فنون وآداب

رحيل صلاح السعدني: درس الزراعة مع رئيس وزراء سوري وألبس سعد الله ونوس التاج

العربي القديم – محمد منصور

شاهدت صلاح السعدني لأول مرة حين كنت طالبا في السنة الأولى من دراستي للنقد المسرحي، يومها وفي مهرجان دمشق الحادي عشر عام 1988 جاء صلاح السعدني مشاركاً في عرض (الملك هو الملك) عن نص للكاتب السوري سعد الله ونوس أخرجه المصري مراد منير.

مازلت أذكر عندما دعت الفرقة بعد انتهاء تقديم عرضها سعد الله ونوس للصعود إلى المسرح لتحية الجمهور مع الممثلين، كيف قام صلاح السعدني وبلفتة ليست غريبة عن الذكاء الاجتماعي المصري المفعم بالود تجاه السوري، بخلع تاج الملك الذي كان يضعه على رأسه أثناء أدائه لدور الملك، ووضعه على رأس سعد الله ونوس كتعبير عميق عن التقدير لشخص المؤلف.

ضجت الصالة بالتصفيق لهذه اللفتة التي قام بها نجم فني قدير، وصدر عدد نشرة المهرجان الورقية التي كانت تصدر باسم (المنصة) في اليوم التالي لتحمل مقالا بعنوان: “هل يرضى سعدالله؟” فقد كان للأستاذ سعد الله أتباع وحواريون في الوسط الثقافي، لم يلبسوه تاج المُلك كما فعل السعدني وحسب، بل ألبسوه تاج القداسة والعصمة، واعبتروه خطاً أحمر حتى في النقد، ومنهم ابنة طائفته د. بثينة شعبان التي لا أنسى أنها كتبت في زاوية (آفاق) في صحيفة (تشرين) الحكومية ذات يوم، تحذر من تسول له نفسه وتقول أن “نقد سعد الله ونوس خط أحمر”!

بقيت صورة صلاح السعدني بحضوره المسرح المتوهج عالقة في ذاكرتي المسرحية، وبقي حضوره المحبب جزءا من ذكرياتي الفنية الأولى، وأنا أحضر أول مهرجان مسرحي في حياتي، ليتوقف مهرجان دمشق سنوات طويلة بعدها، ولتكون دورته الجميلة تلك التي افتتحتُ بها دراستي للمسرح، آخر الدورات المحترمة من المهرجان الذي لفظ أنفاسه فيما بعد، ككل شيء جميل في سورية الموعودة بالشقاء والعذاب… ولا أنسى أن السعدني كان قد عرض له في العام نفسه مسلسل (قصر الشوق) الذي تألق فيه بأداء شخصية ياسين في المسلسل المقتبس عن ثلاثية نجيب محفوظ الروائية الشهيرة، التي كتب السيناريو لها محسن زايد، وأخرجها يوسف مرزوق، وأنتجها التلفزيون المصري عام 1988

 وسرعان ما ترسخ حضور صلاح السعدني التلفزيوني في أمسياتنا الرمضانية مع متابعة رائعة الكاتب أسامة أنور عكاشة والمخرج اسماعيل عبد الحافظ (ليالي الحلمية) بأجزائها الخمسة، والتي بدأت تلفت اهتمام المشاهد السوري منذ الجزء الثاني، في حين كان نجاح جزئها الثالث في موسم رمضان التلفزيوني عام 1990 ظاهرة فنية اجتاحت الوطن العربي كله، قبل أن تطفو الدراما السورية على السطح، بفعل الحظر الذي فرضته دول الخليج على الإنتاج الدرامي الأردني بعد تأييد الأردن للعراق في غزو الكويت، ما نتج عنه توجيه الدعم المالي الخليجي نحو الدراما السورية المتعطشة للتعبير عن إمكاناتها والانعتاق من شح تمويل التلفزيون السوري وبيروقراطيته المضجرة!

وهكذا صار صلاح السعدني أو “العمدة سليمان غانم” الذي يناوئ ابن الذوات سليم البدري، عنوان الظرف والأداء الكوميدي اللماح المتمكّن، بل وفاكهة الموسم الرمضاني التلفزيوني.. فقد جسد فيه دور عمره بلا شك، لدرجة يمكن بسهولة معها استنباط لقب “عمدة الدراما المصرية” من أدائه الباهر لشخصية العمدة سليمان غانم ذاك.

