكيف وهي ترى، وتسمع أهم النجوم المصريين بشحمهم ولحمهم في سوريا يتغنون بالوحدة العربية؟ ولتنشيط ذلك قام مكتب الإعلام بعرض أفلام على شاشات عملاقة شيدت في الساحات العامة، لإثارة حماس الناس. وقد شاهدت أفلاماً تجمع مطربي الصف الأول، وفي مقدمتهم الفنان الكبير عبد الحليم حافظ. أحيا عبد الحليم بدوره حفلاً ساهراً في سينما دمشق بعد ثلاثة أيام من إعلان الوحدة في 25 شباط 1958، وغنى أغنية جميلة احتفاءً بهذه المناسبة أبهر فيها الحضور، قال فيها:
غني يا قلبي وهني الدنيا وقول مبروك
كبر البيت وتجمع شملك أنت وأخوك
وقول للدنيا ده أجمل عيد
مصر وسوريا انخلقوا جديد
غني يا قلبي غني يا قلبي
طلعة بهية ياما أحلى جمالها
زادت سوريا مجد وقوة
زارها البطل الحر جمالها
هو حبيبها الغالي هو…. إلخ
جمال عبد الناصر كان بين الحاضرين، لأن يوم 24 شباط – فبراير، أي قبل يوم واحد من الحفل أسرع رئيس الأركان عفيف البزرة إلى مطار دمشق، ليستقبل المشير عبد الحكيم عامر، وإذ يُفاجأ بقدوم الريس شخصياً، وانتشر الخبر بسرعة البرق، فهبت دمشق زاحفةً بأسرها إلى ساحة الضيافة رغبة منها بمشاهدة زعيم الأمة، وقائد القومية العربية، ومؤمم قناة السويس المنتصر على الحلف الثلاثي في 1956.. ألقى جمال يومها خطابه المشهور، وأكمل شكري القوتلي كلمة المواطن الأول، قبل أن يرحل إلى منفاه الاختياري في سويسرا.
مقتطف من خطاب عبد الناصر:
أيها المواطنون
السلام عليكم ورحمة الله
إنني أشعر الآن، وأنا بينكم بأسعد لحظة من حياتي، فقد كنت دائماً أنظر إلى دمشق وإليكم، وإلى سوريا وأترقب اليوم الذي أقابلكم فيه، والنهارده.. النهارده أزور سوريا قلب العروبة النابض.. سوريا اللى حملت دايماً راية القومية العربية.. سوريا اللى كانت دايماً تنادى بالقومية العربية.. سوريا اللى كانت دائماً تتفاعل من عميق القلب مع العرب في كل مكان
واليوم – أيها الإخوة المواطنون – حقق الله هذا الأمل وهذا الترقب، وأنا ألتقي معكم في هذا اليوم الخالد، بعد أن تحققت الجمهورية العربية المتحدة.
وبالمقابل استهل القوتلي كلمته:
يا أخوة العرب هذا يوم مشهود من أيام العمر، هذا يوم عظيم في تاريخ أمة العرب، وتحول كبير في مجرى الأحداث العالمية في هذا العصر، في هذا المكان، من هذه المدينة العربية العظيمة نعلن على الملأ باسم الشعب العربي في كل من الجزأين العربيين الغاليين مولد الجمهورية العربية المتحدة.
وما إن انتهت مراسم الاستقبال الشعبي، لمشاهدة الأسمر عبد الناصر على شرفة قصر الضيافة في شارع أبو رمانة، حتى تراكض الناس للاستماع إلى الإذاعة التي تقوم عبر الأثير بنقل وقائع حفلة أضواء المدينة، التي قدمها صاحب الصوت الإذاعي الرخيم جلال معوض. وللتمتع كذلك بمشاهدة وسماع نجوم الفن في الإقليم الجنوبي يغنون ويرقصون على أنغام الفرقة الماسية بقيادة المايسترو أحمد فؤاد حسن، وبالطبع الختام توّج مع العندليب المعشوق عبد الحليم حافظ.
كانت حفلات أضواء المدينة التي نظمها المصريون تُطعّم فقراتها ببعض الإسكتشات، أو وقفات مع الفنانين السوريين أمثال: الثنائي أبو فهمي (فهد كعيكاتي)، وأم كامل (أنور البابا)، أو المونولوجيست السوري سلامة الأغواني، أو مطرب الرجولة فهد بلان.
