تكنولوجيا واقتصاد

طباعة عملة سورية جديدة.. خطوة رمزية أم مغامرة اقتصادية

الحديث عن إزالة صورة بشار الأسد وأبيه من العملة يوحي برغبة في ترسيخ انتقال رمزي للمرحلة

مهدي الناصر- العربي القديم

في خضم الأزمة الاقتصادية العميقة التي تمر بها سوريا، طفت إلى السطح تقارير تتحدث عن نية السلطات السورية طباعة عملة وطنية جديدة في كل من الإمارات وألمانيا، عوضاً عن روسيا التي كانت لعقود المصدر الرئيسي لطباعة العملة السورية.
هذا القرار، إن صح، يحمل أبعاداً سياسية واقتصادية معقدة، ويطرح أسئلة جدية حول توقيته، دوافعه، وجدواه في ظل الواقع المأزوم.

الحديث عن تغيير العملة الوطنية لا يمكن أن يكون مسألة شكلية أو رمزية فحسب، بل هو قرار سيادي بالغ الحساسية، لا يُتخذ في فراغ، بل يفترض أن ينبع من استراتيجية إصلاح اقتصادي ومالي متكاملة ومدروسة.
غير أن السياق الذي ترددت فيه هذه الأنباء، والأسلوب الذي جرى فيه تسريبها، يعطي انطباعاً مقلقاً بأننا أمام خطوة متسرعة وغير ناضجة، تُراد منها رسائل سياسية أكثر من تحقيق نتائج اقتصادية ملموسة.

إن تغيير العملة الوطنية أو حتى طباعة فئات جديدة منها لا يمكن أن يُعزل عن السياق الاقتصادي العام.
سوريا اليوم تواجه اقتصاداً شبه منهار، بنية تحتية مدمّرة، قطاع مصرفي معطوب، ونظام مالي يفتقر لأبسط أدوات الشفافية والحوكمة.
في مثل هذه الظروف، فإن ضخ عملة جديدة في السوق، حتى لو كانت أكثر جودة وأماناً، لا يُعد إصلاحاً، بل مجازفة قد تؤدي إلى نتائج عكسية، أبرزها تسارع معدلات التضخم وانعدام الثقة بالعملة الوطنية.

تجربة طباعة العملة ليست جديدة في سوريا، ويمكن العودة إلى عام 2017 حين قرر النظام السوري المخلوع، طرح فئة الألفي ليرة سورية للتداول للمرة الأولى،  منذ بداية حربه على الشعب السوري. وقد رافق هذا القرار الكثير من الجدل، خاصة أن صورة رأس النظام السابق بشار الأسد وُضعت على الورقة النقدية الجديدة، في وقت كانت فيه الليرة تفقد جزءاً كبيراً من قيمتها أمام الدولار، والاقتصاد يعاني من ركود وانهيار في الإنتاج.
تقارير اقتصادية أظهرت آنذاك، أن فئة الألفي ليرة طُبعت فعلياً عام 2015، عندما بلغ معدل التضخم قرابة 38%، لكنها طُرحت للتداول في 2017 مع معدل تضخم بلغ نحو 14%. ورغم انخفاض الرقم النسبي، فإن الواقع المعيشي ازداد سوءاً، حيث بدأت آثار الطباعة تظهر سريعاً على سعر الصرف والتضخم.

ساهمت الطباعة التي تمت في روسيا دون ربطها بزيادة إنتاج أو تحسّن اقتصادي، في تعميق الأزمة وزادت من تدهور الثقة بالليرة السورية.
هذه التجربة تؤكد أن مجرد إصدار فئة نقدية جديدة، دون مرافقة ذلك بخطط إصلاحية وهيكلية، لا يؤدي إلا إلى مفاقمة الأوضاع، وتحميل المواطن المزيد من الأعباء.