استمر صلاح السعدني يعيش على أمجاد دور العمدة في الأجزاء الأربعة الأولى من (ليالي الحلمية) التي أنتجت بين عامي (1987- 1992) قبل أن يفاجئ السعدني جمهوره بدور حسن أرابيسك، في مسلسل (أرابيسك) للمبدع أسامة أنور عكاشة، ومن إخراج المخرج الشاب حينذاك: جمال عبد الحميد عام 1994

في (أرابيسك)، أدى صلاح السعدني شخصية  فنان أرابيسك مصري يعشق فنه ومهنته المتوارثة، لكنه يهمل عمله وورشته ويتجه بفعل صحبة السوء وبعض الأزمات الشخصية إلى تعاطي المخدرات، قبل أن يخرجه من متاهته أحد أصدقائه من مهندسي الديكور، حين يدعوه للمساهمة معه في تأسيس فيلا لأستاذ أكاديمي في الطاقة النووية كان يعمل في أمريكا وعاد ليستقر في مصر… وهنا تدور الحوارات حول الفن والتراث وهوية مصر وفلسفة الشهامة لدى أولاد البلد. شخصية أثراها صلاح السعدني بأحاسيسه وانفعالاته وثقافته، فاندفع النقاد والمثقفون يكيلون له المدائح على وقع هذه الطروحات التأملية والثقافية التي اقتحم بها أسامة أنور عكاشة الدراما… فصار مع ممثليه المفضلين نجم الدراما المصرية في ثمانينات وتسعينيات القرن العشرين.. منذ أن شارك صلاح السعدني في أولى مسلسلاته الناجحة (وقال البحر) الذي أخرجه محمد فاضل عام 1982  وليس انتهاءً بمسلسل (النوّه) لعكاشة مؤلفاً وفاضل مخرجاً عام 1991

وهكذا شكل صلاح السعدني صورة الدراما التلفزيونية المصرية المختلفة عن السائد، وتقلب في أدوار وشخصياتـ حملت هموماً ثقافية واجتماعية وتساؤلات قلقة وهوياتية، وبدا أن حضوره التلقائي البعيد كل البعد عن التكلف، والمثقل بالانفعالات العميقة في الوقت نفسه، خير تعبير عن روح هذه الدراما التي تستلهم الأعمال الأدبية كما في ثلاثية نجيب محفوط، أو مسلسل (عمارة يعقوبيان) عن رواية علاء الأسواني الشهيرة، أو كما في نصوص أسامة أنور عكاشة الممتلئة بالهم الثقافي والعمق التحليلي والاجتماعي.

لم تقدم للسينما ما قدمته الدراما التلفزيونية لصلاح السعدني، فقد صنع التلفزيون نجوميته بينما حاولت السينما استثمارها… لكن صلاح السعدني ابن محافظة المنوفية، المولود  جنوبي دلتا النيل عام 1943. والذي تربى في كنف شقيقه الأكبر الصحفي والكاتب الساخر صللاح السعدني، كان قادرا على تشكيل مسيرته الفنية مسرحيا وتلفزيونياً بمعزل عن الفرص السينمائية التي أتيحت له.

 درس صلاح السعدني الزراعة في جامعة عين شمس وكان زميلا لرئيس الوزراء السوري المنتحر محمود الزعبي، الذي زامله في كلية الزراعة في الجامعة نفسها في ستينيات القرن العشرين، قبل أن يقود الزعبي حتفه بعد 23 سنة في رئاسة مجلس الشعب ثم في رئاسة الحكومة في عهد حافظ الأسد، إلى الموت منحوراً بين يدي “عصابة حاكمة” بثلاث رصاصات في الرأس، بينما قاد هوى صلاح السعدني العروبي القومي، إلى السقوط مضللاً (بفتح اللام) في حب محور المقاومة الإيراني ودجّاله حسن نصرالله.. ولا أدري إذا كان السعدني قد استفاق في زمن الربيع العربي والثورة السورية من هذا الحب،  ليرى صورة المقاومة الحقيقية وهي تنحر السوريين في (القصير) وتحاصرهم وتجوعهم حتى يغدو أطفالهم أشباحاً في (مضايا) وسواها، لكن ما أذكره أن شقيقه الأستاذ محمود السعدني كان يعرف حقيقة نظام الأسد جيداً، وأنه روي عنه ذات مرة، عندما سئل ما الذي يمكن أن نقدمه للمعارضة السورية في عهد حافظ الأسد، أجاب: “أحسن حاجة نبعت لعهم أكفان موتى… لأن النظام ده ما يفهمش أنو في حاجة في الحياة السياسية اسمها معارضة، وهو بيعتير مصير كل مين يعارض الموت بس!”

رحم الله صلاح السعدني الذي رحل يوم أمس في التاسع عشر من نيسان/ أبريل عن (81) عاماً، تاركاً سيرة أخلاقية عطرة، وقناعات سياسية خاصة، وإرثا من الشخصيات..  التي أسفرت  في النهاية عن توريث الموهبة لابنه احمد السعدني فغدا ممثلا ونجماً لامعاً، سائراً أو ثائراً على خطى أبيه.

زر الذهاب إلى الأعلى