الرأي العام

نتنياهو يصارع طواحين الهواء

بالتَّأكيد سيزيد فشل غارته على قادة حماس في الدَّوحة من غرقه في وحل جرائمه ورعوناته وأوهامه

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم

شنَّت طائرات المجرم بنيامين نتنياهو غارة جوِّيَّة على مدينة الدَّوحة عاصمة قطر يوم الثُّلاثاء التَّاسع من أيلول-سبتمبر 2025، واستهدفت في هذه الغارة مجموعة من قيادات حماس من المقيمين في الدَّوحة، والَّذين يفاوضون المجرم نتنياهو في ملفَّ الأسرى الإسرائيليِّين بعد غزوة حماس فيما يُعرف باسم أحداث طوفان الأقصى، الَّتي وقعت في السَّابع من تشرين الأوَّل-أكتوبر 2023، وقد أسفرت الغارة عن استشهاد عريف من مرتَّبات الأمن القطريِّ وخمسة من قادة حماس أو مرافقيهم وفقًا لصور التَّشييع المتداولة في الإعلام، وبناء على هذه الصُّور الواردة من الدَّوحة تبيَّن استشهاد همام بن خليل الحيَّة، وهو مدير مكتب والده في الوقت ذاته، واُستشهد معه ثلاثة من مرافقيه؛ هم: عبد الله عبد الواحد ومؤمن حسُّونة وأحمد عبد الباقي، ولم تذكر الأنباء اسم الشَّهيد صاحب النَّعش الخامس، الَّذي ظهرت صورته أثناء التَّشيع وصلاة الجنازة، الَّتي حضرها أمير قطر الشَّيخ تميم بن حمد آل ثاني. وأراد المجرم نتنياهو بغارته هذه استهداف خالد مشعل وخليل الحيَّة وموسى أبو مرزوق وقتاة التَّفاوض في الصَّفِّ الأوَّل من حركة حماس بناء على استخبارات دقيقة مدعومة بتفوِّق تقنيٍّ (تكنولوجيٍّ) وتفوِّق عسكريٍّ أيضًا، لكن يبدو أنَّ ما تبقَّى من قادة حماس قد طوَّروا من بروتوكولات اجتماعاتهم حتَّى وإن كانوا في الدَّوحة أو غيرها بعدما نجح المجرم نتنياهو من اغتيال إسماعيل هنيَّة في طهران واغتيال حسن نصر الله في بيروت.

مسار الغارة

تداولت مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ صورًا لمسار افتراضيٍّ سلكته طائرات المجرم نتنياهو في غارتها الجوِّيَّة على مدينة الدَّوحة، فقد انطلقت من الأراضي الفلسطينيَّة المحتلَّة، وعبرت من أجواء لبنان إلى سوريا ثمَّ إلى العراق، ومن جنوب العراق حلَّقت فوق مياه الخليج العربيِّ حتَّى استهدفت مقرَّ قيادة حماس في العاصمة القطريَّة الدَّوحة، وإن صحَّت هذه المعلومات المتداولة؛ فهذا يعني أنَّ طائرات نتنياهو تجنَّبت التَّحليق في الأراضي الأردنيَّة وأراضي المملكة العربيَّة السُّعوديَّة مستغلَّة مرحلة البداية الجديدة لبناء الدِّفاعات الجوِّيَّة السُّوريَّة بعد تهالكها خلال خمسة عشر سنة من زجِّها في حرب بالبراميل المتفجِّرة على الشَّعب السُّوريِّ الثَّائر ضدَّ المخلوع بشَّار الأسد. ولم يصدر أيُّ تعليق عن قيادات حزب الله، الَّذي يرفض تسليم سلاحه للدَّولة اللُّبنانيَّة بحجَّة الدِّفاع عن لبنان ضدَّ إسرائيل، ولم يؤكِّد العراق المعلومات الواردة حول مسار الغارة، ولم ينفها أيضًا.

