العربي الآن

التجييش الطائفي إرث مستمر: قراءة في مرحلة ما بعد الأسد وما بعد حكم الطائفة

لم تتوقف محاولات التجييش الطائفي التي يلجأ إليها بعض أفراد الطائفة العلوية كوسيلة للحفاظ على امتيازاتهم ووسيلة لترهيب الآخرين والطعن بوطنيتهم

نوار الماغوط – العربي القديم

تشهد سوريا اليوم واحدة من أصعب مراحل تاريخها الحديث، بعد عقود طويلة من الاستبداد الممنهج الذي بدأ مع نظام حافظ الأسد البائد، وانتهى بهروب ابنه بشار تاركًا البلاد في حالة من الخراب على المستويين الإنساني والمؤسسي. في هذا الفراغ السياسي، تسلّمت هيئة تحرير الشام السلطة في سوريا، محاولةً ملء الفراغ الذي تركه النظام، وإعادة تشكيل مستقبل البلاد. لكنّ الواقع الذي تواجهه سوريا اليوم ليس مجرد إرث من الدمار المادي، بل هو نتاج عقود من تدمير الإنسان السوري نفسيًا واجتماعيًا، في ظل خطاب طائفي قمعي كان أحد أدوات النظام لإحكام السيطرة. فقد مارسه الحكم البائد واستفاد منه، منذ انقلاب صلاح جديد عام 1966 حتى كان يغدو استثماراً علوياً اجتماعيا وسلطويا في آن معاً.

التدمير الممنهج للإنسان السوري

السياسات التي انتهجها نظام الأسد على مدار خمسة عقود لم تقتصر على تدمير البنية التحتية أو إضعاف مؤسسات الدولة، بل استهدفت الإنسان السوري بشكل مباشر. تمثلت هذه السياسات في قمع الحريات، وتشويه القيم الوطنية، واستخدام الطائفية كأداة لإحداث انقسامات عميقة داخل المجتمع السوري. هذا التدمير المنهجي خلق حالة من عدم الثقة بين مكونات الشعب، وجعل إعادة بناء الإنسان السوري أصعب بكثير من إعادة إعمار المدن والطرقات.

مع هروب بشار الأسد، برزت هيئة تحرير الشام كقوة رئيسية استلمت السلطة في سوريا. وبينما تحاول الهيئة فرض سيطرتها على المشهد السياسي والإداري، تواجه تحديات هائلة نابعة من هذا الإرث الثقيل الذي خلفه النظام، بما في ذلك الانقسامات الطائفية العميقة.

التجييش الطائفي.. إرث مستمر

في ظل هذه التحولات، لم تتوقف محاولات التجييش الطائفي التي يلجأ إليها بعض أفراد الطائفة العلوية كوسيلة للحفاظ على امتيازاتهم ووسيلة لترهيب الآخرين والطعن بوطنيتهم. هذه المحاولات تعكس خوفًا وجوديًا من فقدان النفوذ الذي ارتبط بنظام الأسد لعقود، والذي استفادوا منه على حساب كل المكونات السورية دون شك، لكنها تعيد إنتاج الانقسامات التي زُرعت على مدى سنوات طويلة.

تجييش الطوائف لم يكن مجرد وسيلة مؤقتة للنظام، بل كان أداة استراتيجية اعتمد عليها لتأمين بقائه. هذه السياسة، التي أضعفت النسيج الوطني، جعلت من الصعب تحقيق مصالحة وطنية شاملة، وأصبحت عائقًا أمام بناء سوريا الجديدة.

هيئة تحرير الشام، في ظل استلامها للسلطة، تتحمل مسؤولية تاريخية في تفكيك هذا الخطاب الطائفي والعمل على ترسيخ قيم المواطنة والعدالة. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر يكمن في تجاوز الانقسامات العميقة وإعادة بناء الثقة بين مكونات الشعب السوري.

المهمة الأصعب

بينما يمكن إعادة إعمار البنية التحتية في سنوات قليلة إذا توفرت الموارد والإرادة، فإن إعادة بناء الإنسان السوري الذي تعرض للتدمير النفسي والاجتماعي على مدار عقود يحتاج إلى وقت أطول وظروف استثنائية. هذه المهمة تتطلب بيئة سياسية واجتماعية تعتمد على المساواة واحترام الحقوق، بعيدًا عن الخطاب الطائفي الذي شكل الأساس لسياسات النظام البائد.

إن بناء إنسان سوري جديد يتطلب مشروعًا وطنيًا يضع المواطنة الحقيقية في الصدارة، ويعتمد على قيم الحرية والكرامة والعدالة. هذه القيم، التي سعى النظام لطمسها، يجب أن تكون أساس سوريا الجديدة.

تفكيك الخطاب الطائفي

التحدي الذي تواجهه هيئة تحرير الشام، أو أي قوة تسعى لتشكيل مستقبل سوريا، لا يقتصر على إعادة بناء الدولة، بل يتطلب إعادة صياغة الهوية الوطنية السورية. وهذا لن يتحقق دون تفكيك الخطاب الطائفي بالكامل، واستبعاد كل من ساهم في تدمير البلاد، سواء من النظام السابق أو من المعارضة السياسية التي تاجرت بالثورة السورية لتحقيق مكاسب شخصية.

قبول مشاركة الشخصيات التي كانت جزءًا من النظام القمعي أو ممن تلطخت أيديهم بالفساد والخيانة في إعادة الإعمار السياسي والاجتماعي سيكون بمثابة خيانة لتضحيات الشعب السوري، وعائقًا أمام بناء دولة قائمة على العدالة والمساواة.

رغم ضخامة التحديات، لا يزال الأمل قائمًا في قدرة السوريين على تجاوز هذا الإرث الثقيل. هناك طاقات شابة ورؤية جديدة لسوريا يمكن أن تخرج البلاد من أزمتها. نجاح هذا المشروع يعتمد على مدى قدرة  هيئة تحرير الشام، على تقديم نموذج حكم عادل وشامل يتجاوز أخطاء الماضي ويؤسس لمرحلة جديدة.

إعادة بناء الثقة

إن مستقبل سوريا يعتمد على إعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع، ووضع الإنسان السوري في صلب عملية البناء. هذا يعني التركيز على التعليم، والعدالة الانتقالية، والتنمية الاجتماعية، بهدف تجاوز الانقسامات وإرساء أسس سلام مستدام.

 بناء سوريا جديدة لن يكون ممكنًا دون التخلص من إرث النظام البائد، وعلى الأخص في عقول أبناء طائفته، وتفكيك السياسات التي كرّست الانقسام، والعمل الجاد لبناء هوية وطنية جامعة تعيد للإنسان السوري كرامته ودوره كمحور لأي مشروع وطني ناجح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى