كنت في زيارة الأهرام... وكان تاريخ الصحافة ماثلاً أمامي
في شارع يُدعى شارع الجلاء، ضمن منطقة الأزبكية الواقعة في وسط العاصمة المصرية مدينة القاهرة، كنت هناك في موعد لزيارة الأهرام.
نعم، فالأهرام أيها السادة ليست تلك القابعة بشموخ فوق هضبة الجيزة منذ أكثر من 7000 سنة فقط ، ففي مصر أينما ما اتجهت، ستجد حتماً هرماً، وصرحاً يشهد على تاريخ، وقصة إبداع.
وأمّا عن زيارتي التي أتحدث عنها الآن، فهي زيارتي لهرم إعلامي فكري ثقافي فريد، ألا وهو جريدة (الأهرام) المصرية العريقة.
بدعوة من الصديق الإعلامي و الصحفي المخضرم الأستاذ أسامة الرحيمي رئيس القسم الثقافي في جريدة (الأهرام) شرفت بزيارة خاصة لهذا الصرح الإعلامي العملاق، للتعرّف عن كثب على تاريخ جريدة الأهرام، وزيارة أقسامها، وزيارة معرض الصور الأرشيفية لإصداراتها الغني بمحتواه، والذي عاصر كوكبة من نجوم الفكر، والفن، والثقافة، والسياسة في مصر والعالم.
فمصر التي كانت، وما زالت منبراً للفن، والفكر والأدب، عبر العصور بدءاً من عصور ما قبل التاريخ، ووصولاً إلى عصر النهضة. كانت كذلك ملاذاً للمفكرين، والمبدعين العرب، كجورج أبيض، وأبي خليل القباني ومسرحه، إلى عبد الرحمن الكواكبي، وفكره التحرري، إلى فنانين كبار مثل فريد الأطرش، وأسمهان، وصباح، عدا عن الكثيرين من المبدعين الذين مرّوا بها، وسكنوها، كمحمود درويش وغيره .
ففي تلك الزيارة أدخل مبنى جريدة الأهرام، ليعود بي التاريخ إلى 27 ديسمبر من العام 1875 حيث تأسست الأهرام، من قبل اثنين من الأشقاء اللبنانيين، وهما بشارة وسليم تقلا اللذان كانا يعيشان في ذلك الوقت في الإسكندرية، حيث صدر العدد الأول في 5 أغسطس 1876، في المنشية بالإسكندرية، وبدأت كصحيفة أسبوعية تصدر كل يوم سبت، ولكن بعد شهرين من تأسيس الصحيفة، حوّلها الأخوة تقلا إلى صحيفة يومية، وتمّ توزيعها في مصر، وبلاد الشام، وفي نوفمبر عام 1899 تم نقل مقر الأهرام للقاهرة.
واليوم تصدر صحيفة الأهرام بثلاث طبعات يومية محلياً، إلى جانب طبعة دولية تطبع يومياً، بعد أن تُنقل صفحاتها بواسطة الأقمار الصناعية، في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وطبعة عربية تطبع في دبي والكويت، وطبعة إلكترونية.
وكانت الأهرام، ومنذ صدورها الأسبوعي تهتم بالأخبار الرصينة، وتمتنع عن التوافه، حيث كان سليم تقلا يرى في الصحافة رسالة، ووظيفة تأبى على حاملها أن يزلّ في لفظ، أو يخطئ في تعبير؛ لذلك كان يأنف الطعن في الأشخاص والهيئات، ويتحرّى الدقة في ما ينشر. وكان أسلوب الأهرام أكثر سلاسة ووضوحاً من الصحف المعاصرة لها.
أرواح مرّوا!
في جولتي عبر أقسام جريدة الأهرام التي امتدت، عبر برجين متلاصقين كنت أستشعر بأرواح مَن قد مرّوا، وعبر عقود طويلة، حيث كنت أسير اليوم، من رموز فكرية، وفنية، وثقافية، وسياسية من رموز الأمة العربية، حيث كانت تحيط بنا أسماء عمالقة الأدب والفن، ورموزه كعميد الأدب طه حسين، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ولا يستطيع المرء حقيقة حصر أسماء كل هؤلاء الرموز، وكل من مروا، وعملوا في هذا المكان، إلا أنني كنت أسير متتبعاً عبق نتاجهم .