وبالمحصِّلة يبدو أنَّ طيَّاري المجرم نتنياهو يعرفون جيِّدًا طبيعة المسار، الَّذي اختاروه لتنفيذ الغارة؛ ولكن من هم قادة حماس المستهدفون؟ وما الفكر أو ما الأيديولوجيا الَّتي يحملونها؟ وكيف حدَّد جنود المجرم نتنياهو مقرَّ حماس في الدَّوحة؟ وكيف علموا بموعد الاجتماع الدَّقيق في المقرِّ؟ ولماذا فشلوا في استهداف خالد مشعل وخليل الحيَّة وموسى أبو مرزوق وباقي قيادات الصَّفِّ الأوَّل في حماس خلال اجتماعهم في الدَّوحة بعدما نجحوا في معظم عمليَّات القتل والاستهداف منذ اغتيال عماد مغنيَّة في الثَّاني عشر من شباط-فبراير 2008 في دمشق إلى مقتل صالح العاروريِّ في بيروت في الثَّاني من كانون الثَّاني-يناير 2024، ثمَّ اغتيال إسماعيل هنيَّة في طهران في 31 تموُّوز-يوليو 2024، وحسن نصر الله في 27 أيلول-سبتمبر 2024 وجملة من الاغتيالات الأخرى في دمشق وبيروت وغزَّة وأماكن متعدِّدة من العالم؟ بل لماذا يجرؤ المجرم نتنياهو على ارتكاب أمثال هذه الحماقات؟ لماذا يُقدِم عليها؟ وهل كان يعرف نتائجها أو يتوقَّعها؟ ولماذا يستهدف الأخوان المسلمين من قادة حماس ويتجاهل مقاومي اليسار أو القوميِّين العرب المنضويين تحت قيادة المواطن الإسرائيليِّ عزمي بشارة، وهو مقيم في الدَّوحة أيضًا؟

من هم قادة حماس؟

يسود الاعتقاد بأنَّ حماس هي حزب الأخوان المسلمون، والأخوان المسلمون هم حماس؛ وبمعنى أدقّ حماس هي الجناح المسلَّح من حزب الأخوان الملسمين، وإن كان هذا الحزب قد فشل في تجديد مشروعه الفكريِّ وخطابه السِّياسيِّ في كلٍّ من مصر وسوريا ومعظم البلدان العربيَّة الأخرى، وعجز قادته عن تطوير هذا الحزب لتوسيع قاعدته الشَّعبيَّة بناء على مشروعه (الخدميِّ-الاجتماعيِّ) لا على إثارة العواطف الدِّينيَّة أو دغدغتها لاستغلالها قبل الانتخابات؛ ليخطف قادة الأخوان نسبة من أصوات الجماهير بناء على الانفعال، ثمَّ ليعود قادة الحزب لحصد مكاسبهم الشَّخصيَّة بعيدًا عن وعودهم الانتخابيَّة، فإنَّ مشروعيَّة الأخوان المسلمين من قادة حماس لا تأتي من جودة مشروعهم أو نجاح تنظيمهم، أو من قدرتهم على تجديد خطابهم وإقناعهم الجماهير بفكرهم، وإنَّما تأتي من تعاطف الأمم والشُّعوب الحرَّة مع عدالة القضيَّة الفلسطينيَّة ومظلوميَّة الشَّعب الفلسطينيِّ ومعاناته المستمرَّة من جرائم نتنياهو، وهذا فرق جوهريٌّ بين أن تأتي القوَّة من فكر قادة حماس ذاتهم واقتناع الجماهير بتنظيمهم، وبين كونهم قادة أمر واقع؛ لأنَّ القوَّة القائمة على جودة المشروع وقوَّته ستحصد نتائجها مهما طال الزَّمان بها؛ وهذا تفسير منطقيٌّ لانتصار الثَّورة السُّوريَّة برغم توجُّس العالم من بعض قادة الحراك الثَّوريِّ في سوريا خلال الثَّورة.

