"نزار قباني" رحلة شِعرية مستمرة
العربي القديم- فادي أوطه باشي
في عام 1954 يقف شاعر دمشقي مغمور، ليلقي قصيدته العصماء، بعد أن قام بنشرها في مجلة الآداب اللبنانية، لتصل تلك الكلمات حينها إلى مسامع جميع السوريين، والتي قال فيها:
عندما يولد في الشرق القمر
فالسطوح البيض تغفو..
تحت أكداس الزهر
يترك الناس الحوانيت ويمضون زمر
لملاقاة القمر
يحملون الخبز.. والحاكي إلى رأس الجبال
ومعدات الخدر..
ويبيعون ويشرون.. خيال وصور..
ويموتون إذا عاش القمر
ما الذي يفعله قرص ضياء؟
ببلادي..
ببلاد الأنبياء…
وبلاد البسطاء..
ماضغي التبغ وتجار الخدر..
ما الذي يفعله فينا القمر؟
حينها قامت الدنيا، ولم تقعد، بعد أن أثارت تلك القصيدة الجدل والنقاش في مجلس النواب السوري، فقد حركت كلمات قصيدة واحدة بعض النواب لتوجيه مساءلة لوزير الخارجية السوري، عن التدابير التي اتخذتها وزارته، بحق أحد موظفيها الذي نشر قصيدة تسيء لسمعة البلاد، ووصفوا القصيدة، بأنها وقحة، وأن تصرّف هذا الموظف لا يتفق مع الآداب واللياقة، ولا يتفق مع الاعتقادات الدينية، وطالبوا وزارة الخارجية بإقصاء ذلك الموظف عن عمله وإحالته للقضاء، لينال جزاء استهتاره بسمعة بلاده وبكرامتها، وبمُثلها العليا على هذا الشكل المزري، بحسب تعابير بعض النواب الحرفية. ولكن وزير الخارجية آنذاك خالد بك العظم رأى أن ذلك الجدل لا مبرر له، وأن الأمر بسيط مما أثار حفيظة النواب المتشددين.
حدث ذلك فعلاً، وأما عن الشاعر، فقد كان يُدعى نزار قباني الذي كان في بداياته الشعرية موظفاً في السفارة السورية في لندن. وأما عن قصيدته فهي قصيدة (خبز وحشيش وقمر)، والتي كانت حينها غاية في الجرأة، بالنسبة لذلك الزمن، ولم يكن نزار شاعراً معروفاً حينها، حيث هاجم في قصيدته العادات الدينية والاجتماعية العربية بشراسة، وقامت القيامة ولم تقعد عليه.
هكذا عرفت دمشق، وتعرّف أهلها على تلك الملَكة الشِّعرية الفريدة لنزار قباني، فقد كانت ميزته الأولى والأساسية هي استشراف المستقبل، في وحي كلمات شعره الذي سبق به شعراء عصره مضموناً وشكلاً.
ففي قصائد نزار يكمن إبداع فريد، وتنطلق سيمفونية خاصة من حروف قصائد شعره التي ما من عاشق للحياة والحب والوطن، إلا وقد أدمنها بمجرد أن تلتقط حواسه أبيات، وكلمات تلك القصائد.
وعلى ذلك فقد بدأ نزار مشوار شِعره، وهو يعلم بأن دمشق وياسمينها لن تتخلى عنه، وأنه سينتصر على جموع المغرضين، والذين سيصالحونه يوماً ما. كيف لا وهو من كتب عن ذات التجربة، بلسان رائد المسرح العربي جدّه أبي خليل القباني الذي خرج هائماً على وجهه، من سخط المغرضين ذاتهم، حيث كتب عنه قائلاً:
من خان أسعد باشا
يخرج أبو خليل القباني
بقنبازه الدامسكو… وعمامته المقصبة
وعينيه المسكونتين بالأسئلة كعيني (هاملت)..
يحاول أن يقدم مسرحاً طليعياً
فيطالبونه بخيمة قره كوز..
يحاول أن يقدم نصاً من شكسبير
فيسألونه عن أخبار الزير…
يحاول أن يجد صوتاً نسائياً واحداً يغني معه
..(يا مال الشام يا شامي)
فيخرطشون بواريدهم العثمانية
ويطلقون النار على كل شجرة ورد
تحترف الغناء
ومنذ الخمسينات وحتى اليوم، وقد مرّ على رحيل نزار قباني خمسة وعشرون عاماً، اعتبر جميع النقاد نزاراً مدرسة شعرية خاصة، وحالة اجتماعية، وظاهرة ثقافية لن تتكرر، وأطلقوا عليه كثيراً من الألقاب والرتب في مقدمتها “رئيس جمهورية الشعر” و”أحد آباء القصيدة اليومية”.
