السرد السهل الممتنع في قصص الأطفال عند زكريا تامر
د. محمد طه العثمان
أتذكر أثناء فترة دراستي في الجامعة، كُلّفت بإعداد بحث عن مجموعة قصصية بعنوان “دمشق الحرائق” للكاتب السوري زكريا تامر. بدأتُ بتوقع بسيط، وهو أنها ستكون مجرد تقديم لمؤلف كلاسيكي، ولكن ما اكتشفته كان أكثر من ذلك بكثير. تفاجأت بالكنز الأدبي الذي عُرض في هذه المجموعة، حيث وجدت نفسي مذهولاً من قدرة الكاتب على توظيف التكثيف، وتعميق الشعور بالحدث البسيط. كسر زكريا تامر الحواجز في القصة التقليدية السائدة، وتجاوزها إلى التجريب، وفتح آفاقاً جديدة، وأثار صوتاً جديداً في هذا المجال، كان الأسلوب حاداً وساخراً بذكاء، حيث خلط بين الواقع والخيال؛ لإبراز صور من الانتهاك الإنساني والحياتي. يعكس هذا الأسلوب الاحترافي معالم، وصور الظلم، والعقم السياسي للأنظمة العربية، وتغوّل السلطة في حياة الناس، والقهر الاجتماعي التي يتحملها الإنسان في مجتمعه.
عشت مع قصصها، خلال يوم واحد، كانت المجموعة رشيقة ودقيقة اللغة والمشهد، مما جعل كل قصة من قصص هذه المجموعة تنبض بالحيوية، وتشد انتباه القرّاء.
يبدو أن زكريا تامر قد أبدع العديد من المجموعات القصصية التي اشتُهرت بأسلوبها الساخر والمليء بالخيال. وعندما قرأت له “النمور في اليوم العاشر”، تأكدت لديّ هذه القناعة. فقصصه في هذه المجموعة كانت في غاية التشويق، لكنني الآن لستُ بصدد الحديث عن أهمية زكريا تامر كقاص مختلف، الذي صاغ اتجاهاً جديداً في السرد القصصي، حيث جمع بين التوظيف الثقافي، والحنكة في تطوير الحدث، والاهتمام بعوالم شخصياته النفسية والاجتماعية، وحتى القوليّة، بل سأتحدث أيضاً عن زكريا تامر كمبدع في السرد الطفولي، وقصص الأطفال، حيث يُعتَبر صاحب أهم تجربة قصصية في أدب الطفل، من وجهة نظري بالنسبة لمَن قرأت لهم.
فمن كتب القصة القصيرة، والخاطرة الهجائية الساخرة منذ عام 1958، انتقل لكتابة القصة الموجهة إلى الأطفال منذ عام 1968، فنشر العديد من المجموعات القصصية للأطفال من مثل (الفريسة)، و(لماذا سكت النهر)، و(قالت الوردة للسنونو)، و(نصائح مهملة) وغيرها.
ما شدني بشكل كبير لعالم قصصه الطفولي هو طريقة الطرح العبقرية للأفكار، وتقديمها للطفل بيسر وعذوبة، فهو مثلاً في قصة “الفريسة” يحاول أن يشرح للطفل دورة الحياة الغذائية، عن طريق حوار بين سمكة وصيادها، هذه السمكة المستكينة لمصيرها -بعد أن اصطادها بعد يوم شاق وغير موفق- فتروي طريقة تقطيعها والقلي، ثم الأكل، ثم نراها تحدثنا عن تحولها، بعد ذلك لمادة عضوية في التراب بطريقة ساخرة وذكية، حوار عفوي وبسيط بين السمكة والصياد في بداية القصة، ثم سرد القصة على لسان السمكة، والمآل الذي وصلت إليه بأسلوب تشويقي، فنلاحظ فيه خيالات الطفولة العجائبية التي تساعد في نمو الوعي والمعرفة عند الطفل.
في حين نرى قصة “الرعد” هي تصوير للطفل المتنافر مع الحياة، وكل ما يتعلق بها؛ فهو يكره الفصول والليل والنهار، وحتى أيام الأسبوع. يظهر الطفل كارهاً للشمس والقمر والنجوم، وحتى للبشر بمختلف أنواعهم. يُطلب من الغيوم ألّا تذهب إلى المدرسة، ومن الشمس ألّا تشرق، وفي نهاية القصة يخترع الطفل قنبلة ذرية لتفجير العالم بأكمله، وتشرق الشمس على أنقاض الدمار…. وقد كان يرى القمر وهو يشرب الماء، ويتحدث إلى القطط، ويتواصل مع النهر.
وأحياناً تدور حكايات زكريا تامر في مجموعة صياد في الغابة، عن صياد يدخل إلى الغابة؛ ليصطاد الأرانب والغزلان والطيور، فتكون حكايات الحيوانات هي النموذج المثالي في نوعية القصص التي تفتح على خيالات الطفولة في التواصل مع عناصر الطبيعة، ومع الحيوانات، ومع الأشياء.
من الواضح أن زكريا تامر يستقي مواده من الطبيعة في أغلب مجموعاته وقصصه، فهنالك تمازج بين أبطال القصص، وهم أطفال، أو حيوانات الغابة، والفراشات، والطيور، وكل ما يشد انتباه الطفل القارئ، مما يجعل القصص قريبة ومألوفة له، وفي الوقت ذاته تعطيه قيمة وعبرة، وربما فائدة ومعلومة، وهذا كله بأسلوب بسيط جدّاً. لشدة بساطته تشعر أنك تعرفه، وقادر على قوله وكتابته، لكن حين تريد قوله لن تستطيع.
وهنا سأترك لكم مقطعاً من نهاية قصة الفريسة، يدلل على هذا:
“حملني الصياد إلى بيته، وهو يلهث متعباً، وهناك تولت زوجه تقطيعي بالسكين إلى قطع مختلفة الحجوم، ووضعتها في مقلاة ملأى بزيت يغلي، فلم أصرخ متوجعاً، أو مستغيثاً، وبقيت في المقلاة حتى نضجت. عندئذ ابتدأ أولاد الصياد يأكلونني بنهم، فغمرتني البهجة، ولكني حزنت بعد قليل؛ لأن الأولاد قالوا بتذمر وسخط إن لحمي سيئ الطعم، على الرغم من أنهم استمروا في أكلي.
وازداد حزني، عندما تنبهت إلى أني في يوم تالٍ، لابد عائد إلى جوف الأرض، وسأضطر آنذاك إلى العيش في الأماكن المظلمة القذرة؛ حتى يُتاح لي يوماً رؤية الشمس في جذور شجرة أو وردة”.
من مقالات العدد الحادي عشر من مجلة (العربي القديم) الخاص بزكريا تامر – أيار/ مايو 2024