نجوم الإذاعة يتسيدون الساحة
كانت الإذاعات في الخمسينات الشغل الشاغل للمجتمعات العربية، لعدم وجود التلفزيون، وبالتالي كان المذيعون، ومقدمو البرامج نجوماً في الأوساط العربية. وأكثر البرامج التي كانت مسموعة هي التمثيليات الكوميدية، وكانت مصر هي السباقة في إنتاجها، مثل برنامج ساعة لقلبك أداء فؤاد المهندس، وخيرية أحمد بمشاركة أمين الهنيدي، وكتابة عبد المنعم مدبولي، والتي اشتهرت خيرية أحمد فيها بترداد جملة “محمود أنت زعلان يا حبيبي”.
كذلك برامج أبو رشدي (حكمت محسن) القصاص الشعبي، ومعه مجموعة من كبار الفنانين السوريين مثل أنور البابا (أم كامل)، وفهد كعيكاتي، وتيسير السعدي، أشهرها كانت سلسلة مذكرات حرامي، وصندوق العجائب.
وكان للمسلسلات والبرامج الكوميدية الإذاعية نكهتها الخاصة، لأنها توحِّد الأذواق، وتساهم في لمّ شمل العائلة بأكملها، ممّا يزيد ذلك في الألفة الأسرية. وانتقلت البرامج الإذاعية من السمعي إلى البصري، بعد أن تقرر افتتاح تلفزيون الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة في توقيت افتتاح تلفزيون الإقليم الجنوبي نفسه بتاريخ 23 تموز- أغسطس 1960، وظهرت صور المذيعين والممثلين على الشاشة الفضية.
كنت تواقاً لمعرفة أخبار الفنانين، ومتابعة الأعمال الدرامية الأولى على التلفزيون، الذي كان يفتتح بثه عند الساعة الرابعة بعد الظهر، ويغلقه عند الساعة الثامنة مساءً. تمددت بعدها ساعات البث تباعاً.
طلبت من إدارة مدرستي الإعدادية أن تدعم إنشاء فرقة مسرحية، وبدأنا بتقديم بعض الإسكتشات والتمثيليات الصغيرة، حسب عمرنا، كنت في الصف السابع، ومعي في الفرقة من هم في الصف الثامن والتاسع. وأذكر أن فرقتنا حضرت عرضاً مسرحياً قدمه طلبة الثانوي من التجهيز الأولى، وبعد عرض فرقتهم تعرفت إلى ياسر العظمة الذي كان يدير الفرقة، ودعوته لمشاهدة عرضنا.
بعد حصولي على شهادة الكفاءة (الشهادة الإعدادية) اشتركت مع صديق لي هو (خلدون الملك)، في إنشاء نادٍ للتمثيل، واستأجرنا قبواً في حارة شرف مقابل سينما الحمراء (وكانت سينما جديدة في ذاك الوقت) لكن لم ننجح في تنشيط النادي، فكيف لأولاد صغار أن يفتتحوا نادياً للتمثيل؟ الأَولى بنا أن نتعلم ألف باء التمثيل، قبل إدارة وتعليم، وإعطاء الملاحظات للأعضاء الجدد في الفرقة، أسهم جهلنا، وصغر أعمارنا في قلّة عدد المنتسبين ما أثّر سلباً على استمرارية مشروعنا، فما كان منا إلا التوقف، والعودة إلى دروسنا.
الانفصال: تراكم استياء كبير
لم تدم الوحدة طويلاً، ففي صباح يوم 28 سبتمبر- أيلول 1961 سمعنا البلاغ الانقلابي رقم واحد الذي طال انتظاره “كحلم للمتضررين من قيام الوحدة، ومن أهالي الموقوفين في سجون السرّاج”، يعلن الانفصال عن الإقليم الجنوبي، وعودة سوريا إلى أحضان شعبها. طبعاً لم يولد الانقلاب من لا شيء، وإنما من تراكم استياء كبير في صفوف أعضاء مختلف الأحزاب السورية، أساسها حرمانهم من مزاولة حياتهم السياسية المعتادة، من خلال تقليص عددهم عملاً بتعميم قانون حظر الأحزاب في مصر قبل الوحدة. كما ساد الركود الاقتصادي، بسبب قوانين تحديد الثروات الزراعية التي كانت مطبقة في مصر، ولم تكن مناسبة لسوريا، هذا بالإضافة إلى بطش المكتب الثاني بالمواطنين السوريين الذي كان يديره عبد الحميد السراج، ويساعده عبد الوهاب الخطيب، فقد استقوى الخطيب لدرجة أنه وصل ليشير فقط بإصبعه إلى أحد خصومه، ليتم اعتقاله بتهمة الشيوعية، أو الإخوانية.