ووصف بأنه “شاعر حقيقي له لغته الخاصة، وجريء في لغته، واختيار موضوعاته”. نعم، لقد حفر نزار اسمه في الذاكرة الجمعيّة للوطن العربي بأكمله، ولدى العشاق والمحبين، ولدى الكفار والمؤمنين، وعند الأبطال والمقاومين، فقد شكل قباني حالة خاصة لدى الجمهور، بمجرد أن تصدح حروف قصيدته في مكان ما، حتى إن بعضهم اعتبره “عمر بن أبي ربيعة” العصر الحديث.
وارتبط اسم نزار قباني بدمشق، بكل ما تحتويه من جمال وعراقة، حتى أصبح لقبه التعريفي الأول شاعر دمشق، وشاعر الحب والياسمين، فقد كتب عن الحب، بما لم يستطع غيره التعبير عنه عشقاً وشغفاً و جرأة، وكان نزار شاغل الناس، ومالىء الدنيا على مستوى الشعر الحديث، ولا جدال في ذلك، حيث كان ساحراً قادراً على إحداث زلازل في دواخل قرّائه ووجدانهم.
ولا ضير، حين وصفه أحدهم بالشاعر الاستثنائي، بل وصفه بأنه لعنة متى أصابت واحدنا مسّته في الصميم. وفي لعبته الساحرة، حيث يقدر ذلك الشاعر الكبير على اقتحام قلوب وعقول ملايين الجماهير خصوصاً، حينما يقترن كلامه بالموسيقى، ويغني من كلماته مشاهير، وعمالقة الغناء العربي من محمد عبد الوهاب، إلى أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة وأخيراً، في زمننا المتأخر، كاظم الساهر. فكل هؤلاء قد حملوا كلمات الحب، وأوصاف عشق نزار قباني إلى ملايين الآذان، ورددتها ملايين الشفاه والألسن، وتناقلها العشاق، بما تحمله من ألغام بعضها شعري ساحر، وبعضها محمّل برسائل جريئة، إذا ما قيست بمعايير الزمان الذي عاش فيه الشاعر. فالكثير من تلك الرسائل يرددها الناس، دون أن ينتبهوا إلى معناها، وغالباً بسبب خفة هذا النوع من المستمعين، فلا ينفجر بهم اللغم (المخصص للأوزان الثقيلة)، بل ينفجر بمن يمتلكون حساً شعرياً وحساسية نسوية ثقيلة، يتشظّى معها الكلام، ويتفكك ليكشف سحر الساحر، وخبثه الذكوري.
ومن جنون الحب في قصائده، إلى جنون شعره السياسي، فقد أذاق العرب صنوفاً من التقريظ جامعاً بين جلد الذات وجلد الحكام، في طريقة ناجعة للتنفيس عن الغضب والألم. فنزار قباني ليس قائداً شعرياً من الطراز الأول فحسب، بل شاعراً مارس التحريض الشعري بكل أشكاله، وقد سار وراءه كل المعذبين الذين صودرت أصواتهم وأفكارهم، وتم تهميشهم سعياً لوأد إنتاجهم الأدبي.
لقد حرّر نزار قباني ثقافة الشعر المعتقلة، وأطعم الناس من حنطة الشعر خبزاً، وأنزله إلى الشارع، وحوّله من مادة أدبية إلى مواد متفجّرة، يغلي الشارع بها ومعها، وأزال الكلفة بين القصيدة والناس، فخلق الشاعر لنفسه فيلق أعداء سلّوا عليه سيوف النقد، وطعنوا بها صميم القصائد.
وكما أن الشعر لا يستطيع أن يثقب المعدن، علّمنا كذلك التاريخ أنّ معدن مُكمّمي الأفواه هشّ جداً، إذ لا تلبث أن تخرج الأعمال الأدبية الممنوع تداولها إلى العامة، وتتناقلها الأيدي سرّاً ومشافهةً، حتى تُحدث التغيير الكبير الذي كُتبت لأجله ،وكان ذلك سراً من أسرار اعتبار نزار قباني ظاهرة شعرية ومجتمعية لن تتكرر.