 ناهيك عن تخبُّط قادة حماس خصوصًا وقادة الأخوان المسلمين عمومًا في بيع ولائهم أو ارتمائهم في أحضان أعدائهم من المجرم حافظ الأسد إلى إيران والمجرم بشَّار الأسد، وقد اعتذروا للمجرم بشَّار الأسد بسبب موقفهم المؤيِّد للثَّورة السُّوريَّة في مرحلتها الأولى، وزاره خليل الحيَّة في دمشق، لكنَّ لؤم بشَّار الأسد تجاه موقف قادة حماس الأوَّليِّ مع ضعفه أمام جرائم نتنياهو دفعه إلى النَّقمة على قادة حماس وإغلاق مكاتبهم في سوريا؛ وكذلك لم ينشأ تأييد المجرم المخلوع بشَّار الأسد لحماس على أساس التَّعاطف مع مظلوميَّة الشَّعب الفلسطينيِّ، وإنَّما كان على أساس الاستثمار في القضيَّة الفلسطينيَّة ودعم حركة حماس في وجه حركة فتح ومنظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة، ولشرخ الصَّفِّ الفلسطينيِّ أيضًا في مرحلة التَّوافق مع قادة إسرائيل. وكذلك لم تعد لبنان بيئة آمنة لا لقادة حزب الله ولا لقادة حركة حماس، واُغتيل إسماعيل هنيَّة في طهران ذاتها، وفضَّلت البقيَّة الباقية من قادة حماس العمل من الدَّوحة الرَّاغبة بدور إقليميٍّ لها من خلال العمل على ملفَّات حماس وحزب الله؛ لكنَّ مثل هذا الدَّور يبقى صعبًا أو متعبًا لسببين؛ هما: عدم الثِّقة بنتنياهو وجرائمه ورعوناته المتكرِّرة كلَّما شعر بتهديد مستقبله أو تهديد مستقبل حزبه السِّياسيِّ؛ فالعمل مع نتنياهو متعب، وحتَّى وإن قدَّمت الأطراف المفاوضة ورُعاتها تنازلات لنتنياهو فسرعان ما يغدر بالرُّعاة والمفاوضين، ويتملَّص من التزماته أوَّلًا، ولأنَّ الجيوبوليتيك أو الجغرافية السِّياسيَّة مع العامل الدِّيموغرافيِّ هي العوامل الَّتي تحدِّد دور أي دول مثل قطر أو غير قطر، وليس رغبة قطر ذاتها هي الَّتي تحدِّد قوَّتها في الدَّور الَّذي تؤدِّيه كرعاية التَّفاوض أو دعم المقاومين أو غير ذلك، ومعرفة نتنياهو بجيوبوليتيك المنطقة وقواعده قد تزيد من رعونته، وكذلك معرفة البقيَّة الباقية من قادة حماس (تيَّار خالد مشعل وجناحه داخل الحركة) بهذا الجيوبوليتيك مع خوفهم من مصير رفاقهم القدامى في دمشق وبيروت وطهران دفعهم إلى اختيار الدَّوحة للعمل السِّياسيِّ انطلاقًا منها بعد استبعاد فكرة العمل من طهران أو العراق أو تركيا؛ وذلك نظرًا لموقع قطر الحصين نسبيًّا من ناحية الجيوبوليتيك داخل الخليج العربيِّ، ولإدراكهم مخاطر العمل من أماكن أخرى ومآلاته الصَّعبة.

حُسِب إسماعيل هنيَّة وتيَّاره الأخوانيِّ داخل حركة حماس على طهران، وأيَّدوا أداتها حزب الله برغم جرائمه الكبرى في سوريا، وذهب للتَّعزية بوفاة رئيس إيران إبراهيم رئيسي مع وزير خارجيَّته، واُغتيل هناك بطريقة تعكس قوَّة الاستخبارت الإسرائيليَّة، ولا تنفي تواطؤ إيران وتخلِّيها عن جناحها؛ أي عن جناح طهران في قيادة حماس من الأخوان المسلمين بعدما احترقت أوراقهم بالنِّسبة لخامنئي وقيادة إيران القادمة بعد موت إبراهيم رئيسي. ومن ناحية ثانية ترتبط بهذا الموضوع دعا بالأمس وئام وهَّاب طهران-بوصفه صوتًا يمثِّل مجموعة سياسيَّة درزيَّة لبنانيَّة صغيرة منضوية تحت لواء إيران وحزب الله وخارجة على موقف التَّيَّار الدُّرزيِّ العربيِّ-ساسةَ إيران إلى الإقلاع عن دعم الأخوان المسلمين بالأموال والأعمال اللُّوجستيَّة أو دعاهم إلى الإقلاع عن الاستثمار في توظيف الأخوان المسلمين من خلال تنظيم علاقتها معهم، ودعاها أيضًا إلى دعم (القوميِّين العرب)؛ ويبدو من كلامه أنَّه يدعو إلى الاستثمار في (الجناح القوميِّ العربيِّ المنضوي تحت قيادة عزمي بشارة)؛ ومع ذلك يرفض القوميُّون العرب الحقيقيُّون العمل تحت قيادة القوميَّة الإيرانيَّة الفارسيَّة أو تحت قيادة المواطن الإسرائيليِّ عزمي بشارة، الَّذي يدَّعي العروبة؛ وبالمحصِّلة يدعو وهَّاب-خلال بحثه عن موقع له في لبنان-إيرانَ إلى استبدال التَّعاون مع حزب الأخوان المسلمين ذي الأيديولوجيَّة (الدِّينيَّة الإسلاميَّة السُّنِّيَّة) بالتَّعاون مع (القوميِّين العرب المنضويين تحت جناح عزمي بشارة)؛ وغالبيَّتهم من اليسار والعلمانيِّين أو اللَّادينيِّين، ولمَّح وئام وهَّاب إلى أنَّ قيادة سوريا الجديدة هي قيادة أخوانيَّة، ونسي أو تناسى أنَّ قيادة سوريا قد سبقته بخطوة كبيرة وصحيحة في هذا الاتِّجاه، ومن خلال دعوتها إلى حلِّ حزب الأخوان المسلمين، وجاءت هذه الدَّعوة على لسان مستشار رئيس الجمهوريَّة أحمد موفَّق زيدان.

