دلالات وقضايا | صِراع بابل وإيبلا وجُذور الأيديولوجيا في الشَّرق الأوسط
مهنَّا بلال الرَّشيد
يرتبط عنوان هذا المقال بجملة كبيرة من القضايا الأيديولوجيَّة الحسَّاسة جدّاً؛ كالطَّائفيَّة والنَّزعات العِرقيَّة والصِّراعات بين المتديِّنين وغير المتديِّنين، وفي بعض الأحيان تنشب نيران الصِّراعات المذهبيَّة الأكثر ضراوة بين طوائف دينيَّة ترجع كلُّها إلى أرومة دينيَّة واحدة، وإن رجعت جذور كثيرٍ من هذه الصِّراعات الأيديولوجيَّة إلى منتصف الألف الثَّالث قبل الميلاد، فإنَّ وَطْأَتَها لم تهدأ، وأوارها لم ينطفئ برغم قِدمِها السَّحيق، بل على العكس من ذلك فقد زادت ضراوة الصِّراع الأيديولوجيِّ، الَّذي يُزكيه ساسة معاصرون، يُجيدون إضرام نار الصِّراعات (التَّاريخيَّة أو الجغرافيَّة أو العرقيَّة أو الدِّينيَّة وغيرها)؛ ليصطادوا في مياهها العكرة، ويُحقُّقوا بعض المكاسب الرَّخيصة، الَّتي لا يستطيعون تحقيقها دون إزكاء مثل هذه النِّيران!
والحقُّ إنَّ معاناة الإنسان المشرقيِّ المعاصر من هذه القضايا أصعب وأمرُّ بكثير من معاناة أجداده، الَّذين نشأت في مجتمعاتهم تلك الصِّراعات، وتمدَّدت جذورها، ونمت بين ظهرانيهم إلى أن استفحلت سموم تلك الصِّراعات في مجتمعاتنا المشرقيَّة المعاصرة، وما خريطة الشَّرق الأوسط وصراعاتها الجيوسياسيَّة المعاصرة إلَّا مثال واضح نتيجة طبيعيَّة جدًّا لسلسلة مترابطة من أحداث أيديولوجيَّة متعاقبة، وما الفكر الدِّينيٍّ المعاصر والأحداث العسكريَّة أو السِّياسيَّة الرَّاهنة إلَّا بعض من نتائج الأحداث والتَّطوُّرات الفكريَّة والعسكريَّة والسّياسيَّة والدِّينيَّة قبلها؛ ومن هنا فقد رسم (برنارد لويس وسايكس وبيكو) خريطة الشَّرق الأوسط المعاصرة (لبلاد الشَّام وبلاد الرَّافدين والجزيرة العربيَّة) نتيجة لوعيِهم العميق وقدرتهم الكبيرة على إدارة صراعات هذا المشرق وتوظيفها للاستفادة منها.
كان رسَّامو خريطة الشَّرق الأوسط المعاصرة من أدهى السِّياسيِّين وأكثرهم وعياً بأسباب سقوط الدَّولة العثمانيَّة في نهاية الحرب العالميَّة الأولى؛ ولم تظهر بين أيديهم الخريطة الجيوسياسيَّة الجديدة للشَّرق الأوسط إلَّا نتيجة طبيعيَّة لفهمهم أسباب سقوط الدَّولة العثمانيَّة، وما نشوء الدَّولة العثمانيَّة من قبل سقوطها إلَّا نتيجة لجملة من الأحداث المترابطة في العصر العبَّاسيِّ؛ أدَّى بعضُها إلى إحراق بغداد وقصْفِها بالمناجق أيَّام الخلاف بين الأمين وحلفائه والمأمون وحلفائه من أبناء هارون الرَّشيد، ثمَّ علا نفوذ السَّلاجقة الأتراك، وحكموا من (الرَّيِّ- طهران) كلّاً من فارس وبلاد الأناضول وبلاد الرَّافدين وبلاد الشَّام، ومهَّدَ انتصار القائد السَّلجوقيِّ ألب أرسلان في معركة ملاذكرد (1071.م) ضدَّ الصَّليبيِّين إلى ظهور الزِّنكيِّين والأيُّوبيِّين وسقوط الدَّولة الفاطميَّة وتحرير بيت المقدس على يدِ صلاح الدِّين الأيُّوبيِّ في معركة حطِّين (1187.م)، ثمَّ فُتحت القسطنطينيَّة (1453.