تفاصيل سورية | عندما سألتُ والدي عن القرداحة!
غسان المفلح
الحقيقة أن الصف التاسع او ما يعرف بشهادة الكفاءة، هو نقلة من عدة زاويا في حياة الفتى المراهق. هو الامتحان الأول للنجاح الذي يمر به طالبنا. حيث للشهادة هذه قيمة. يمكن أن تذهب وتتطوع لتصير طيارا في سلاح الجو. لست مضطرا للاستمرار في دراسة الثانوي.
في عامنا هذا بالذات بات على الطالب أن يأتي بمجموع ما، كي يدخل إلى المدرسة الثانوية. لم يعد النجاح لوحده يكفي بل عليك أن تحوز على علامات محددة كي تكمل في الثانوي أو تذهب إلى ثانويات التجارة او الصناعة. ثمة أمر آخر أنك تشعر بنقلة في مشاعرك وأحاسيسك تجاه كل ما يحيط بك. نقلة واضحة لعالم المراهقة. خاصة بعد أن تمر بمرحلة” العادة السرية”. هذه لها قصة لايزال الحديث عنها في مجتمعنا يشكل عيبا. لكن بصراحة لم أمر طويلا في هذه المرحلة للصدفة لا أكثر، لأن من أبناء جيلنا يعيشون عمرهم حتى يتزوج على العادة السرية. لهذا الجانب من الحياة قصة أخرى، هي قصة الإحساس بالحب واللذة.
بات لدي صديقات من معارفنا بالحارة من جهة، ولي صبية أحبها من خارج الحارة أو هكذا أعيش الحالة بوصفها حب.أكتب لها الرسائل، وتكتب لي أيضا. ليتني احتفظت بهذا الأرشيف!
في الحقيقة هذا العام لا يحضر الكثير منه في ذاكرتي، ربما بسبب ما حدث لي قبل الامتحان النهائي أي في منتصف أيار الثاني دخلت المشفى وبقيت فترة فيه. كان لدي التهاب حاد في الزائدة الدودية. مما جعلني أرقد عدة أيام في مشفى (العربي) بأول شارع بغداد. كان الطبيب المشرف على علاجي والعملية الدكتور محمد الشرع. هي مشفى خاص. كنت أبكي لأن الامتحان قريب. امتحان الكفاءة. مع ذلك خرجت من المشفى قبل الامتحان بثلاثة أيام على ما أذكر، ودرست ونجحت لكن” شحط”!.
النجاح شحط يعني 122 العلامة، بالتالي لا يحق لي دخول الثانوية العامة. سجلت بثانوية دمشق الوطنية الخاصة. أقساطها ليست قليلة، لكن والدي رحمه الله أصر. دمشق الوطنية ثانوية عريقة وتقع في شارع ابن الوليد وقريبة جدا من قهوة الحجاز. يوميا أخذ باص النقل الداخلي من الزاهرة القديمة للإطفائية. هذا الطريق في هذه الباصات كانت متعة غالبا أتمنى ألا تنتهي. حيث الأصدقاء والصبايا.. الشيء بالشيء يذكر كان هنالك صبية من قرية اسمها عينفيت، وهي قرية تتبع محافظة القنيطرة ونزحوا أهلها على إثر النكسة 1967 إلى دمشق ولأن والداها ثريا على ما يبدو اشترى منزلا بالقرب من حارتنا. كنت اغازلها من شرفة بيتها من بعيد لبعيد، ولأول مرة نجتمع في الباص صباحا فجلست جانبها. فسألتني فورا أنت من أين؟ قلت لها من حوران، فلم يعجبها! فسألتها وأنت من أين؟ فقالت من القرداحة. قلت لها لكنني أعرف ابن عمك فلان ويلعب معي كرة قدم، وهو من عينفيت؟ كأنها أحرجت، فقالت لي: صح بس أصلنا من القرداحة. قلت لها والنعم. بعدها لم نعد نلتقي وإن التقينا نبتسم لبعضنا ونمشي. هذه القصة في الصف العاشر.