 وبالعودة إلى رغبة قطر بلعب هذا الدَّور السِّياسيِّ أو ذاك من خلال العلاقة مع الأخوان المسلمين وتيَّار عزمي بشارة من القوميِّين واليساريِّين والعلاقة مع حزب الله أو ذراع إيران في المنطقة تظهر المفارقة العجيبة أنَّ قيادات التَّيَّار (القوميِّ العربيِّ المقاوم ظاهريًّا) تقيم مع قيادات (تيَّار الأخوان المسلمين الحمساويِّ) أو تقيم بالقرب منها في الدَّوحة برغم التَّناقض الأيديولوجيِّ الكبير بين تيَّارات اليسار العلمانيَّة وتيَّار الأخوان المسلمين المتديِّين؛ وهذا يكشف أنَّ الأيديولوجيا الَّتي ينادي بها هذا الطَّرفان ما هي في الغالب إلَّا شعارات رنَّانة من أجل اللَّعب على عواطف الجماهير والتَّأثير فيها أو التَّأثير في المجمتمع العربيِّ من خلال شخصيَّات تتظاهر بحمل شعارات دينيَّة أو قوميَّة لتبتدل المنافع من خلال تحقيق مكاسب شخصيَّة للقادة الَّذين يحملون الشِّعارات ولمساعدة قطر في بحثها عن دورها الإقليميِّ من خلال الاستثمار السِّياسيِّ في هذين التَّيَّارين المتناقضين بالإضافة إلى قربها من تيَّار حزب الله الإيرانيِّ لزيادة التَّأثير وفاعليَّة هذا الدَّور في الإقليم، وقد كشفت تغطية قناة الجزيرة للثَّورة السُّوريَّة في المراحل الأخيرة قبيل انتصار الثَّورة عن معاداة هذه القناة الواضحة لأهداف الثَّورة السُّوريَّة، كما كشفت مدى تأثير إيران واليسار العربيِّ وتيَّار الأخوان المسلمين في صياغة سياستها الإعلاميَّة.

ويبقى لمثل هذا الدَّور القائم على هذا النَّوع من الاستثمار لا على قواعد الجيوبوليتيك متاعبه الكبرى؛ لأنَّه يفيد على المدى القريب أو المدى المنظور؛ لكنَّه سيصطدم حكمًا برعونة المجرم نتنياهو كلَّما شعر بتراجع شعبيَّته وحاجته إلى نصر وهميٍّ يزيد من خلاله رصيده الانتخابيِّ أو الشَّعبيِّ؛ فقد سهَّل على قيادات حزب الله وقيادات حماس وقيادات القوميِّين العرب تنقُّلهم بين دمشق وبيروت وغيرها طالما أنَّ حركتهم هذه لا تمسُّ قوَّة حزبه وشعبيَّته الانتخابيَّة كحركة عزمي بشارة الدَّائمة بين سوريا ولبنان ولقاءاته مع المجرم المخلوع بشَّار الأسد ومع بثينة شعبان ومع ميشال سماحة المدان في قضيَّة تفجير المساجد في لبنان، وطالما أنَّ هناك مصالح مشتركة يستفيد منها (الأعدقاء: نتنياهو وهذه التَّيَّارات الَّتي تناوشه ظاهريًّا وتفاوضه أو تتقاسم معه مكاسب إدارة الأزمات والمناوشات حقيقة)؛ وهذا ما يُفسِّر المناوشات السَّابقة بين حزب الله وحماس من طرف ونتنياهو من طرف آخر خلال عشرين سنة، وفي نهاية كلِّ مناوشة يُعلن حزب الله وقادة حماس وباقي محور المقاومة في إيران وسوريا انتصارهم لجمهورهم، ويعلن نتنياهو لجمهوره انتصاره باللُغة العبريَّة، وفي كلِّ مرَّة تفقد المجتمعات العربيَّة في فلسطين ولبنان وسوريا مئات الشُّهداء، وتُهدَّم المدن العربيَّة باستمرار، ولا يكسب إلَّا بعض قادة التَّفاوض؛ وهكذا استمرَّ الأعدقاء دهرًا في اللَّعب على الحبال واللَّعب على عواطف جماهيرهم؛ حتَّى جاء طوفان الأقصى؛ فأخرج هذه اللُّعبة عند حدود السَّيطرة؛ فهُدِّد مستقبل نتنياهو ومستقبل حزبه السِّياسيَّ، وهُدِّد مستقبل قادة محور المقاومة؛ فبدأ المجرم نتنياهو يغتال هؤلاء القادة واحدًا تلو الآخر؛ أي بدأ يتغدَّى بهم قبل أن يتعشُّوا به أو بمستقبل حزبه.

