المثقف والفاصولياء : هل تصلح أفكار الغرب للزراعة في بيئة مجتمعاتنا؟
حقيقة أن يكون المرء علمانياً لا تتعارض مع كونه مؤمناً يُصلي في الكنيسة أو الجامع

عبد الرزاق دحنون – العربي القديم
أوّل من أمس كنتُ أعمل في البستنة في الحديقة الواسعة التي تتبع المنزل الذي أسكنه مع أسرتي في المرتفعات الجبلية في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة، والمنزل في الأصل لوالدة “توركان” ورثته عن أمها بعد موتها في تسعينيات القرن العشرين، رمّمته بعد أن كان مُهملاً، وشاء القدر أن نستأجر المنزل بعد ترميمه مباشرة، وها نحن نسكنه منذ خمس سنوات.
توركان مختارة حارتنا، وقد فازت للمرّة الثانية في انتخابات المخاتير في دورة عام 2024. يُنتخب رؤساء البلديات والولاة والمخاتير كلّ أربع سنوات في عموم الولايات التركية، ولا فرق بين رجل وامرأة. ومُختار في العربية والتركية: رئيس الحيّ أو القرية، والجمع: مختارون ومُختارات ومخاتير.

منزل والدة توركان الذي ورثته عن أمها والذي قام كاتب المقال بترميمه والسكن فيه (العربي القديم)
يجاذب نفسي، دوماً، شعور غريب، حين تُطل توركان من أوّل الطريق الواصل رأساً إلى باب حديقة المنزل، فلا بُدّ من أن تكون في يدها حفنة من بزور المشمش أو الدراق أو الخوخ أو الليمون أو السماق أو التفاح أو بزور أحد أنواع الأشجار التي لا تعلم ما هي، أو تحمل في يدها غصناً من شجرة أو شتلة ورد في كيس لزراعتها في الحديقة. جاءتني هذه المرّة وهي تحمل كيساً فيه كميّة مُعتبرة من حبوب الفاصولياء المسلوقة (قالت في سرها: لماذا نرميها، لنزرعها في حديقة عبد الرزاق). وفعلاً، من كلّ عقلها تُريد زراعة حبوب الفاصولياء المسلوقة في الحديقة كي تنبت وتُنتج شتلات فاصولياء بقرون خضراء هذا الصيف. نعم، هذه توركان، وتراني أغضُّ الطرف عنها، وأُسامحها، لأنها “غشيمة” في الفلاحة والبستنة والزراعة، وأقول في عقل بالي: مُعاناتي معها أسهل، على كلّ حال، من معاناتي مع العديد من المثقفين من أصحاب الكتب والمقالات الصحافية وقنوات “اليوتيوب” في هذا الفضاء المفتوح لمن هبّ ودبّ. مع أنني (يشهد الله) أحاول جهدي فهم وهضم طروحاتهم، ولكنني أغصُّ بثمار ما ينتجون، وكأنه السفرجل أو حب الآس أو الرمان، فأسأل: هل يفهم المثقف هذه المعادلة البسيطة: حبوب الفاصولياء المسلوقة لا تصلح للزراعة يا فهمان؟
لكن المثقف العربي (أصلحه الله) يريد أن يُقنعني بأنّ بزور أفكاره أصيلة، فهي ممّا أنتجه الغرب في بيئته، ويزعم مثقفنا بأنها تصلح للزراعة في بيئة مجتمعاتنا التي تفتقد تجربتها إلى الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية والمجتمع المدني وفصل الدين عن الدولة والدين لله والوطن للجميع والإسلام، الذي هو سبب تخلّفنا وفق رأيه. هذه بعض بزور أفكار مثقفنا العتيد، بل وأكثر من ذلك يلعن حظه لأنه ولِد عربياً ومسلماً. فهل أفكار مثقفنا تدور في فلكها الصحيح؟
تعال معي لأحكي لك هذه الحكاية: لا يمكن أن أتصوّر أن هناك من يظن أنني أُعاني من نقص في عقلي أو ثقافتي لمجرّد أنني عربي مسلم، فأنا أعرف غنى ثقافتي وتاريخي وتراثي. وهذا الإحساس بالامتلاء، والوقوف على أرض ثقافية صلبة أنا مدين به لتراث فكري حضاري إنساني عميق وعريق. وأنا لا أعتبر أنّ هناك عالماً عربياً وعالماً غربياً، إذ أنتمي إلى مجتمع إسلامي ضمن العالم الأوسع، وهذه الكرة الأرضية ليست ملكاً للغرب، إذ إن لي الحقّ فيها، ولي الحقّ في ثقافة هذا العصر، لأنني أمتلك حضارة تمتدّ جذورها عميقاً في الزمان والمكان، ويمكن أن تُساهم في رفد الحضارة الإنسانية العالمية.

حديقة المنزل حيث تريد توركان أن تزرع حبات الفاصولياء المسلوقة (العربي القديم)
يصيح عليَّ المثقف التعبان: من أنت يا رجل؟ فأتذكّر ما جاء في الأثر بأنَّ أحداً سلَّم على أبي العيناء، وهو من ظرفاء أهل القرن الرابع الهجري في بغداد، وكان أعمى، فسأله: من الرجل؟ قال: من بني آدم. فقال أبو العيناء: مرحباً بك، والله ما كنتُ أظنّ هذا النسل إلا قد انقطع. هل الانتماء إلى أبينا آدم في عصرنا الحديث طريق نجاة مأمون؟
الناس في هذا العالم يمكن أن يُصنّفوا وفقاً لانتماءاتٍ متعدّدة. وبالتالي، فإنّ إنسانيّتنا المشتركة تتعرّض لتحديات وحشية عندما توحّد التقسيمات المتنوّعة في مجتمعنا في نظام تصنيف واحد مُهيمن مزعوم يعتمد على الدين مثلاً، أو الطائفة، أو الثقافة، أو الأمّة، أو الحضارة. ففي حياتنا اليومية العادية نرى أنفسنا كأعضاء لمجموعات متنوّعة ننتمي إليها جميعاً. وحقيقة أن يكون المرء علمانياً لا تتعارض مع كونه مؤمناً يُصلي في الكنيسة، وذلك لا يتعارض مع كونه ينشط في حزب شيوعي، ولا يمنعه من أن يكون صديقاً لعدد كبير من الخلق، وهم (بكل تأكيد) من مشارب مختلفة، يدخل بيوتهم ويأكل من خبزهم. أي شخص هو عضو في جماعات مختلفة متعدّدة (من دون أن يكون ذلك تناقضاً بأي شكل من الأشكال) وكلّ من هذه الهُويّات الجمعية التي ينتمي إليها جميعاً هذا الفرد تعطيه هوية اجتماعية تجعله شخصاً مهماً بالفعل.