فنون وآداب

(في العنصرية الثقافية) لعبد الكريم بدرخان: لماذا هي رائجة وعابرة للثقافات؟

حمزة رستناوي

بالإضافة الى الفضول المعرفي في الكتابة وتناول الظواهر الاجتماعية السياسية، من المهم بمكان الكتابة عن مشاكل حاضرة تعاني معها البشرية اليوم مع التأكيد بالخاصة على صلتها وتفاعلاتها مع المجتمعات العربية الاسلامية. في هذا السياق يأتي كتاب ( في العنصرية الثقافية) لعبد الكريم بدرخان. يعزو بدرخان العنصرية الثقافية إلى مبدأ الجوهر الثابت المشتق من المنطق الأرسطي Essentialism في كونه يقدم الأساس الفلسفي لتبرير وقوننة العنصرية وكافة أشكال ازدواجية المعايير عبر ادعاء وجود  هوية جوهرانية ثابتة لكل فرد أو جماعة أو شعب، كما يشير الكتاب إلى الثقافوية Culturalism باعتبارها من مكونات العنصرية الثقافية و يعرفها بتفسير السياسة والمجتمع والتاريخ بالثقافة، بمعنى أن أوضاع هذه الدولة أو المجتمع أو الشعب على هذه الحال، لأن ثقافة هذه الدولة أو المجتمع أو الشعب على هذه الحال- ص36 ويتلمس الكتاب جذور المقاربات الثقافوية في الفلسفة المثالية الأفلاطونية التي تقول بأولوية وأسبقية وأفضلية عالم المُثل على عالم الواقع، وكذلك في فلسفة التاريخ عند هيجل التي تفسر الطبيعة بكونها مجرد تجسيد لصراع الأفكار والعقل الكلي الذي يحكم التاريخ.

التفكير الثقافوي يعاني من خلل منهجي، فالتفسيرات الثقافوية استسهاليه ولا تراعي التخصصات، فالثقافويون لا يفسرون خسارة معركة بالعلوم العسكرية ولا يفسرون الاستبداد بطبيعة وعلاقات النظام القائم… بل يستبعدون العلوم ويفسرون مختلف الظواهر بالثقافة، والتي قد يتم اختزالها بالدين وحده أو ببضع أحكام ونصوص فيه عبر تفسير سهل ومريح- ص38 التفكير الثقافي سهل الاستحضار حيث يمكن تحويل أي صراع سياسي له أسبابه السياسية التي يمكن حلها بالسياسة إلى صراع هوياتي أسبابه ثقافية ودينية، حيث يحول التفسير الثقافوي الصراع السياسي إلى صراع طائفي أو حرب صليبية لا نهاية لها-ص38

ولكن أخطر ما في التفسيرات الثقافوية هو تحميل الشعب المحكوم والمُجرد من الصلاحيات المسؤولية بدلا من المؤسسات الرسمية وأصحاب السلطة الحقيقية، فمن المعروف أن المسؤولية على قدر الصلاحيات، وبالتالي يتم وضع الضحية مكان الجلاد، و يميز بدرخان بين الأنظمة السياسية الأقرب للديمقراطية وبين الأنظمة السلطوية- الشمولية التي لا يصح معها القول بأن ثقافة الشعب هي من أنتجت النظام السلطوي- ص39 إن تفسير سلوكيات الافراد بوصفها إملاءات من ثقافتهم ، وكأنهم روبوتات منعدمة الفكر والارادة والرغبات والاهواء والمصالح سوف يقود إلى ما يسمى الحتمية الثقافية cultural determinism والتي هي الحالة الأكثر تطرفا من التفسيرات الثقافوية.

يميز الكتاب مفاهيميا ما بين ثلاثة مراحل للعنصرية:

1-عنصريات ما قبل العرق قبل القرن الثامن عشر حيث كانت الأحكام المُسبقة والتحقيرية تبنى على اساس اختلاف اللغة والانتماء القبلي والعشائري والطبقة الاجتماعية والمنطقة الجغرافية.