أولويَّات النَّاخب الإسرائيليِّ

بعد سنة من الآن تقريبًا سيحين موعد انتخابات الكنيسيت الإسرائيليِّ، وسيُبنى على نتائجها كثيرًا من مقتضيات خريطة المنطقة ومستقبلها، وتظهر استطلاعات الرَّأي تراجع شعبيَّة نتنياهو، وبالتَّأكيد سيزيد فشل غارته على قادة حماس في الدَّوحة من غرقه في وحل جرائمه ورعوناته وأوهامه، وستتراجع شعبيَّة حزبه، وسيصعد ائتلاف أكثر اعتدالًا ممَّا سيزيد من فرصة حلِّ الدَّولتين؛ لأنَّ مستقبل نتنياهو وحزبه ليس أولويَّة لدى النَّاخب الإسرائيليِّ بقدر أولويَّة الأمن عنده وبقدر رغبته في استعادة أسرى طوفان الأقصى، حتَّى وإن استعاد أسيرًا واحدًا؛ وهنا بدأت تظهر مخاطر خروج أحداث طوفان الأقصى وخروج نتائجه عن سيطرة نتنياهو، وقد كشفت أحداث طوفان الأقصى عن آخر تعاون هشٍّ بين الأعدقاء؛ لأنَّه يقوم على أساس تقاسم منافع إدارة الأزمة برغم الاختلافات الكبيرة في أهداف كلِّ منهم أو أهداف كلِّ من أراد أن يستثمر في هذا الحدث، وبيَّن أنَّ (حسابات قرايا قادا حماس غير حسابات سرايا نتنياهو)، وبيَّن أنَّ نتنياهو كان يريد تمثيليَّة ينتصر في نهايتها انتصارًا مطلقًا؛ يحرِّر أسراه، ويضخُّ دماء الحياة-مثل كلِّ مرَّة-في عروق حزبه المنهار شعبيًّا؛ وأنَّه ينوي اغتيال قادة حماس في منتصف الطَّريق؛ أي بعد القيام بطوفان الأقصى وقبل أن يقطفوا نتائج الطُّوفان كمكاسب سياسيَّة لقادة حماس ولأولادهم، والحقُّ أنَّ لعب نتنياهو هذه اللُّعبة الدَّنيئة مع محور المقاومة (حماس وحزب الله وإيران وبشَّار الأسد) وعلى حساب أرواح الشُّهداء وخراب المدن العربيَّة يمكن تشبيهها بمجموعة أشخاص يلعبون ورق الكوتشينة؛ حين يلعب فريقان ضدَّ بعضهما، ويستمتع الجميع، ويقطف الجميع متعة لعبتهم وثمارها برغم اختلاف أهداف الفريقين من الشُّركاء أو اللَّاعبين، وتكون المشكلة عندما يمتلك الشَّريك غير المحترف أوراق لعبٍ قويَّة؛ فيؤدِّي لعبه الأرعن إلى خسارة الجميع (شريكه وأعداؤه معًا)، وبمثل هذه الطَّريقة خرجت أحداث طوفان الأقصى عن السَّيطرة برغم الأسئلة الكبرى حولها؛ تلك الأسئلة المرتبطة بتسهيل استخبارات نتنياهو القويَّة جدًّا هذا الاختراق الأمنيِّ ونزول المقاتلين بالمظلَّات إلى المستوطنات دون أيِّ استهداف لهم وركوب الأسيرات الإسرائيليَّات وبكلِّ سرور على الدَّراجات النَّاريَّة خلف المقاتلين الَّذين يختطفوهنَّ؛ لأنَّ نتنياهو بالمحصَّلة كان ينتظر نجاح هذه التَّمثيليَّة بإعادة المختطفين بالتَّعاون مع الخاطفين، ثمَّ يتخلَّص من الخاطفين، ويعلن نصره الجديد مرَّة أخرى أمام النَّاخب الإسرائيليِّ؛ لكنَّ شركاءه أو أعدقاءه في هذا العمل اتَّعظوا هذه الرَّة بمصير من سبقهم ممَّن اغتالهم نتنياهو، وأرادوا هذه أن يقبضوا الثَّمن مباشرة دون أيِّ تسويف؛ فاصطدمت مصالح نتنياهو بمصالحهم ومصالح إيران، الَّتي تستثمر في هذا المجال أيضًا؛ فبدأ مشروع الاغتيالات قبل تحرير الأسرى؛ ولذلك خرجت الأمور عن السَّيطرة، وعجز نتنياهو عن تحقيق أهدافه، وفي مقدِّمتها تحرير الأسرى، وهو الشِّيء الوحيد الَّذي قد يساعده انتخابيًّا، وينشله من أزمة مصداقيَّته وفقدان شعبيَّته والتَّغاضي عن عدوانه؛ وقد جاء الاستهداف الفاشل لقادة حماس في الدَّوحة؛ ليزيد من غرق المجرم نتنياهو في مستنقعه؛ ولكن يبقى السُّؤال:

