الروح الثقافية الفلسطينية: بناء أمة في غياب الدولة
الكتابة الفلسطينية، ليست مجرد أداة إبداعية، بل هي فعل مقاوم يساهم في تشكيل «أمة ثقافية» فلسطينية

محمد صبّاح – العربي القديم
في السياق التاريخي، يمكننا أن نستلهم من التجربة الألمانية نموذجاً مهماً يبرز أهمية الثقافة في بناء الأمة في غياب الدولة. ففي القرن السادس عشر، ساهم مارتن لوثر، من خلال حركته الإصلاحية، في إعادة تشكيل المسيحية الألمانية بعيداً عن الهيمنة الكاثوليكية للإمبراطورية المقدسة. لم يكن هذا التحول مجرد تغيير ديني، بل كان بداية لحركة ثقافية قومية تقاوم الهيمنة الخارجية وتؤكد على حق الألمان في تقرير مصيرهم الثقافي.
رفض لوثر أن يُحاكم في روما، وكتب إلى حامية الملك فريدريك حاكم ساكسونيا، مما شكل نقطة تحول ثقافية. في هذا السياق، تحولت القضية من نزاع ديني إلى قضية قومية، حيث رفض الملك فريدريك أن يُحاكم مارتن خارج حدود ألمانيا. وقد كتب لوثر كتيبًا بعنوان «إلى الأمة المسيحية الألمانية النبيلة»، حيث قال: «مضى وقت الصمت وجاء وقت الكلام». هذا الكتيب، الذي نُشر باللغة الألمانية، كان نقطة محورية في توحيد الأمة الألمانية ثقافياً، حيث ساهم في توحيد اللهجات الألمانية الـ25 في لهجة قياسية واحدة، مما شكل خطوة كبيرة نحو وحدة ثقافية تُوجت لاحقًا بتشكيل الهوية القومية الألمانية الحديثة.
كيف يمكن أن يستفيد الفلسطينيون من هذه التجربة؟
كما فعل الألمان في صراعهم ضد الهيمنة الخارجية، يمكن للفلسطينيين أن يجدوا في الثقافة وسيلة للبقاء والوجود في مواجهة الاحتلال. الثقافة الفلسطينية، مثل الكتابات والتفكير الثقافي في التاريخ الألماني، يمكن أن تصبح أداة قوية لتعزيز الهوية الفلسطينية وتعريفها بعيداً عن الجغرافيا والحدود المادية. مثلما عمل مارتن لوثر على بناء هوية ثقافية للألمان في مواجهة هيمنة روما، يجب على الفلسطينيين تعزيز ثقافتهم كأداة للبقاء والتأكيد على الوجود في مواجهة محاولات محو هذا الوجود.
الفلسطينيون، كما فعل الألمان، قادرون على أن يحيوا في ذاكرة العالم من خلال الثقافة والفكر والفن. الكتابة الفلسطينية، على سبيل المثال، ليست مجرد أداة إبداعية، بل هي فعل مقاوم يساهم في تشكيل «أمة ثقافية» فلسطينية. كما قال فيلهلم فون شيلر في إشارة إلى الحالة الألمانية: «الأمة لا تُقاس بالحدود، بل بالروح التي تجمعها». عبر الفن والشعر والموسيقى، يمكن للفلسطينيين إعادة بناء صورة فلسطين، ليس فقط كأرض ولكن كهوية ثقافية قائمة على الوجود المستمر رغم الصعوبات.

الدور الثقافي في بناء الأمة:
إن الروح الثقافية الفلسطينية، مثل الروح الثقافية الألمانية، ليست مجرد ترف إبداعي، بل هي الأساس الذي يبني الأمة في غياب الدولة. هذه الثقافة تُعطي الفلسطينيين القدرة على تصور أنفسهم كوحدة واحدة ذات تاريخ مشترك ورؤية جماعية للمستقبل، وهو ما يشبه إلى حد كبير كيفية تصوّر الألمان لأمتهم الثقافية في مواجهة تفتت الدولة والسيطرة الخارجية.
في النهاية، إن الفكرة القومية، سواء في الحالة الألمانية أو الفلسطينية، تتجاوز الحواجز السياسية والجغرافية، وتستند إلى القوة الثقافية التي لا تتأثر بتغيرات الواقع المادي. بناءً على تجربة الألمان في القرن التاسع عشر، تصبح الثقافة الفلسطينية أداة ضرورية في بناء الأمة، وهي أداة للتحرر من الهيمنة، تمامًا كما كانت الثقافة والفكر في حالة ألمانيا بعد عصر نابليون.