م)، وهذا عرض موجز لجملة من حلقات التَّاريخ المترابطة، الَّتي أدَّت إلى ظهور خريطة الشَّرق الأوسط الحديثة؛ نتيجة لجملة من أحداث التَّاريخ العبَّاسيِّ في العصر الوسيط، ويمكننا كذلك -لولا خشية الاستطراد- أن نحدِّد الحلقات الأساسيَّة في سلسلة التَّاريخ الأمويِّ وبدايات الإسلام الأولى وعدوان أبرهة الحبشيِّ الأشرم وما قبله؛ لكنَّنا وبعد أن وضحَّنا ترابط أحداث التَّاريخ نعود إلى أسئلة الصِّراع الأيديولوجيِّ المهمَّة في هذا المقالِ: لماذا غزا سرجون الأكديُّ مملكة إيبلا؟ وكيف تمكَّن حفيده نارام سين من دكِّ حصون قلعتها وإحراق قصرها ومكتبتها في تلّ مرديخ؟ وما النَّتائج الفكريَّة والدِّينيَّة والجيوسياسيَّة الَّتي أسفر عنها هذا الغزو؟ وكيف أثَّرت في أجدادنا هذه النَّتائج؟ وهل نحن الآن -بعد أكثر من أربعة آلاف سنة لذلك الحدث الجيوسياسيِّ الكبير- ما زلنا تحت سطوة نتائجه وتأثيرها الكبير فينا؟
الموقع الجيوسياسيِّ والحرِّيَّة الفكريَّة في إيبلا
تقع عاصمة مملكة إيبلا على أكروبول أو تلٍّ طبيعيٍّ في تلِّ مرديخ في إدلب شمال غرب سوريا، ويُشرف هذا التَّلُّ على تقاطع طُرق التِّجارة الدُّوليَّة، ويتحكَّم بحركة القوافل في الشَّرق القديم في مكان يُعرف اليوم بتقاطع طريق (M5) مع طريق (M4) عند مدينة سراقب في محافظة إدلب شمال غربيِّ سوريا، ويتفرَّع عن هذا التَّقاطع طريقٌ غربيٌّ يذهب نحو مملكة أحفاد الإيبلاويِّين ومرفئهم في أوجاريت بالقرب من اللَّاذقيَّة نظرًا لدورها في التِّجارة البحريَّة على سواحل البحر الأبيض المتوسَّط، ويتَّجه الفرع الجنوبيِّ نحو دمشق والقدس ومكَّة المكرَّمة واليمن، ويصعد شمالًا نحو حلب وأورفا وبوغاز كوي عاصمة الحثِّيِّين في الأناضول بالقرب من أنقرة في وقتنا الرَّاهن، ويتفرَّع من هذا التَّقاطع دروب أخرى يربط أحدُها إيبلا بتلال الرَّقَّة والحسكة المشرفة على طريق الحرير نحو فارس والصِّين القديمة، ويربط درب آخر مملكة إيبلا بمملكة أفسس غرباً عبر تلِّ آفس غربيَّ سراقب، ويربط الدَّرب الجنوبيِّ إيبلا بالفراعنة ومكَّة المكرَّمة، ونجد عبر بوَّابة تلّ طيبة أو تلِّ تيبيس، وتُعرف القرية المشرفة على هذه البوَّابة الجنوبيَّة اليوم باسم: (تَلْدَبِس)، ويُعرف التَّلُّ المشرف على بوَّابة إيبلا نحو الجنوب باسم تلِّ المحتي تحريفاً عن أسماء الفراعنة المصريِّين (أَمِحْتِب، وأَمِنْحُوتِب، ومِحْتِب وغيرها)، وقد ضمن الإيبلاويُّون ولاء أبناء عمومتهم من الأموريِّين في نجد بتزويج ملكهم أميرة إيبلاويَّة، كما زوَّجوا أمير (مَسْكَنَة- إيمار) أميرة إيبلاويَّة أخرى؛ نظرًا لإدراكهم أهمِّيَّة الزَّواج السِّياسيِّ من جانب، ولإشراف مَسْكَنة على نهر الفرات من جانب آخر؛ وضمنوا بذلك دروب التِّجارة والحركة النَّهريَّة من منابع الفرات العليا في الأناضول حتَّى مصبِّه في شطِّ العرب جنوب العراق، بالقرب من الكويت و(البحرين-دِلْمون القديمة)، وتكشف وثائق إيبلا أنَّ هذه المملكة كانت عاصمة مزدهرة، استقطبت العلماء ورجال الفكر، وقد استقدم الإيبلاويُّون أساتذة أو علماء رياضيَّات ومهندسون من دِلمون للعمل في القصر وتدريس الرِّياضيَّات.
شكَّل هذا النُّفوذ الإيبلاويُّ الدِّبلوماسيُّ أو الجيوسياسيُّ الكبير أرَقاً ومتاعب كبيرة لملوك بابل الأكديِّين، لا سيَّما سرجون الأكديِّ وحفيده نارام سين، وشكَّل هذا النُّفوذ أكبر عائق أمام توسُّعِ أكديِّي بابل بعد أن قضى سرجون على الفكر الدِّينيِّ السُّومريِّ، وأنهى عبادة آلهة السُّومريِّين، وأراد توحيد المشرقِ كلِّه تحت لواء مردوخ؛ كبير آلهة أكديِّي بابل، وارتبط سرجون بعلاقة حصريَّة مع إلهه مردوخ، ونشر أصنامه بين أتباعه في تلال بلاد الرَّافدين كلِّها، لكنَّ علاقة ملوك إيبلا الدِّبلوماسيَّة المتميَّزة مع فراعنة مصر وملوك الحجاز واعتمادهم مبدأ حرِّيَّة الدِّين والتَّدوين الفكريَّتين في مدنهم ومدن حُلفائهم وأصدقائهم في الشَّرق القديم وقف عائقًا كبيرًا أمام توسُّعات سرجون وحفيده نارام سين، وقد كانت لغة التَّدوين في القصر الملكيِّ في إيبلا لغة شماليَّة غربيَّة مختلفة عن أكديَّة بابل، وعبد الأموريُّون في مُدن إيبلا: عشتار وأَدَد ودَجَن، وعبادة هذه الآلهة عزَّزت استقلال إيبلا، وضمنت تنامي نفوذها من جانب، ووقفتْ عائقاً في وجه سرجون الأكديِّ ومطامح حفيده في أَدْلَجةِ المشرق دينيًّا تحت لواء مردوخ كبير آلهة البابليِّين؛ لذلك كان لا بدَّ من الحرب، وإن عجز سرجون عن اقتحام قلعة إيبلا في تلِّ مرديخ برغم محاولاته المتعدِّدة، فقد أحرق حفيده نارام سين القلعة ومكتبة القصر الملكيِّ، وأطلق على التَّلِّ اسم: تلِّ مرديخ أو (تلِّ مردوخ)، ونحن لم نكن نعرف هذا التَّل إلَّا باسم (تلِّ مرديخ) لولا اكتشاف مملكة إيبلا وإفصاحها عن اسمها القديم بعد جهود ثلاثة من أبرز علماء البعثة الإيطاليَّة في تلِّ مرديخ؛ وهم: باولو ماتييه، وجيوفاني بيتيناتو وألفونسو آركي.