2-عنصريات العرق، والتي استخدمت النظريات العلمية الزائفة لتبرير الاستعمار وتجارة الرقيق والتفوق العرقي بين البشر حيث قدم الهولندي بيتروس كيمبر تصنيفا للأعراق البشرية يعتمد على دراسة حجم الجمجمة وخلص الى وجود تقارب بين الأفارقة و القردة.

3- عنصريات ما بعد العرق، والتي تقوم على تعميم صفات معينة على جميع المنتسبين لثقافة بشرية معينة بحكم الولادة، وفي معرض تناوله لعنصريات ما بعد العرق( العنصرية الثقافية) يعرض الكتاب لظواهر من قبيل : المركزية الأوربية- معاداة المهاجرين-الاسلام فوبيا- سياسات الهوية، و سنتوقف قليلا مع سياسات الهوية identity politics حيث أن المبتدئ والمنتهى فيها هو مصالح الجماعة الأثنية لا المصلحة العامة للدولة أو المواطنين، إذ لا تطمح سياسات الهوية إلى تحقيق المساواة بين الجماعات بل إلى تحقيق الاعتراف بالاختلاف، وهي تصبح عند اليمين الشعبوي المتطرف رفض البيض مساواتهم مع الملونين.. فقد ينظر الى تعين امرأة سمراء قاضية في المحكمة العليا في الولايات المتحدة  على أنه خسار للبيض و الرجال، وقد يُنظر الى السماح ببناء مسجد على انه تدمير للمسيحية.. و اليوم تستخدم مختلف تشكيلات اليمين الجديدة سياسات الهوية، وخلافا لمفهوم الشعب عند اليسار الذي يعني جميع مواطني بلد معين، فان الشعب عند اليمين البديل هو شعب مُعرّف إثنيّا وأحيانا عرقيا ودينيا من دون حرج، و يشمل الشعب هذه الجماعة الأصلية والمتفوقة دون غيرها، ولكنها –أي هذه الجماعة الأصلية والمتفوقة – تعاني خيانة النخب الديمقراطية الليبرالية لها، فقد باعت البلاد للغرباء وحان الوقت لاستعادتها وتحريرها منهم! فقد قال ترامب في احدى خطبه” كنتم أبناء أمة عظيمة، ولكن تآمر النخب الفاسدة قد دمر بلادكم وأهان كرامتكم- ص6

يقدم الكتاب ثلاثة نماذج شهيرة غربيا لمنظري العنصرية الثقافوية هي: برنارد لويس و هينتنغتون و فوكوياما.

يعرض برنارد لويس في كتابيه: أين الخطأ (التأثير الغربي واستجابة المسلمين) الصادر 2001 وأزمة الاسلام (الحرب الأقدس والارهاب المدنس) الصادر بعد 11 أيلول، رؤية مانوية للتاريخ تقوم على حرب مستمرة ومتواصل بين عالمين هما العالم الاسلامي والعالم المسيحي، وينظر إلى التاريخ كونه حرب أديان تريد السيطرة على العالم، وفقا للويس الدولة الاسلامية بطبيعتها دولة ثيوقراطية، وإن فصل الدين عن الدولة غير ممكن في الاسلام، بينما المسيحية هي ديانة علمانية بطبيعتها وجوهرها وهي قد نشأت نشأة علمانية، بينما الاسلام نشأ نشأة جهادية، حيث يعتبر الفدائيين الفلسطينيين امتدادا تاريخيا وفكريا لفرقة الحشاشين، وليس بسبب أن فلسطين محتلة وشعبها مُهجّر. يلاحظ بدرخان بذكاء التشابه بين أطروحات المؤرخين المقربين من اليمين اليهودي- المسيحي كبرنارد لويس وبين طروحات منظري الاسلام السياسي فكلاهما يرى العلاقة بين الشرق والغرب هي حرب صليبية أزلية ابدية بين مؤمنين وكفار بين نور وظلام، وكلاهما يعتقد بوجود فوارق جوهرية بين الاسلام والمسيحية ويركز عليها ويضخمها- ص100