ينحدر عبد الوهاب الخطيب من بلدة دير عطية، وقد اختار مع أختيه ووالدته الأرجنتينية حي سوق ساروجة – حارة القولي مكاناً لإقامته، بعد توليه منصبه، ليكون اليد الضاربة للسراج.
كان الخطيب بالتوازي مع جبروته وسلطته شاباً جذاباً، وكان يتنافس مع بعض شباب الحي الوسيمين على جذب الفتيات، وكان أخي أشد المنافسين له بالهيبة والأناقة، فقد كان موسيقياً، ويدير نادياً فنياً للتمثيل، إلى جانب عمله في التعهدات، فوقع الخلاف بينه وبين عبد الوهاب الخطيب وتصادما.
عبد الوهاب يهابه الجميع، ويكرهونه في نفس الوقت، بينما يقف أهل الحي إلى صف أخي كونه من (أصل الحي). تعالت أصوات الخصمين، فقام أخي بصفعه، هنا حدثت المصيبة الكارثة!! يا ويلاه! شخص مدني يصفع رجل أمن، ومن؟؟ الرجل الثاني في المباحث…!
لم يستطع اعتقاله مباشرة، لقيام أهل الحارة بحمايته. فاتهمه الخطيب بالشيوعية، وأنه يشتم عبد الناصر طوال الوقت. بدأت المداهمات لبيتنا وبيوت الحارة بحثاً عن الشيوعي الهارب من وجه العدالة، إلى أن اضطر للسفر إلى الكويت، ولم يعد إلا بعد حدوث الانفصال. في الوقت الذي هرب فيه عبد الوهاب الخطيب مع السراج إلى مصر، بعد اتهامه بتعذيب وقتل، وتذويب فرج الله الحلو سكرتير الحزب الشيوعي اللبناني بالأسيد في أحد أقبية المكتب الثاني في دمشق.!
في الوقت التي اشتهرت فيه مصر بندّاباتها اللواتي كنّ يُستأجرن للصراخ والعويل، وندب الميت والبكاء عليه. كان في سوريا مرددون يمتهنون الصراخ والعويل في المظاهرات منادين بشعارات رنانة جاهزة لكل المناسبات ضدّ، أو مع حسب الحدث، لينبري هؤلاء، ويندسوا في مسيرة دمشق يوم 28 سبتمبر- ايلول 1961 تأييداً للانفصال، وتحديداً بعد بثّ البلاغ رقم واحد، حين خرج الانفصاليون يؤيدون الانقلاب، كسر أحدهم الواجهة البلورية لشركة طيران الجمهورية العربية المتحدة في ساحة الحجاز، وكنت شاهداً على ذلك، وأخرج تمثالاً نصفياً لعبد الناصر، وثقب منتصف رأسه، وأدخل عصا المكنسة فيه، ومن ثم حمله، وترأس المسيرة التي جالت شوارع دمشق تندد بالدكتاتور عبد الناصر، وتنادي بسقوطه. أثناء ذلك كان المشير عبد الحكيم عامر قائد الجيش، ووزير الحربية للإقليمين الشمالي والجنوبي، يحاول في مكان احتجازه في الأركان بدمشق أن يجد طريقة للتفاهم مع الانقلابيين، في الوقت الذي بثّ عبد الناصر تطميناته للجمهور، على أن الانقلاب محدود، وبناءً عليه قد أصدر قراره بسحق فوري للمتآمرين، فلبى قائد الشرطة العسكرية بدمشق نداء الرئيس جمال، وأنزل قواته على الفور لشوارع دمشق، ضدّ قوات الأمن التي كانت مؤيدة للانقلاب، فاحتلت قوات الشرطة العسكرية مبنى الإذاعة والتلفزيون، وتوزع بعضها في شوارع العاصمة، وحاصرت إحداها مسيرة التأييد للانفصال، والتي وصلت للتو إلى ساحة عرنوس في الوقت الذي أُذيع البلاغ المشهور رقم 9 وهذا نصه:
“إن القيادة العربية الثورية للقوات المسلحة التي دفعها الشعور بالخوف على وحدة الصف العربي وحماسها للقومية العربية وتأييدها لها دفاعاً عن مقوماتها تعلن للشعب العربي الكريم أنها لا تنوي المس بما أحرزته القومية العربية من انتصارات، وتعلن أنها لمست عناصر مخربة انتهازية تريد الإساءة لقوميتنا، فقامت بحركتها المباركة تلبية لرغبة الشعب العربي، وآماله وأهدافه. وإنها عرضت قضايا الجيش وأهدافه على سيادة المشير نائب الرئيس والقائد العام للقوات المسلحة الذي تفهّم أمور الجيش على حقيقتها، واتخذ الاجراءات المناسبة لحلها لصالح وحدة وقوة القوات المسلحة والجمهورية العربية المتحدة. وقد عادت الأمور العسكرية الى مجراها الطبيعي اعتماداً على ثقتها بحكمة القائد العام للقوات المسلحة، وقائد الجيش الأول اللذين يحققان أهداف القوات المسلحة، والجمهورية العربية المتحدة”.
