يومَ تحرّرَ شهداء سوريا *
احتكر نظام الأسد مفهوم الشهادة وعلى من يجب أن يطلق وصف الشهداء
محمد منصور – العربي القديم
منذ شهداء الثورة السورية الكبرى ضدّ الانتداب الفرنسي، لم تأخذ مفردة “الشهيد” في سوريا معنىً حقيقياً مؤثراً في وجدان السوريين، كما اتخذته مع ثورتها الأكبر، لاستعادة سوريا من بين أنياب عصابة طائفية همجية المنبت والسلوك، دُعمت دولياً لعقود على حساب دماء وأرواح وحرية السوريين.
فلم يعترف نظام الأسد، أو يسمح لأحد بالاعتراف بالشهداء، سوى شهداء حرب تشرين 1973، التي هدفت لإعطاء نصر رمزي لحافظ الأسد، لتمكين حكمه بعد أزمة دستور 1973 التي واجه النظام مظاهراتها بالرصاص القاتل. ومع أن النظام ارتكب عشرات المجازر، التي سقط فيها آلاف الشهداء في سجن تدمر، وجسر الشغور، والمشارقة، وسرمدا وسواها، وصولاً إلى مجزرة حماة الكبرى عام 1982، إلا أنه حتى أهاليهم لم يستطيعوا أن يطلقوا عليهم لقب الشهداء علناً. وأذكر أنّ الصديق الراحل حكم البابا، أخبرني أن أحدهم كتب فيه تقريراً، يزعم فيه أن حكم يستخدم وصف “شهداء حماة”، لدى الحديث عن أحداث 1982 فيها! نعم، تقرير أمني قد يُنهي حياتك، لمجرد أنّك استخدمت وصف الشهداء على أبناء مدينتك، الذين قُتلوا بالآلاف، واستُبيحت دماؤهم وأعراضهم، ودُفنوا في مقابر جماعية أمام عينيك.
احتكر نظام الجريمة والإذلال، وتزوير الوقائع والتاريخ مفهوم الشهادة… ولولا أنّ هذه الشهادة تتطلّب من المرء الموت، لوصفوا حافظ الأسد، وهو على قيد الحياة بالشهيد الأول، بعد أن غدا العامل الأول، والفلاح الأول، والمعلم الأول، والرياضي الأول… ولكنهم استطاعوا أن ينتحلوا صفة الشهادة هذه لنجله الأكبر باسل، الذي قُتل في حادث سير على طريق المطار عام 1994، فأطلقوا عليه لقب الشهيد، وإن لم يذكروا لنا، ما القضية التي استُشهد من أجلها!
أمّا مدارس أبناء وبنات الشهداء، التي جعلها حافظ الأسد إحدى مآثره، فقد استُبيحت فيها طفولة الكثيرات من أبناء شهداء النظام، أي الذين اعترف أنهم شهداء… ولم تفلت الجميلات منهن من نزوات الضباط، حيث تختلط القداسة المُصطنعة بالعُهر غير المُصطنع.
في 8 كانون الأول 2024، لم تتحرّر سوريا أرضاً وشعباً وحسب، بل تحرّر شهداؤها، تحرّروا من قيودهم، ومما طُبّق عليهم من تصنيفات، لا تمت للحقيقة بصلة. كشفوا عن وجوههم وأسمائهم ونسبهم العائلي… واستعادوا سجل الشرف في التاريخ السوري، الذي طالما وضع فيه أسماء قتلة طائفيين، ووحوش ماتوا في سبيل تثبيت دعائم حكم ظالم، وانتزعوا صفة الشهادة من ضحاياهم.
في 8 كانون الأول 2024، استعاد الشعب السوري شهداءه، خلال كل تاريخ كفاحه الطويل، في ظل الحكم البعثي والأسدي الفاشي، منذ سقط أول شهيد مدني في احتجاجات حماة 1964، وحتى آخر شهيد سقط بقصف الغزو الروسي، أو نيران جيش الأسد الإرهابي الذي فرّ قائد قوّاته المسلحة، وتركه يرى مصيره في مرآة الجرائم التي تلطخت به يداه.
صار الشهداء شهداء، والقتلة قتلة، والمجرمون مجرمين، وسقط دجل توزيع الأوسمة، على مَن يجب أن يُقادوا إلى حبل المشانق بدل أن يكرّموا.
إنّ هذا العدد الاحتفالي الذي تصدره (العربي القديم)، وسوريا تحتفل بالنصر والحرية، محاولةٌ بسيطةٌ ومتواضعةٌ لتسليط الضّوء على باقة من شهداء ثورة القرن، الثورة التي لم يرَ العالَم إجراماً وخذلاناً بحقّها، أكبر ممّا رآه ممّن ناصبوها العداء من المتضررين من اندلاعها، ولم يرَ ثباتاً على الحقّ، وصبراً على الأذى والافتراء والتشفّي والقتل والتهجير في سبيلها أكثر مما رآه من أبنائها. إنّها باقةٌ صغيرةٌ من بستان واسع، ترابُه من ثرى سوريا بكلّ مناطقها وأطيافها، ووروده من خيرة شبابها وأطفالها ونسائها وعجائزها. فمن الصعب، بل من المستحيل أن تُحصي قصص وأسماء شهداء، بحجم شهداء الثورة السورية ضدّ حكم الأسد، بعد ما رأى العالَم، كم من المقابر الجماعية، ومن الجثث المجهولة، ومن الجثامين المحروقة المتفحّمة، كان يُخفي نظام الغدر والجريمة تحت تراب سوريا الطاهر! كلّ الشكر لمَن ساهم في تحرير هذا العدد كتابةً ورسماً وتوثيقاً ووجعاً… وعزاء كلّ سوري اليوم، أنّ دماء هؤلاء الشهداء لم تذهب سدىً، وإنْ كان الثمن باهظاً… باهظاً أكثر ممّا يتخيله أيّ عقل، رأى معركة تحرر الشعب السوري، طيلة 14 عاماً من ثورته المنصورة.
_________________________________________
* افتتاحية رئيس التحرير في العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بتلفزيون بشهداء ثورة القرن، كانون الأول- ديسمبر 2024