كيف اقتحم نارام سين حصون إيبلا وبوَّابة قلعتها الجنوبيَّة الشَّرقيَّة؟
تقع عاصمة مملكة إيبلا على تلٍّ حصين، يُشرف على تقاطع أشهر طرق التِّجارة العالميَّة القديمة، ويُطِلُّ على جبل الزَّاوية من جهته الغربيَّة؛ ممَّا يُجبر القوافل التِّجاريَّة على المرور بين التَّلِّ والجبل (تلِّ مرديخ وجبل الزَّاوية)؛ لدفع الجِّزية أو الضَّرائب، كما يُشرف جبل الزَّاوية من ناحيته الغربيَّة على ممرِّ ضيِّق يُجبر شعوب وحضارات حوض العاصي في سهل الغاب على المرور ودروب محدَّدة، تُساعد الإيبلاويِّي على الإشراف على تجارة هذا الطِّريق وإخضاعها لنفوذ تجَّار إيبلا، ويُطلُّ سهل الغاب وجبل الزَّاوية من ناحيتهما الغربيَّة على سلسلة جبل سوريا الغربيَّة الخاضعة بدورها لنفوذ مملكة إيبلا وأحفادهم من فينيقيِّي السَّاحل السُّوري في أوجاريت أو رأس شمرا؛ ومن هنا يتَّضح لنا أسباب عناية الإيبلاويِّين بتحصين بوَّابة المملكة الجنوبيَّة الغربيَّة، وذلك لإطلالتها المباشرة على طريق (حلب-دمشق- القدس- مكَّة المكرَّمة- صنعاء)؛ أي لإطلالتها على أشهر طريق من طُرق التِّجارة ورحلة الشِّتاء والصَّيف، وما مبالغة الإيبلاويِّين في تحصين هذه البوَّابة الشَّديد إلَّا ليجعلوا اختراقها صعبًا للغاية مقارنة بالبوَّابة الجنوبيَّة الشَّرقيَّة المُطلَّة على بادية الشَّام السُّوريَّة وتجارة نهر الفرات، الَّتي يشرف عليها، ويتحكَّم بها أمير (مسكنة- إيمار) حليف الإيبلاويِّين من خلال المصاهرة أو الزَّواج السِّياسيّ، والرَّاجح أنَّ هؤلاء الملوك والأمراء في نجد ومسكنة و(زمري ليم) ملك مملكة ماري جميعهم من أصول أموريَّة؛ أي من أصل مشترك مع الإيبلاويِّيين، كما يبدو من مقارنة هذه الأسماء فيلولوجيًّا باسم (إبِّت ليم) بوصفه واحدًا من أشهر ملوك إيبلا، وما التَّسمية إلَّا دليل فيلولوجيٌّ يحظى بدرجة عالية من المصداقيَّة؛ لأنَّ كثيرًا من البشر يحملون أسماء آبائهم وأجدادهم نفسها؛ بالإضافة إلى ضمانهم ولاء أمير (مسكنة- إيمار) المُشرف على تجارة نهر من النَّاحية الشَّاميَّة، وكذلك تُكرِّسُ المسافة القصيرة بين مسكنة جنوب شرقيِّ حلب ومركز مملكة إيبلا بوصفها ممرًّا ضيِّقًا آخر هيمنة تُجَّار إيبلا على دروب الشَّرق القديم السَّاحليَّة الغربيَّة والدَّاخليَّة البرِّيَّة والشَّرقيَّة البرِّيَّة والنَّهريَّة؛ لذلك يبرز سؤال مهمٌّ يقول: من أين قدِمت جيوش نارام سين؟ ومتى وصلت إلى قلب العاصمة؟ وكيف اخترقت حدود تلٍّ حصينٍ دون مواجهتها بجيوش الملوك والأمراء الموالين لإيبلا؟
أستبعدُ فرضيَّة خيانة إحدى الحاميات العسكريَّة على تلٍّ من تلال مملكة إيبلا المترامية الأطراف، واستنادًا على وثائق إيبلا ذاتها، الَّتي تدلُّ على ازدهار المملكة وانتشار الحرِّيَّة الدِّينيَّة والثَّقافيَّة والفكريَّة بين أبنائها؛ ممَّا جعلها مركز استقطاب مثل دمشق في العصرين: الآراميِّ والأمويِّ وبغداد في العصر العبَّاسيِّ، فقد بلغ عدد سُكَّان إيبلا -بحسب الوثائق- حوالي (260000) نسمة في منتصف الألف الثَّالث قبل الميلاد تقريباً، حيث لم تكن معظم العواصم الأوروبِّيَّة الرَّاهنة موجودة أبدًا، وتدلُّ الوثائق اليونانيَّة خلال