إن التأمل في تجربة مارتن لوثر وكيفية تأثيره في بناء الأمة الألمانية عبر الثقافة والفكر يعطينا درسًا مهمًا في كيفية تفعيل الروح الثقافية الفلسطينية اليوم. من خلال الفنون، الأدب، والموسيقى، يمكن للفلسطينيين أن يعيدوا بناء هويتهم الثقافية وتعزيز وجودهم على الساحة العالمية، بعيداً عن الحدود الجغرافية والسياسية. الثقافة هي الأداة التي تمنح الأمة الفلسطينية قدرتها على الصمود والتعبير عن ذاتها، مما يجعلها «أمة ثقافية» تتجاوز الواقع المادي لتصبح حقيقة معنوية وروحية.
الروح الثقافية وأسطورة الأمة: بين التجربة الألمانية والهوية الفلسطينية
عندما نتناول الروح الثقافية كوسيلة لإثبات وجود الأمة، فإننا نواجه سؤالًا جوهرياً يتعلق بكيفية بناء هوية أمة في غياب الدولة السياسية أو الحدود الجغرافية الثابتة. وقد تكون التجربة الألمانية في القرن التاسع عشر، حينما كانت الأمة الألمانية لا تزال ممزقة سياسياً وتفتقر إلى وحدة جغرافية، إحدى أكثر التجارب غنى التي يمكن أن نستفيد منها في صياغة المشروع الثقافي الفلسطيني.
في تلك الفترة، كان الألمان في مواجهة مع تحديات وجودية على مستوى الأمة. تحت وطأة الاحتلالات والتقسيمات السياسية، لم يكن أمام الألمان سوى وسيلة واحدة لإعادة بناء هويتهم الوطنية: الثقافة. فقد كانت الثقافة بالنسبة لهم أكثر من مجرد تعبير فني أو أدبي؛ كانت بمثابة وسيلة للبقاء والوجود، وقوة مقاومة ضد الغزاة الذين حاولوا مسح هويتهم وتدمير ذاكراتهم الجماعية. في هذا السياق، جاء مفهوم «الأمة الثقافية» ليصوغ رؤية جديدة حول كيفية بناء الأمة بعيدًا عن الحدود السياسية.
لماذا الألمان؟
ما يميز الألمان عن باقي الأمم في تلك الحقبة هو قدرتهم الفائقة على توظيف الثقافة كأداة لبناء هوية قومية موحدة رغم تفككهم السياسي. فالأمة الألمانية كانت تتألف من مجموعة من الولايات الصغيرة والمتفرقة جغرافياً ، تحت حكم مختلف القوى الاستعمارية، لكنهم تمكّنوا من تشكيل هوية وطنية من خلال الثقافة المشتركة التي ربطت بينهم، مثل الفلسفة، الأدب، الموسيقى، والفن. لا يمكننا إغفال الدور الاستثنائي للمفكرين الألمان مثل فيشته وغوته، الذين حولوا الثقافة إلى حجر الزاوية لمشروع الأمة الألمانية، متجاوزين حدود الدولة السياسية.
ما جعل الألمان يبرزون في هذا السياق هو التفرد في تبني فكرة الأمة الثقافية في وقت كان فيه الكثير من الأمم الأخرى تتعامل مع مفهوم الأمة باعتباره كياناً سياسياً وجغرافياً بالدرجة الأولى. الألمانيون تفردوا في استخدام الثقافة لربط أفراد أمتهم وتوحيدهم فكرياً وروحياً، حتى وإن كانت حدودهم السياسية مهتزة والاحتلالات تحيط بهم من كل جانب.
الفكر الثقافي في ألمانيا: دروس للمستقبل الفلسطيني
في هذا السياق، يبرز الفيلسوف الألماني يوهان غوتليب فيشته، الذي عبّر عن فكرة الأمة الثقافية كبديل عن الأمة السياسية، قائلاً: « الأمة لا تُقاس بالحدود، بل بالروح التي تجمعها». وقد تأثر هذا الفكر بنضوج الفكر الثقافي في ألمانيا، حيث صاغ المفكرون مثل فيشته وشيلر، والأدباء مثل غوته، تصوراً للأمة يتمحور حول الفلسفة، الشعر، والموسيقى، بعيداً عن القيود السياسية والجغرافية. هذا التوجه أصبح بمثابة مقاومة ثقافية ضد هيمنة القوى الكبرى، وهو ما مكن الألمان من بناء هوية مشتركة ومتجددة رغم التحديات السياسية.
ما يجعل هذه التجربة الألمانية ملهمة للفلسطينيين هو التوازي الكبير بين الوضعين. كما كانت ألمانيا في القرن التاسع عشر غير موحدة سياسياً، يتعرض الفلسطينيون اليوم لمحاولة طمس هويتهم الثقافية والجغرافية. رغم الاحتلال والشتات، تبقى الثقافة الفلسطينية أداة فعّالة لتأكيد الوجود الفلسطيني في مواجهة محاولات محو ذاكرته الجماعية.
الثقافة الفلسطينية: مقاومة حضارية في مواجهة الاحتلال
كما كانت الثقافة الألمانية هي المقاومة الحية ضد الاحتلالات والنظام السياسي المفروض، فإن الثقافة الفلسطينية تمثل أيضاً وسيلة مقاومة حضارية ضد الاحتلال الإسرائيلي. ليس فقط من خلال الأدب والفن، بل أيضاً عبر الذاكرة الثقافية التي تُعتبر تجسيدًا للوجود الفلسطيني في الوعي الجمعي. الكتابة الفلسطينية، الشعر، الموسيقى، والفن بمختلف أشكاله، هي وسيلة لإعادة خلق فلسطين في الذاكرة والوجدان، فهي ليست مجرد إبداع فني، بل هي تجسيد للوجود الفلسطيني الذي لا يتوقف ولا يموت.
إن الثقافة الفلسطينية ليست مجرد أداة للمقاومة بل هي الكيان الذي يحدد هوية الشعب الفلسطيني، ويجعل من فلسطين مشروعاً ثقافياً طويل الأمد. من خلال هذه الثقافة، تتشكل الهوية الفلسطينية المستمرة في التاريخ، والتي تحاول الحفاظ على أصالتها وهويتها في مواجهة محاولات الطمس المستمر.
بناء الأمة الفلسطينية عبر الروح الثقافية:
يجب أن نتوقف عند أهمية الروح الثقافية في بناء الأمة الفلسطينية، حيث تتجاوز هذه الروح مفهوم الأرض إلى مفهوم أعمق يرتبط بالوجود والتاريخ المشترك. كما كانت الأمة الألمانية تدمج شعوبها في مشروع فكري ثقافي، يجب على الفلسطينيين الاستفادة من هذه التجربة من خلال تعزيز الثقافة الفلسطينية كأساس لبناء هوية جديدة للأمة. الثقافة ليست فقط أداة لتثبيت الذاكرة التاريخية، بل هي أداة لتحدي الاحتلال. تماماً كما فعل الألمان في القرن التاسع عشر، يجب أن يعزز الفلسطينيون من خلال ثقافتهم الوعي الجماعي الذي يحارب محاولات طمس هوية الشعب.
إن بناء جيل فلسطيني جديد يعتمد على تعزيز الفكر الثقافي وتدريب الشباب على حمل الراية الثقافية الفلسطينية، بحيث تصبح الثقافة ركيزة أساسية في بناء الأمة الفلسطينية. الثقافة ليست مجرد مقاومة بل هي أساس الوجود الفلسطيني المستمر عبر الأجيال.
الروح الثقافية: مفتاح للتحرر الوطني
إن الفكرة الفلسفية التي تعبر عن الدولة الثقافية، كما طرحها المفكرون الألمان في القرن التاسع عشر، يمكن أن تجد لها صدى قوياً في الحالة الفلسطينية اليوم. فالثقافة الفلسطينية، من خلال الأدب، الفن، والموسيقى، ليست مجرد وسيلة لتجسيد الهوية الفلسطينية فحسب، بل هي أيضًا أداة تحريرية، تحمل رسالة استمرارية وصمود في مواجهة محاولات محو الشعب الفلسطيني.
بالتالي، يصبح من الضروري أن نستلهم من التجربة الألمانية كما استلهم منها المفكرون الألمان في عصرهم، وذلك في بناء مشروع ثقافي فلسطيني قادر على تأكيد وجوده واستمراريته، بعيداً عن القيود الجغرافية والسياسية. فالثقافة هي الباقية، وهي الأساس الذي يجب أن يُبنى عليه المستقبل الفلسطيني.
دروس حيوية
إن الروح الثقافية ليست مجرد سمة من سمات الأمم، بل هي العامل الأساسي الذي يمنحها القوة والوجود الدائم. من خلال النظر إلى التجربة الألمانية في القرن التاسع عشر، يمكننا استخلاص دروسٍ حيوية تُعزز من قدرة الفلسطينيين على مواجهة التحديات الحالية عبر تمسكهم بثقافتهم وحضارتهم. الثقافة الفلسطينية هي حائط الصد الأول ضد الاحتلال، وهي الأساس الذي يجب أن يُبنى عليه بناء الأمة الفلسطينية المستقبلي.
______________________________________________________________
*محمد صبّاح / كاتب فلسطيني