وإذا كان برنارد لويس أول من استخدم مصطلح صراع الحضارات في مقالته ” جذور غضب المسلمين” عام 1990 فإن صموئيل هينتنغتون أصدر كتابه ” صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي عام 1996، حيث يقدم فيه تعريفا ذاتيا لا موضوعيا للحضارة ويضع الثقافة محل الحضارة ،يرى هينتنغتون أن مشكلة الغرب ليس مع المتشددين الاسلاميين بل مع الاسلام الدين العنيف بطبعه ، فصفات الاسلام الثابتة هي معكوس صفات المسيحية الثابتة، ويرى هينتنغتون بأن الحضارات هي ” قبائل بشرية مطلقة، وما صدام الحضارات سوى” صراع قبلي على مستوى العالم” ص 102

ظهرت مقولة فوكوياما: نهاية التاريخ عقب سقوط جدار برلين 1989، ما عناه فوكوياما ب” نهاية التاريخ هو نهاية الافكار، اذ لاحظ وجود توافق في مختلف انحاء العالم على الديمقراطية الليبرالية وعلى الليبرالية الاقتصادية بصيغتها النيولبرالية ، وقد أخد فوكوياما فكرة نهاية التاريخ من هيجل، الذي رأي ان تطور التاريخ هو التطور إلى وعي الحرية، ويفسر فوكوياما النمو والركود الاقتصادي بالثقافة ويتبنى أطروحة فيبر حول اخلاق العمل البروتستانتية و ظهور الرأسمالية ، وهو يفسر كذلك النهضة الاقتصادية التي شهدتها اليابان أواخر القرن التاسع عشر بالأخلاق الشنتوية التي تؤكد على الصدق والعمل الجاد والزهد في الاستهلاك في مقابلها وضع الاخلاق الهندوسية التي لا تقوم على المساواة- ص114

في الفصل الخامس من الكتاب يعرض الكتاب للظواهر العنصرية الثقافية في الأدب، في المبحث الاول يتناول موضوع ديستوبيا الهجرة من خلال رواية معسكر القديسين لجان راسبيل موضحا تأثيرها في نظريات المؤامرة وأيديولوجيا اليمين المتطرف الفرنسي والامريكي، و كذلك رواية استسلام لميشيل ويلبيك التي قدمت الفكرة نفسها بأسلوب سلس وجذاب وبالبناء على عنصرية ثقافية ضمنية، بعد ذلك يتطرق الكتاب لنزع الصفة البشرية عن اللاجئين في نموذجين هما اغنية من النروج لمغن شعبي وقصيدة من النمسا لشاعر وسياسي يميني ، أما في المبحث الثاني فيتناول الرواية في مرحلة بعد 11 ايلول عبر روايات ” الارهاب الاسلامي”  ورواية ” ليست مشتعلة ولكنها تحترق”  لغريغ هربك و رواية ” الارهابي”  لجون أبدالك.

أما في الفصل السادس يحاكم الكتاب العنصرية الثقافية من منظور اخلاقي أولا- وهو الأهم- من خلال تبيان خطورتها وانتشارها في المجتمعات العربية  لاسيما في الخطاب الطائفي وفي التفسيرات الطائفية لأحوال الدول والشعوب. انتهى عرض الكتاب.

إذا كانت الماركسية التقليدية  تقول بأن البنية التحتية وعلاقات الانتاج في المجتمع هي التي تحدِّد البنية الفوقية وثقافة وسياسة المجتمع ، فإن المقاربات الثقافوية تقول العكس بأنّ الأصل هو ثقافة المجتمع ،  وأما السياسة فهي منتج ثانوي للثقافة. يُلاحظ أن كلا المقاربتين تشتركان في عزو الظواهر إلى سبب واحد.                                                      

وفقا لنظرية المنطق الحيوي: كل كائن هو شكل احتوائيّ مُتعدد الأبعاد، حيث أنه لا يوجد كائن بدون أبعاد, أو كائن أحادي البعد، وبالتالي كل كينونة اجتماعية – سواء أكانت فردا أو جماعة- هي بالضرورة مُتعددة الأبعاد الجغرافية والتاريخية والسكانية والعلمية- التكنلوجية والاقتصادية والعقائدية والسياسية، وهذه الأبعاد تتفاعل،  تؤثر وتتأثر ببعضها البعض بشكل ديناميكي حركي. المقاربات الثقافوية تؤكد وتضخم دور البعد العقائدي الديني وتجعله بمثابة سبب وعلة لتفسير سلوك الكينونة الاجتماعية، وهذا مناف للبرهان. في لحظة تاريخية أو موقف ما، يتم تعين الكينونة الاجتماعية بدلالة أحد أبعادها، مثلا بعد عقائدي – ديني أو بعد سكاني ( قبلي-بدوي مثلا ) أو بعد جغرافي –مناطقي.. الخ ولكنه مجرد تعين ظرفي مؤقت قابل للتغيير، ولا يأخذ صفة الديمومة.