حرب طروادة أنَّ عدد سكَّان أثينا؛ أقدم العواصم الأوروبِّيَّة، بعد ألفي سنة تقريبًا من سقوط عاصمة إيبلا لم يبلغ إلَّا عشرات الآلاف. ومع استبعاد فرضيَّة الخيانة تبرز فرضيَّة الحِيلة العسكريَّة، الَّتي مكَّنت نارام سين من تحقيق اختراق أمنيِّ؛ فاستطاع بذلك غزوَ مملكة إيبلا من ناحية بادية الشَّام بين مملكة تَدْمُر ومملَكة ماري؛ أي من ناحية بوَّابتها الجنوبيَّة الشَّرقيَّة الضَّعيفة، ويبدو لي أنَّ جيوش نارام سين قدمت نحو إيبلا من هذه البادية تحديداً؛ أي من ناحية ليس فيها تلال وقرى زراعيَّة وحاميات عسكريَّة كثيفة، وما خطَّة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- حين عبر الصَّحراء الطَّويلة، وباغت الرُّوم البيزنطيِّين، وفتح بلاد الشَّام في معركة اليرموك إلَّا خطَّة شبيهة جدًّا بخطَّة نارام سين حين عَبَرَ البادية ذات الكثافة السُّكَّانيَّة المنخفضة، أو شبه الخالية من السُّكَّان، وأرجِّح أنَّ جنود نارام سين قد اصطحبوا معهم المجانق المجوقلة، وكانوا يسيرون ليلاً، وينامون نهاراً؛ حتَّى نصبوا في إحدى اللَّيالي مجانقهم على مشارف بوَّابة إيبلا الجنوبيَّة الشَّرقيَّة من ناحية بادية الشَّام، وباغتوا سُكَّان العاصمة بقصف قلعتهم وأسوارها وبوّابتها من ناحيتها الآمنة نسبيّاً بقذائف اللَّهب والزُّجاجات الحارقة، الَّتي دمَّرت هذه البوَّابة تدميراً هائلاً؛ لذلك لم تستطع البعثة الأثريَّة الإيطاليَّة بقيادة باولو ماتييه أن تعيد ترتيب حجارة هذه البوَّابة، وقد انتشر رماد الحِمم والقذائف على حجارة السُّور، وفتَّتَ أعمدة البوَّابة الضَّخمة، كما أكلت ألسنةُ اللَّهب أثاث القصر الملكيِّ الفاخر، وأحرقت مكتبة إيبلا، وأسهمت بتفخُّر ألواح الطِّين فيها، في حين تبدو البوَّابة الجنوبيَّة الغربيَّة سليمة تمامًا؛ وهكذا يتَّضح أنَّ الحريق ناجم عن قذائف المناجق، مثل حريق هرقلة وعموّريَّة في زمن هارون الرَّشيد والمعتصم، ويتَّضِحُ أنَّ إحراق إيبلا سَبَقَ اقتحامَها، ولو كان الاقتحام قبل ذلك لَمَا أحرق المقتحمون المملكة، ولاكتفوا بنهبها، ويبدو أنَّ بعض القاعات الملكيَّة في قصر إيبلا وبعض الحُجرات الأرشيفيَّة في المكتبة، وربَّما أفرغها سكَّانها من مقتنياتها الثَّمينة أو المهمَّة جدّاً قبل الفرار، وأرجِّح ههنا أنَّ الأسرة الحاكمة وكُتَّاب القصر قد أفرغوا بعض المقتنيات الثَّمينة والوثائق المهمَّة، وحملوا ما يقدرون على حمله، وتركوا الباقي عُرضة للنَّهب والتَّدمير نتيجة لعنصر المفاجأة أو المباغتة في هذا الغزو، الَّذي اعتمد على بطش نارام سين وحِنكتِه العسكريَّة معًا، وقد يكون (نارام سين) هو (نام رود أو نمرود) بابل ذاته، الَّذي أراد إحراق إبراهيم عليه السَّلام، وإن لم يكن نارام سين النَّمرود ذاته فإنَّ اسمه وزمنه غير بعيدين عن اسم النَّمرود وزمنه أيضاً، وتؤكِّد المصادر والوثائق التَّاريخيَّة أنَّ النَّمرود وكهنة معبد (آي ساجيلا) والبرج بالقرب منه عَرَفوا قذائف المناجق الملتهبة وزجاجاته الحارقة، واعتمدوا على الرَّمي بقذائف اللَّهب أو حجارة سِجِّيل، كما عُثِر على منجنيق كبير في مملكة الحَضْرِ في الجانب العراقيِّ من بادية الشَّام.