كيف حدَّد نتنياهو زمان الاستهداف ومكانه؟

لا شكَّ أنَّ نتنياهو يعتمد على كلٍّ من التَّفوُّق التِّقنيِّ (التِّكنولوجيِّ في مجال الاتِّصالات والهواتف الجوَّالة المحمولة وتطبيقات مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ) والتَّفوُّق العسكريِّ في مجال التَّسليح والتَّفوُّق الاقتصاديِّ الدَّاعم للصُّهيونيَّة العالميَّة إعلاميًّا وسياسيًّا ممَّا يمكِّنها من التَّعامل مع أحزاب وقيادات حزبيَّة ومجتمعيَّة متعاونة معها، ويمكِّنها من شراء (المخبرين-الموظَّفين-المتعاونين)، الَّذين ينتشرون في مؤسَّسات عزمي بشارة وفي أماكن ومواقع أخرى بسبب الفقر في سوريا والبلدان المجاورة لها وبسبب ضياع البوصلة خلال الثَّورة، الَّتي طال أمدها نسبيًّا إلى خمسة عشر عامًا. وقد أعلن تلفزيون سوريا المملوك لعزمي بشارة يوم الجمعة الواقع في الثَّاني عشر من أيلول-سبتمبر 2025 أن (جيش الاحتلال الإسرائيليِّ اعتقل في الأشهر الماضية خلايا مخبرين تديرها الوحدة الإيرانيَّة رقم 840 التَّابعة لفرقة العمليَّات الخاصَّة لفيلق القدس الإيرانيِّ، وأظهرت تحقيقات الاحتلال الإسرائيليِّ أنَّ المجنَّدين لم يكونوا يعرفون لصالح من يعملون وكانت دوافعهم ماليَّة، وكان فيلق القدس يستغلُّ أوضاع السُّوريِّين واللُّبنانيِّين لتجنيدهم بالرَّشوة والخدعة، وكان بين المجنَّدين ضابط برتبة مقدَّم في جيش المخلوع بشَّار الأسد). ويأتي السُّؤال ههنا: هل يعرف العاملون مع عزمي بشارة في أيِّ مؤسَّسة من مؤسَّساته لصالح من يعملون؟ وهل يعرفون مصدرًا آخر غير الصُّهيونيَّة العالميَّة يموِّل عزمي بشارة بملايين الدُّولارات الشَّهريَّة رواتبًا للعاملين في مؤسَّساته؟!