وقد وصف طه حسين الأهرام بأنها “ديوان الحياة المعاصرة”، فالأهرام ليست صحيفة امتدّ بها العمر، حتى شاخت، ووصلت من الحياة إلى أرذل العمر، ولكن مرور الزمن كان يزيدها أصالة، ومن ثم فهي صحيفة تحمل على ظهرها تاريخاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وثقافياً محلياً ودولياً، فشمولها للأحداث جعلها ديواناً للأحداث بلغة عصرها، وانفعالاته واهتماماته.
وتضمّ قائمة مَن تولّوا مسؤولية إدارة الأهرام، ورئاسة تحريرها على مدار 130 عاماً عدداً كبيراً، من أعلام الصحافة والأدب، من بينهم على سبيل المثال لا الحصر :
نجيب محفوظ (1911–2006)، في عام 1988 حصل على جائزة نوبل في الأدب
سلامة موسى
طه حسين
يوسف إدريس
إحسان عبد القدوس
محمد حسنين هيكل
إدوارد سعيد
أنيس منصور
وللحق نقول، فإن لجريدة الأهرام سجلاً كبيراً، وواسعاً للثقافة الرفيعة، وهي منبر للرأي الثقافي والأدبي والديني المستنير، وهي بهذا الاعتبار كانت لساناً لثقافة الضاد بتفرّد، ومرآة لهذه الثقافة، من دون أدنى شك جعلها كل ذلك تتبوّأ المكانة الرفيعة بين صحف وجرائد العصر، فهي في عمقها، وجوهر رسالتها كانت ومازالت صورة مشرقة للرزانة والرصانة، وللجدية والشعور بالمسؤولية، وللنزوع إلى الوسطية والاعتدال.
رحلة بين عقود الزمن الجميل ونجومه
ومن الشرح الوافي، والتأريخ الدقيق من الصحفي والكاتب أسامة الرحيمي، لكل صورة أرشيفية كنت أمرّ بها، كنت حينها أتنقل كذلك بين عقود عريقة من الزمن الجميل ونجومه.
وأستشعر بتلك الأحداث المصيرية التي كانت الأهرام ترصدها، وتكتب عنها منذ عصور الملكية إلى ثورة تموز1952 والعدوان الثلاثي، إلى الوحدة مع سوريا إلى حرب أكتوبر، حيث كانت تمرّ أمامي تلك الأحداث كشريط سينمائي فريد الإخراج تستمع معه إلى صوت حركة المطابع، ويعشق بأنفك رائحة الحبر والورق.
ولا يستطيع المرء حقيقة بمقال، مهما كبر أن يختصر تلك الزيارة، وما رأيت فيها، ولمست من أرشفة، وقراءة مهمة من تاريخ الصحافة العربية والمصرية.
ولا أن أصف ذلك اللقاء، والحوار الثقافي النوعي مع الأستاذ أسامة الرحيمي الذي جمعتنا معه طروحات كبيرة، في إحياء الزمن الجميل، وإعلاء قيمة الفكر والثقافة.
وأبى إلا أن يتكرّم، ويصحبني معه إلى زيارة ميدانية إلى وسط القاهرة القديم، والقاهرة الخديوية فكنت أرى تلك المباني، والشوارع العريقة، وأسمع منه قصة كل شارع ومبنى، فلا يزيد الحاضر إلا شغفاً في حب مصر، وشعب مصر، فيحضرني قول للدكتور جمال حمدان في مؤلّفه العظيم “شخصيّة مصر” وكما وصفها، فإن قوّة مصر، منذ بدء التاريخ، حتى قيام الساعة كانت ومازالت كامنة في “شخصيّة شعبها المتفرّدة”.
ونختم حباً، لنقول من قلب كلّ عربي: هنا مصر.