ما نتائج سقوط عاصمة إيبلا الفكريَّة والدِّينيَّة والجيوسياسيَّة؟
افترض باولو ماتييه أنَّ بعض ملوك الحثِّيِّين مثل: مورسيليس الأوَّل (1620-1590) قبل الميلاد، وخاتوسيل الثَّاني (1371-1355) قد قَدِمَ من بوغاز كوي بالقرب من أنقرة وغزا مملكة إيبلا، وأحرقها، وأراد باولو ماتييه بهذا الرَّأي أن يلوي عُنق الوثائق التَّاريخيَّة؛ لتثبيت مثل هذه النَّتائج مع أنَّ إحراق إيبلا وقع قبل زمن هذين الملكين الحثِّيَّين بما لا يقلُّ عن (500) سنة، وربَّما يكون هذا واحد من أبرز الأسباب الَّتي دفعت باولو ماتييه إلى الاستغناء عن خدمات شريكه في البعثة الأثريَّة جيوفاني بيتيناتو، وقد كان بيتيناتو رسَّام البعثة الإيطاليَّة وناسخ رُقم إيبلا ومترجمها؛ إلَّا أنَّ بيتيناتو بعد انفصاله عن البعثة نَشَرَ نتائج مهمَّة لقراءته في رقم إيبلا، ونبَّه إلى مخاطر إخفاء رُقم إيبلا وأدلجة نتائجها، والحقُّ أنَّ رُقم إيبلا ما تزال مغيَّبة، ولم ينشر حافظ الأسد أو ابنه بشَّار ولا مُدراء ثقافتهم أو متاحفهم شيئاً من نتائج هذه الدِّراسة أو الدِّراسات، ولم تتُرجِم شيئًا منها إلى العربيَّة بعد أكثر من خمسين سنة من اكتشافها وفكِّ شيفرات لُغتِها، بل اكتفت أسماء الأسد وزوجها بالتَّضليل الإعلاميِّ وتوشيه قيمة إيبلا وموقعها ومكانتها في تاريخ المشرق القديم والتُّراث العالميِّ من خلال إقامة ورشات خياطة في إيبلا، ثمَّ باغتَت مروحيَّات المجرم بشَّار الأسد مملكة إيبلا وسُكَّانها، وقصفتهم بالبراميل المتفجِّرة، كما قصفها من قبله نارام سين بقذائف لهب المناجق، وسقط عشرات الضَّحايا من النِّساء والأطفال والشُّيوخ من سُكَّان القرية المدنيِّين الأبرياء بالقرب من تلِّ أجدادهم العريق، ونلحظ -كذلك- تغييباً ممنهجاً لأقدم وثائق سوريا، حيث نعثر في جواز السَّفر السُّوريِّ (الإلكترونيِّ) الحديث على صورٍ لأوابد سوريَّة مهمَّة مثل قلعة حلب وقلعة أفاميا، لكنَّ هذه الأوابد الأثريَّة كلَّها لا ترقى إلَّا إلى الألف الأوَّل قبل الميلاد، مقارنة برُقم إيبلا، الَّتي تضمَّ تاريخ سوريا والعالم القديم في الألف الثَّالث قبل الميلاد، ويكتفي مصمِّمو جواز السَّفر السُّوريِّ الإلكترونيِّ الحديث بتضمينه صورة لساعة إدلب في دوَّار المحراب المطلِّ على متحف إدلب في هذه المدينة الجميلة، وكذلك يحتوي الجواز على صورة (لكنسية قلب لوزة لاعتبارات طائفيَّة ممنهجة)، يعرف أبعادَها مصمِّمو هذا الجواز الإلكترونيِّ الحديث.
سَلبَ نارام سين الأسرة الحاكمة في (إيبلا- تلِّ مرديخ) قُدرتَها على التَّحكُّم بطرق التِّجارة الدُّوليَّة؛ لكنَّه لم يتمكَّن من القضاء على أموريِّي إيبلا، الَّذين انتقلوا إلى حلب، وجعلوا منها -بسرعة فائقة- عاصمة اقتصاديَّة وسياسيَّة مهمَّة لمملكة يمحاض، وركَّز أحفادهم من كتَّاب القصر الملكيِّ على تطوير نظام الكتابة، حتَّى وصلوا إلى اختراع الأبجديَّة ونظام الكتابة الأبجديِّ في أوجاريت رأس شمرا، وإن تمكَّن نارام سين من إحراق بؤرة إشعاع حضاريٍّ؛ فإنَّه لم يتمكَّن من إكراه أموريِّي إيبلا على اعتناق عبادة مردوخ، ولم يتمكَّن من ضمِّ إيبلا تحت لواء هذه الأيديولوجيا الدِّينيَّة؛ وهنا