والحقيقة أنَّ دوافع تجنيد الضُّبَّاط والفقراء والمحتاجين من سوريا ولبنان وغيرهما لصالح إيران تنطبق ذاتها على دوافع تجنيد الإعلاميِّين والكتَّاب والمثقَّفين السُّوريِّين واللُّبنانيِّين والعراقيِّين والفلسطينيِّين والمغاربة ممَّن يعملون في مؤسَّسات عزمي بشارة لصالح إسرائيل. ومن الممكن أن يكون أحد هؤلاء العاملين مسؤولًا عن تسريب أرقام قادة حماس في الدَّوحة أو تسريب اسمًا لحساب أحدهم الحقيقيِّ أو باسم مستعار على أيِّ تطبيق من تطبيقات مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ؛ ممَّا يمكِّن استخبارات المجرم نتنياهو من تحديد موقع صاحب الهاتف، وتحديد مكانه في الاجتماع من خلال تحديد مكان الجهاز الَّذي يحمل التَّطبيق أو يفتح الحساب على موقع التَّواصل الاجتماعيِّ، ولا يُستبعد أن يكون التَّسريب من بعض العاملين لصالح استخبارات إسرائيل أو استخبارات هذه الدَّولة أو تلك، وقد يكون التَّسريب مقصودًا أو غبيًّا مثل غباء من يعمل مع عزمي أو يدافع عنه؛ ومن هنا يترجَّح سيناريو تحديد مكان الاجتماع؛ فقد أرسل قادة حماس هواتفهم إلى مكان آخر مع ابن خليل الحيَّة ومدير مكتبه، واجتمعوا في مكان آخر عن قصد أو دون قصد؛ فاستهدفت غارة نتنياهو مكان الهواتف لحظة اجتماعها في نقطة واحدة. وعلى العموم فقد كثُر استثمار الاستخبارات العالميَّة في تجنيد بعض السُّوريِّين واللٌّبنانيِّين وغيرهم لصالح الدُّول خلال 15 سنة من الثَّورة، كما وجدت استخبارات بعض الدُّولة الباحثة عن نفوذ لها في سوريا في فكرة التَّعاون مع بعض المؤثِّرين-لا سيَّما إن كانوا أغبياء ولهم متابعون-بوَّابة لمثل هذا النَّوع من التَّعاون أو التَّجنيد، ويبقى الإعلاميُّون والمثقَّفون والأكاديميُّون وأصحاب صفحات السُّوشال ميديا، الَّتي تحظى بمتابعة مقبولة أكثر جذبًا للاستخبارات لتجنيد أصحابها؛ لأنَّهم يأتون بمعلومات حسَّاسة، ويحدِّدون مواقع مهمَّة  لصالح مشغِّليهم في إسرائيل أو إيران أو غيرها من خلال حضورهم في فعاليَّات مهمَّة في القصر الجمهوريِّ أو غيره، وربَّما زرعوا عن قصد أو دون قصد أجهزة تنصِّت وتطبيقات استخباراتيَّة وشرائح تحديد مواقع في مكان الفعاليَّة الَّتي يحضرونها أيضًا، وربَّما يستمرُّ التَّأثير السَّلبيُّ لحضورهم زمنًا طويلًا بعد الحضور ذاته.

وتعرف الاستخبارات (الموساد الإسرائيليَّة والاستخبارات الإيرانيَّة وغيرهما) جيِّدًا كيف تجنِّد المهووس بالخطاب الدِّينيِّ أو الخطاب القوميِّ أو كليهما، مثلما تعرف صناعة مؤثِّري مواقع التَّواصل وتجنيدهم، وبعضهم أشبه بالمجانين؛ والاستخبارات تعرف التَّعامل مع نماذج المهووسين بالظُّهور والشُّهرة وفكرة التَّأثير وحبِّ التَّكريم، وهي الَّتي جنَّدت كثيرًا من قيادات الأخوان المسلمين لتأدية أدوار تخدم إسرائيل أو إيران-عن قصد أو دون قصد-مقابل مكاسب شخصيَّة للقيادات المتعاونة معها، مثلما جنَّدت كثيرًا من المهووسين بالأفكار القوميَّة لصالح هذه الدَّولة أو تلك، ويؤكِّد هذه الفكرة دعوة وئام وهَّاب الأخيرة فيلق القدس الإيرانيَّ إلى الاستثمار في التِّيَّارات القوميَّة بدلًا من الاستثمار في قيادات الأخوان المسلمين. وعندما يتوفَّر العميل (المثقَّف أو الإعلاميِّ أو الأكاديميِّ أو الضَّابط أو راعي الغنم…)، ويعطي الإحداثيَّات أو رقم الهاتف، أو يدلي بمعلومة تُحدِّد الزَّمان أو المكان تظهر شهوة نتنياهو للوصول إلى السُّلطة من خلال العدوان وتصفية الخصوم وتقديم إنجازات وهميَّة لناخبيه بالاعتماد على التَّفوُّق التِّكنولوجيِّ وتحديد المواقع بالهواتف أو أجهزة البيجر المفخَّخة أو إرسال الطَّائرات مع تفوُّق إعلاميِّ أو مع اختراق البيئة العربيَّة بإعلام يحمل أهداف إسرائيل في إثارة النَّعرات الدِّينيَّة أو الطَّائفيَّة من خلال تسليم إدارته للأخوان المسلمين وتمويلها من إسرائيل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أو من خلال إعلام مملوك مباشرة من قبل المواطن الإسرائيليِّ عزمي بشارة وناطق باللُّغة العربيَّة؛ ليسلِّط الضَّوء على بعض الأحداث الَّتي يريد عزمي بشارة إبرازها، ويتجاهل تلك الَّتي لا يريد إبرازها، وقد لوحظ أنَّ موظَّفي عزمي بشارة في تلفزيون سوريا والتِّلفزيون العربيِّ وموقع العربيِّ الجديد وغيرها لا يفوِّتون أيَّ حدث سياسيٍّ لركوب موجة التِّريند، وللحفاظ على تأثيرهم وتجنيدهم مع عزمي بشارة، ولوحظ في الوقت ذاته غياب تغطيتهم لحادثة استهداف قيادات حماس في الدَّوحة ريثما تأتي التَّعليمات من عزمي بشارة بعدما أربكت رعونة نتنياهو تيَّار عزمي بشارة (اليساريِّ العلمانيِّ)؛ لأنَّه يقيم في الدَّوحة مكان الاستهداف ذاته! كما أربكت من قبله كلًّا من قيادات الأخوان المتعاونة معه وتيَّار المقاومة المرتبط بإيران أيضًا.