يمكن مُعادلة مفهوم العنصرية – بما يشمل العنصرية الثقافية- بازدواجية المعايير, أي أن تعامل الآخر بما لا تقبلهُ على نفسكَ, أو بما لا يقبله عامة الناس لأنفسهم عبر العصور والمجتمعات من غير اضطرار. يُستخدم مصطلح العنصرية للإشارة إلى الممارسات التي يتم من خلالها معاملة مجموعة معينة من البشر بشكل مُختلف, ويتم تبرير هذا التمييز باللجوء إلى التعميمات المبنية على الصور النمطية وباللجوء إلى تلفيقات علمية. تأتي خطورة مفهوم الجوهر الثابت في كونه الجذر المنطقي للعنصرية وازدواجية المعايير, عبر ادّعائه وجود هويّة ثابتة  للكائن,  تختلف عن غيره من الكائنات.

في الحقيقة إن العنصريات الثقافية هي حجب لسريان بداهة أن كل انسان يحب الحياة، وبداهة أنّ كل إنسان يطلب العدل،  وبداهة أن كل انسان يكره الظلم و تقييد حريته، بغض النظر عن عرقه وثقافته وعقيدته وجنسه ولغته، ما لم يعقه عن ذلك عائق. هذا العائق الذي نجده في موقف جماعة معينة ضد حق الحياة لجماعة ثقافية أخرى، أو رفض حق المساواة مع الآخرين بين المواطنين، هو عائق مؤقت نشأ في لحظة معينة من التاريخ، ولأسباب قابلة للتغيير والعكس بوجود الوعي والإرادة والامكانات المناسبة.

العنصريات الثقافية هي حالات رائجة عابرة للثقافات، فنجدها مثلا عند اليمين الشعبوي المتطرف في الغرب، ونجدها في حالة الاسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، ونجدها كذلك في حالة المقاربات العلمانوية التي تعزو تخلف المجتمعات الإسلامية للإسلام وتهمل العوامل الاقتصادية والسياسية، ونجدها في المقاربات والصراعات الطائفية الشائعة في المشرق العربي مثلا!

السؤال: لماذا هي رائجة؟

أحد الأسباب المُقترحة هو ضعف الاختصاص في مجتمعات و دول العالم العربي الاسلامي، أي ضعف كفاءة، وضعف تمكين أهل الاختصاص في الاقتصاد والسياسة والعلوم والتعليم والادارة.. إلخ في المجتمع.

هل ثمة مثال يمكن استخدامه كتطبيق عملي لنقد المقاربات الثقافوية في الحالة العربية – الاسلامية؟ إجابتي نعم، مثلا موضوع التنوير- الاصلاح الديني.

البعد العقائدي- الديني للكينونة الاجتماعية هو شأن ثقافي من جهة التصنيف،  ولكنَّ تحسين صلاحياته الدين/ التدين السائد في المجتمع وتجاوز قصوره ليس شأناً ثقافياً فقط، وهو لن ينجح عبر أساليب الحوار والتثقيف واستخدام وسائل الاعلام.. الخ. البعد السياسي والبعد الاقتصادي كذلك يلعبان دورا مهما في نجاح أو إعاقة التنوير- الإصلاح الديني، من هنا يبدو من الصعوبة بمكان نجاح إصلاح ديني في ظل نظم سياسية، أو أنماط إنتاج اقتصادي فقيرة تقوم على الاستغلال والفساد.

_________________________

الكتاب: في العنصرية الثقافية: نظريات ومؤامرات وآداب     

المؤلف: عبد الكريم بدرخان

الحجم: 264 قطع متوسط.

الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – قطر 2024

زر الذهاب إلى الأعلى