تعزَّز مضمون آية قرآنيَّة كريمة نزلت على الرَّسول الكريم محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- بعد ثلاثة آلاف سنة من غزو نارام سين، قال فيها المولى عزَّ وجلَّ: (لا إكراه في الدِّين قد تبيَّن الرُّشد من الغَيِّ فمن يكفر بالطَّاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واله سميع عليم) [سورة البقرة، الآية: 256]. ويومًا بعد يوم تتعزَّز أهمِّيَّة الحرِّيَّة الدِّينيَّة في شرقنا الَّذي يعجُّ بالصِّراعات الطَّائفيَّة والدّينيَّة، ومع ذلك قد يبرز لك بعض الأحيان قارئٌ من قُرَّاء سلسلة هذه المقالات؛ ليزاودَ عليك في تقديم مثل هذه القراءة المحايدة أو غيرها، والحقُّ لا يمكن لأيِّ حافظِ نصوص أن يخوض في ملذَّات التَّأويل، لا سيَّما إن كان مُقَامِقًا ذا لُقَّاعات في كلامه؛ فهذا مُردِّدٌ مثل الببَّغاء، غير قادر على التَّأويل وتقليب معاني الكلمات والنُّصوص على الوجوه المحتملة كلِّها، ومثلُ أولئك لا يصلحون للتَّأويل أو النِّقاش والحِجاج؛ لأنَّ غالبيَّتهم العُظمى من جنود الأيديولوجيا المنتفعين بفُتاتها، ولا يُمكن الحوار مع المُنتَفِعِ لأنَّ انتفاعه مذهبٌ وارتزاقه دينٌ بالنِّسبة له، وهذه الفئة المؤدلجة تسير بتوجيه من يُشعل نار الأيديولوجيا فيها -عن إدراك مرَّة، وعن جهل آلاف المرَّات- بعيداً عن الإيمان بحرِّيَّة المعتقد في إطار المواطنة الصَّالحة بين أبناء الدَّولة الحديثة المخلصين لوطنهم والمتعايشين بمحبَّة وسلام مع أبناء وطنهم والمتفاعلين ثقافيّاً معهم ومع كلِّ حرٍّ شريف وشهم نبيلٍ دون الاهتمام بأيِّ مقولة أو نار أيديولوجيَّة بغيضة.
الاستغلال والاشتراكيَّة والرَّأسماليَّة والدِّيانات السَّماويَّة
تبيَّن لسرجون الأكديِّ وحفيده نارام سين دور الأيديوجيا الدِّينيَّة في توحيد البلاد تحت سلطة إله واحد وملك واحد، يملك وحده حقَّ التَّواصل مع هذا الإله (مردوخ)، ويُشرِّع ويسنُّ القوانين (والمراسيم) باسمه، لكنَّه -ربَّما- غابت عنهم مخاطر إجبار الرَّعايا والمواطنين على اعتناق دينٍ أو عبادة إله لا يؤمنون، أو الهُتاف لرئيس لا يحبُّونه، أو لا يرونه أساسًا؛ وهذا ما وضع سُكَّان إيبلا أمام تحدٍّ أو مأزقٍ تاريخيٍّ مهمٍّ، استجابوا له -بحسب نظريَّة التَّحدِّي والاستجابة عند أرنولد تويمبي- بأفضل طريقة؛ فجعلوا (حلب-Aleppo) عاصمة اقتصاديَّة وسياسيَّة جديدة لأموريِّي مملكة يمحاض، وجعلوا -بعد ذلك- من أوجاريت ولغتِها وأبجديَّتها ونظام كتابتها في رأس شمرا عاصمة للثَّقافة العالميَّة كلِّها، لكنَّ الجانب المأساويَّ في هذا الغزو دَفَع بعض السَّاسة من أغرار رجال السِّياسة وأقزام الأيديولوجيا إلى مزيد من الخنوع تحت سُلطة مَن أَزكى فيهم نار الأيديولوجيا الدِّينيَّة أو الطَّائفيَّة البغيضة أو المذهبيَّة الممجوجة، ومنذ غزوة نارام سين ظهرَ دور الأيديولوجيا والأيديولوجيا الدِّينيَّة المضادَّة أو المنافية في الخلاص منها، ويبدو لي أنَّ تلال القرى والممالك الزِّراعيَّة الأولى في كوبكلي تبَّه (Gopikli tepe) وسائر بلاد ما بين النَّهرين وعلى أطرافها قد نهضت، وتوسَّعت بسبب اشتراكيَّة بدائيَّة مقبولة، تعاون فيها البشر على إنتاج غذائهم وتسخير الفائض منه؛ لتسليح عساكر الدَّولة للدِّفاع عنها وإقامة المرافق العامَّة فيها؛ حتَّى ظهرت طبقة (علماء السَّلاطين أو رجال الدِّين الكهنة في قصور السَّلاطين)، حيث تشير الوثائق البابليَّة إلى سرقة الكهنة المحيطين بسرجون الأكديِّ من البصل والقمح في حقول معابد مردوخ ذاته، واستلابهم بعض الحمير والثِّيران المخصَّصة لخدمة المعبد؛ لكنَّ هذا الاستغلال للكهنوت لم يدُم طويلاً، فقد أشعل حفيد الأموريِّين إبراهيم -عليه السَّلام- ثورة أو بلبلة دينيَّة ضدَّ وَرَثة نارام سين وورثة كهنته، ودعا إلى التَّوحيد، ونجَّاه الله من نار النَّمرود، وهكذا ازدهرت ديانة التَّوحيد الحنفيَّة الإبراهيميَّة ردّاً على وثنيَّة العراق واستغلال كهنتِها سلطتهم الدِّينيَّة وقُربهم من السَّاسة والسَّلاطين، وكذلك ظهرت اليهوديَّة ردًّا على استعباد الفراعنة شعوبهم، ثمَّ ظهرت المسيحيَّة عندما وظَّف كهنة اليهود من علماء السَّلاطين نفوذهم لاستغلال الشُّعوب، وحين أراد أبرهة الحبشيُّ الأشرم تحويل المسيحيَّة من دين تَسامحٍ إلى أيديولوجيا دينيَّة؛ ليستغلَّ دُعاتها البشر، ويستعبدوهم، وبعدما بنى كنيسة القُلَّيس في اليمن، وراح يحارب لإكراه النَّاس وإجبارهم على تقبُّل هذه الأيديولوجيا الدِّينيَّة الجديدة سقط مع جنوده، وظهرت دعوة الإسلام، الَّتي تؤمن بالمحبَّة السَّلام، ويبدو لي في نهاية المطاف أنَّ الأديان السَّماويَّة: (اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام) كانت أفضل دعوات إلى المحبَّة والتَّسامح، ومثَّلت أفضل ثورات على العبوديَّة والاستعباد في ممالك الشَّرق الوثنيَّة القديمة، ومن وجهة نظري ستبقى سيرورة الأمر على هذا المنوال، وكلَّما ظهرت طائفة تريد استغلال النَّاس واستعباد البشر باسم الدِّين أو الأيديولوجيا الدِّينيَّة سينهض في وجهها مَن يُحاربها، ويسهم في تقويض أركانها؛ لدفعها نحو نهايتها المحتومة، وإن عُرِّفَتِ العبوديَّة الحقيقيَّة في الممالك العراقيَّة والفرعونيَّة القديمة: بأنْ يعمل الإنسان يومَه أو شهرَه مقابل مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه فإنَّه بإمكاننا أن نختم هذا المقال بالإشارة إلى وثنيَّة الثَّورة الرَّقميَّة المتوحِّشة في وقتنا الرَّاهن واستعبادها شعوب ما بعد الحداثة، فكثير منَّا يعمل، وكلٌّ في موقعه، وعندما يصل إلى نهاية شهرِه يجد نفسه قد أنفق أجرَه وأملاكه كلَّها على أُجرة المنزل وطعام أسرته ومأكلها ومشربها، وإن توافق هذا الإنفاق مع تعريف العبوديَّة في ممالك الحضارة القديمة فإنَّنا في زمن الثَّورة الرَّقميَّة المتوحِّشة أو العبوديَّة المقنَّعة قد نضطرُّ إلى الاستدانة في نهاية الشَّهر للإنفاق على المأكل والمشرب والملبس في انتظار راتب أو معاش شهر جديد، وإن وقفنا عند العبوديَّة والطَّائفيَّة والمذهبيَّة والعنف الحضاريِّ والدِّينيِّ بوصفها بعض مفرزات حروب الممالك الوثنيَّة القديمة فإنَّ هذه الظواهر ذاتها قد صارت أكثر ضراوة وفتكاً بالمجتمعات في ظلِّ وثنيَّة الثَّورة الرَّقميَّة المعاصرة، وقد نُفرد مقالات كثيرة لمناقشة بعض هذه القضايا المشار إليها في هذا المقال.