نتنياهو يصارع طواحين الهواء

فقَدَ نتنياهو بسبب جرائمه ورعونته كثيرًا من اللَّاعبين الإقليميِّين ممَّن كان يتعاون معهم، ويسوِّق نفسه أمام النَّاخب الإسرائيليِّ على أنَّه حاميه المنتصر دائمًا، ويسوِّق نفسه للمجتمع الدُّوليِّ على أنَّه حامي اليهود المستضعفين في فلسطين من غزوات محور الشَّرِّ (بشَّار الأسد، حزب الله، إيران، حماس)، مع أنَّه كان يتقاسم الغنائم مع قادة المحور، الَّذي يتظاهر بعدائه أمام العالم الخارجيِّ، وقد كشف الإسرائيليُّون أنَّ سقوط نظام المجرم المخلوع بشَّار الأسد كان أكبر خسارة لهم، وقد صار من الصَّعب في هذه المرحلة بناء منظومة تستطيع تمثيل المقاومة مثلما مثَّلها حافظ الأسد وبشَّار الأسد وإيران وحزب الله وتيَّار إسماعيل هنيَّة بين قادة حماس من الأخوان المسلمين، مثلما انكشفت حقيقة تيَّار عزمي بشارة؛ لذلك تزداد رعونة نتنياهو وجرائمه كلَّما كشفت استطلاعات الرَّأي عن تراجع شعبيَّته وتراجع حزبه وكلَّما اقترب موعد انتخابات الكينيست الإسرائيليِّ، لعلَّ هذا العدوان أو ذاك يجلب له انتصارًا وهميًّا يمكن تسويقه أو صرفه على شكل شعبيَّة انتخابيَّة، لكنَّه فقد مصداقيَّته أمام النَّاخب الإسرائيليِّ أوَّلًا، بعدما فَقَدَ معظم قادة محور المقاومة القديم؛ الَّذين قتلهم بيديه، وعجز عن إيصال قادة جدد على رأس تلك التَّنظيمات أو الحركات ممَّن يرغبون بمواصلة التَّعاون معه في تمثيليَّات المقاومة، ويستطيعون تأديته. ومحيط نتنياهو الإقليميُّ يعرف جرائم جيِّدًاه، وهو شخص مجرم مثله مثل بشَّار الأسد، وغير مرغوب به في الإقليم، وكذلك نفر من وجوده قادة العالم الحرِّ كلُّهم، وقد استطاع التَّعاون الفرنسيِّ-السُّعوديِّ كسب التَّأييد لحلِّ الدَّولتين، الَّذي يخشاه المجرم نتنياهو، ويرفضه، وقد صوَّتت لصالح هذا الحلِّ 142 دولة في الجمعيَّة العامَّة للأمم المتِّحدة يوم الجمعة في الثَّاني عشر من أيلول-سبتمبر 2025؛ ممَّا يجعل من نتنياهو دون كيشوتًا يصارع طواحين الهواء دون جدوى، وأتوقَّع أن تزيد رعونته، ويرتفع مستوى جرائمه في المرحلة القادمة، بعد جريمته الأخيرة المتمثِّلة بمحاولة استهداف قادة حماس في الدَّوحة، وكلُّ هذا سيزيد من غرقه في وحل جرائمه، وسيزيد تخبُّطه أمام طواحين الهواء، الَّتي راح يصارعها دون جدوى وأمام العالم كلِّه من طوفان الأقصَّى في السَّابع من تشرين الأوَّل-أكتوبر 2023 حتَّى هذا، ولا شكَّ أنَّ السَّنة الأخيرة من عُمر ائتلافه الحكوميِّ قبل انتخابات الكنيست القادمة ستحمل كثيرًا من التَّطوُّرات المؤثِّرة في مستقبل المنطقة وخريطتها كلِّها.

زر الذهاب إلى الأعلى