سألت والدي لاحقا عن القرداحة؟ قال لي إنها قرية في الساحل السوري. لماذا تسأل؟ فقلت له تعرفت على صبية من عينفيت فقالت لي أنها من القرداحة. ابتسم وقال لي: يمكن هي تحب أن تتقرب من السيد الرئيس، لأن حافظ الأسد من القرداحة. ابتسم وتركني. لأول مرة أعرف ان حافظ الأسد من القرداحة.
الصراحة بيني وبين والدي رحمه الله، كانت رائعة جدا قياسا بعلاقات أصدقائي بآبائهم. ولاأزال أذكر عندما استيقظت من النوم بعدما نجحت في الثانوية العامة بعدة أيام، كان جالسا فوق رأسي كنت نائما بالمضافة في بيتنا بالقرية، أحب النوم فيها. لأول مرة بحياتي يحصل هذا الموقف. كان ينتظرني لأستيقظ، ويحدثني بطريقة أكثر دفئا ورسمية بالآن معا. طبعا هنالك أسباب، لكن أهمها كان مرضي قبل امتحان الثانوية العامة بأسبوعين، كان مرضا نادرا جدا. هذا المرض ربما أتى من خلال لعبي بمباراة مع فريق لم أعد أذكر اسمه، لكن فريقنا كان اسمه” شباب فلسطين” او فلسطين فقط.
وكان كابتن الفريق الفلسطيني الرايق مروان الناجي وكان يكبرنا سناً، لا أعرف أين أراضيه. أثناء المباراة في محاولة مني التفاخر ربما أمام ابي، الذي كان يشاهد المباراة ليقرر بعدها إن كنت لاعبا أم لا، لأن لوالدي رحمه الله ماض مع كرة القدم.، قمت بعمل ما يسمى “دبلكيك” فشعرت بعدها بألم حاد في مفصل الفخذ. لم تمضي تلك الليلة وحدث ألم فظيع في تلك المنطقة ثم بدأت بالانتفاخ. إلى حرستا العسكري الذي كان زوج خالتي يعمل بها وله موقع حزبي لا بأس به. ولأن حالتي كما قال طبيب من حارتنا لا تحتمل التأجيل أدخلني المشفى وأجروا لي عملية ناجحة كما قالوا. لكن هذا الجرح أقصد جرح العملية لم يتوقف! وبدأ ينزف قيحا. بعدها لم يبقى طبيبا في دمشق مشهورا إلا وزرته. لكن لا حياة لم تنادي. بقي الجرح ينزف قيحا دون أي ألم. تكلف والدي الكثير من النقود في هذه الدوامة التي استمرت أشهرا، حتى سافرت لإسبانيا بغرض الدراسة، هنالك كان لي ابن عمتي تاج الدين فاعوري الذي صار طبيبا مشهورا هناك ورجل أعمال أيضا. بعد وصولي بعد أيام أخذني بعدما شاهد الجرح وقال لي: هذا نوع من أنواع مرض السل. ثم اخذني إلى مركز خاص، شاهد الجرح عدة أطباء وتقدم أحدهم بالقول: هذا مرض نادر ولا يوجد له أدوية حتى، ثم وصف لي دواء عبارة عن علبة حبوب يجب ان أتناولها بداخلها 400 حبة كل يوم ثمان حبات. الطريف أن هذا الطبيب الأخصائي أسماه “خراج سلي” من النوع النادر. فعلا بعدها بفترة لم أعد اذكرها التأم الجرح، لم أعد أشعر بشيء، لكنه طلب الاستمرار بتناول الحبوب، وعندما عدت إلى دمشق أعطاني علبة أخرى. 800 حبة استهلكتها. لكنها فترة رغم النزف شهدت انضمامي للمقاومة الفلسطينية، والاحتكاك مع العمل السياسي مباشرة. وهناك في اسبانيا تعرفت بالفلسطيني الجميل المرحوم نصري حجاج وأخيه كان اسمه وليم.
أطلت عليكم في هذه الزاوية.