وبالعودة لمسيرة التأييد للانقلاب ضد الوحدة، فبمجرد إذاعة هذا البلاغ، وبعد حصار عناصر الشرطة العسكرية، وانسحاب الشرطة المدنية من مواقعها، نزع حامل تمثال عبد الناصر عصا المكنسة من رأسه، وأعاد رفعه محيّياً القائد ناصر بطل الوحدة.
من أفشل الوحدة؟
بعيداً عن المهاترات بين الخصمين…! الوحدويين والانفصاليين، فإن كلا الطرفين كان يُحمّل الآخر سبب فشل الوحدة. أرى:
ليته تمّ التوافق على الاقتراح في الاجتماع الأول للمجلس العسكري السوري مع الرئيس عبد الناصر عام 1958 حين اُقترح اتحاد فدرالي، كخطوة أولى، لما قبل الوحدة الاندماجية، فلو حصل ذلك كان من الممكن أن يُتاح الوقت اللازم لدراسة طبيعة البلدين، وأن تُؤخذ القرارات الأنجع لكل بلد، حسب طبيعته الجغرافية والسكانية، لا حسب الشعور العاطفي الذي أثّر سلباً، حتى على الأشخاص الذين كانوا وراء قرار قيامها. بالإضافة إلى سرعة إعلان قيام الوحدة، قبل دراسة الطبيعة الديموغرافية للبلدين، فمصر كان تعدادها ثلاثين مليون نسمة، بينما كان عدد سكان سوريا ما ينوف على أربعة ملايين نسمة بقليل، وكان اقتصادها أفضل بمرات من اقتصاد مصر التي كانت بدورها خارجة من حرب السويس قبل سنتين فقط.
فشلت الوحدة لأسباب كثيرة منها الاقتصادية مثلاً، فقد تطلبت القوانين الجديدة دمج الشركات الحكومية للقطرين، وتوحيد رأس المال بين إداراتها، فخسرت سوريا من جراء توحيد رأسمال مال شركاتها أموالها التي كانت حينها مزدهرة. بالإضافة إلى القضاء على حرية الصحافة، وتنوع الأحزاب السياسية التي ساهمت في الترويج للحريات العامة وتنميتها قبل قيام الوحدة، وتم الإجهاز عليها بعدها، ممّا عزا بالمواطن السوري، لأن يشتكي من ضغوطات سلبيات قوانين الوحدة، أو من انخراط مجموعات أمنية في الإساءة للوحدة، في الوقت الذي تُظهر فيه نفسها على أنها تدافع عنها. مثل قيام عناصر عبد الحميد السراج بكمّ أفواه الناس، وضرب بيد من حديد على كل من تسوّل له نفسه أن يبدي رأياً معارضاً لأيّ قرار، أو إجراء معين، بحجة الدفاع عن الوحدة، وهذا كان سبباً هاماً في الإسراع بقيام الحركة الانقلابية، ونجاحها في وأد الوحدة، التي كانت حلماً لأيّ مواطن عربي فضلاً عن السوري والمصري.
_________________________________________
من مقالات العدد الرابع من صحيفة (العربي القديم) تشرين الأول/ أكتوبر 2023