إذ يفنّد الباحث نضال نصر الله في كتابه (نزار قباني، وقصائد كانت ممنوعة في السياسة والدين والجنس) النزاريّات التي مُنعت لأسباب شتى، حتى صار لسان الشاعر، وكأنّه برسم الأمانة وقصائده بضائع لا تقبل الجمركة. فيعرّج في كتابه على نزاريّة لا تقلّ شأناً عن سابقتها، هي قصيدة (هوامش على دفتر النكسة)، والتي كتبها الشاعر بعد نكسة حزيران، وهي القصيدة التي مُنعت ساسيّاً وإعلاميّاً، ولأجلها فُرضَ حِصارٌ على منشورات نزار قباني، وقد قال الشاعر عنها:
“لم أعد أتذكر الآن تفاصيل الولادة العسيرة، لقصيدة هوامش على دفتر النكسة، كل ما أذكره أن أوراقي وشراشف سريري كانت غارقة بالدم، وأنّ زجاجات المصل التي كانت مثبتة فوق ذراعي لم تكن تكفي لتعويض الدم المهدور.
وما بين الحب و السياسة مازال شعر نزار قباني يثير الكثير من الآراء النقدية والإصلاحية حوله، لأنه كان يحمل كثيراً من الآراء التغريبية للمجتمع وبنية الثقافة، وألّفت حوله العديد من الدراسات والبحوث الأكاديمية، وكُتبت عنه كثير من المقالات النقدية، إذ ترأس طقوس الندب السياسي واللقاء الأول مع المحرمات، وكذلك لغته، إذ كان نزار مع الحداثة الشعرية، وكتب بلغة أقرب إلى الصحافة تصدم المتعوّد على المجازات الذهنية الكبرى، وقد ألقت حداثته بظلال كثيفة على كل من كتب الشعر، وذلك لكون قصائد نزار سريعة الانتشار. فبعد كل قصيدة هجوم وعنف وتجريح ورضا، وبعد كل ديوان حملات شعواء، وأقلام غاضبة، وأصوات عالية، لكن الرحلة الشعرية النزارية مستمرة، لا يثنيها صوت، ولا يكتمها سيف. وإذا كان النقد لا يصنع موهبة، فهو يسدد خطاها، لكن ما كُتب في نزار وشعره، في جُله لم يكن نقداً بالمعنى العلمي لكلمة نقد، فقد كان مدحاً أو ذمّاً، وكان الذم في الغالب يأتي بناءً على محاكمة نصوصه الشعرية بمعايير دينية وأخلاقية تقوم على أحكام قسرية بعيدة عن أسس النقد الأدبي ومعاييره.
واليوم، وقد مر زمن ورحل شاعر الحب وشاعر دمشق وياسمينها جسداً، لعلنا نتساءل: لو تم عزل نزار قباني من وظيفته، وأحيل للقضاء حينها، فهل كانت سورية ودمشق ستلد نزاراً غير ذلك النزار، وعبق ياسمين حروفه؟! لتجيب إحدى قصائده عن سؤالنا، والتي قال فيها:
كتبتِ لي يا غالية..
كتبتِ تسألين عن إسبانية
عن طارق، يفتحُ باسم اللهِ دنيا ثانية
عن عقبةَ بن نافعٍ
يزرعُ شتلَ نخلة..
في قلبِ كل رابية…
سألتِ عن أميةٍ
سألتِ عن أميرِها معاوية
عن السرايا الزاهية
تحملُ من دمشق .. في ركابها
حضارةً.. وعافية
***
لم يبقَ في إسبانية
منا، ومن عصورنا الثمانية
غيرُ الذي يبقي من الخمر،
بجوفِ الآنية..
وأعينٌ كبيرةٌ.. كبيرةٌ
ما زال في سوادِها ينامُ ليلُ البادية
لم يبقَ من قرطبة
سِوى دموع المئذناتِ الباكية
سِوى عبير الوردِ، والنارنج والأضاليه
لم يبق من ولادة ومن حكايا حبها
قافية… ولا بقايا قافية!
بكل ما كٌتب عن نزار قباني، وما سيكتب عنه لاحقاً، نقداً كان أم وصفاً، ذماً أم مدحاً، لا يسعني إلا أن أضعه الآن جانباً، لنبقى أنا الكاتب المتواضع لهذا المقال، ومثلي الكثيرون نحمل أينما رحلنا، وتغرّبنا في شتات الأرض جذورنا المتشابكة، مع عشق مدينة الياسمين، والتي عبّر عنها نزارنا بقصائده، وعبق حروفه منذ الأزل بحب وشوق، ويعلو الصوت والقلم منادياً بصوت نزار:
“أعيدوني إلى مَن علّمتني أبجدية الياسمين”
كاتب روائي سوري *
_____________________________________________
من مقالات العدد السادس من مجلة (العربي القديم) الخاص بالذكرى المئوية لميلاد نزار قباني