المؤشرات الحالية تُظهر أن الدافع الرئيسي لإصدار عملة جديدة ليس اقتصادي الطابع، بل سياسي في جوهره، والحديث عن إزالة صورة بشار الأسد وأبيه من العملة يوحي برغبة في ترسيخ انتقال رمزي للمرحلة، وكأن التغيير الشكلي في رموز العملة يمكن أن يُنتج تغييراً في واقع الناس الاقتصادي.
مثل هذا التفكير، على رمزيته يتجاهل أن الثقة بالعملة الوطنية لا تُستعاد عبر تغيير لون الورقة أو شكلها، بل من خلال إصلاحات جوهرية تُعيد للاقتصاد السوري القدرة على الإنتاج، وللمواطن السوري الشعور بالأمان الاقتصادي.

الكتلة النقدية في أي اقتصاد لا تُحدد اعتباطاً، بل تتطلب معرفة دقيقة بحجم الاقتصاد الحقيقي، ومستوى الطلب المحلي، ومعدلات النمو، والقدرة الإنتاجية، فضلاً عن مستوى السيولة الموجود فعلاً في السوق.
كل هذه المؤشرات غير متوفرة اليوم في سوريا بصورة موثوقة، نتيجة تدهور مؤسسات الدولة وتوقف الإحصاءات الرسمية عن أداء دورها.
وبالتالي، فإن مجرد تقدير كمية العملة التي يفترض ضخها في السوق الجديدة، أو تلك التي ينبغي سحبها من التداول القديم، يصبح تحدياً بحد ذاته، وأي خطأ في هذا التوازن قد يؤدي إلى كارثة تضخمية أو ركود نقدي خانق.

من جهة أخرى، فإن عملية تغيير العملة لا يمكن فصلها عن كلفة الطباعة نفسها، وما يتبعها من تكاليف لوجستية وأمنية وتوعوية.
الطباعة في الإمارات أو ألمانيا لا شك أنها ستُكلف أكثر مما كانت تكلفه في روسيا، إلا إذا كان هناك جهات دولية أو عربية مستعدة لتحمل جانب من هذه التكلفة، أو ضمان التزامات بتأمين بيئة مستقرة للدورة الاقتصادية، وإلا فإن هذه الخطوة ستضيف عبئاً جديداً على موازنة الدولة المنهكة أصلاً.

حتى في الحالات النادرة التي نجحت فيها دول بتغيير عملتها، كانت تلك النجاحات مشروطة بوجود خطة إصلاح اقتصادي شاملة، وإجراءات صارمة لضبط السوق، وبيئة سياسية مستقرة نسبياً.
سوريا، لا تزال بعيدة عن تلك الشروط، لا يوجد حتى اللحظة أي إعلان رسمي عن برنامج وطني واضح للإصلاح المالي أو دعم المؤسسات النقدية، ولا يوجد إشارات كافية على وجود شراكات دولية أو عربية تواكب هذا التحول بخطط دعم وتمويل وهيكلة.المشكلة الأعمق في مثل هذا القرار تكمن في فقدان الثقة العامة، المواطن السوري، الذي فقد مدخراته وقوته الشرائية على مدى سنوات من التضخم والانهيار، لن يقتنع بسهولة بأن ورقة نقدية جديدة ستحمل خلاصه، لا بل قد يُقابلها بريبة وخوف، فيبدأ باكتناز العملات الأجنبية أكثر، أو حتى الهروب من التعامل بالليرة الوطنية لصالح أدوات موازية، ما يسرّع من الدولرة ويقوّض أي فرصة لاستعادة السيادة النقدية للدولة.

في المحصلة، قد يبدو قرار طباعة عملة جديدة جذاباً من زاوية رمزية أو دعائية، لكن دون خطة اقتصادية واضحة، وتوافر إمكانات حقيقية، ودعم دولي يضمن استقرار هذه الخطوة، فإننا لا نكون بصدد إنقاذ الاقتصاد، بل نُقْدم على مقامرة جديدة في اقتصاد منهك لا يحتمل المزيد من التجريب.
الورقة النقدية ليست مجرد ورقة، بل انعكاس لثقة الناس بدولتهم، وتلك الثقة، كما يعلم الجميع، لا تُطبع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى