هل المعرفة الاستعراضيَّة حالة مرضيَّة؟
فاقمت الثَّورة السُّوريَّة حالة الحنين إلى التَّقدير لدى كثير من السُّوريِّين، وحوَّلتها إلى ما يشبه المشكلة

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم
اقترح أستاذي المشرف على أطروحتي في الدُّكتوراه مجموعة من أشهر الأساتذة الاختصاصيِّين في مجال الرِّسالة وموضوعها، وقال لي: وجود أيِّ أستاذ من هذه القائمة في لجنة المناقشة هو قيمة مضافة لها؛ وجدير بك أن تدافع عن أطروحتك أمام أيِّ واحد منهم، ويمكنك الحديث معهم عن وجود وقت الفراغ لديهم لقراءة الأطروحة ونقدها ضمن الوقت المحدَّد؛ ومن الأفضل ألَّا نقترح بين أعضاء لجنة المناقشة مَن كان مشغولًا منهم أو مَن لا يملك الوقت الكافي لقراءة الأطروحة ونقدها وتسجيل ملاحظاته الدَّقيقة عليها لمناقشتك فيها خلال جلسة الدِّفاع عنها بخلاف ما نراه اليوم من انشغال بعض المتأستذين بجولة مناقشات تشبه جولات الحفلات الَّتي يؤدِّها بعض المغنِّين خلال رحلاتهم السِّياحيَّة، ومن حُسن حظِّي أبدى معظم أساتذتي الَّذين تواصلتُ معهم استعداده لقراءة الأطروحة ونقدها لو وضعت إدارة الجاممعة اسمه في لجنة المناقشة.
أمَّا المفارقة الَّتي دفعتني لكتابة هذا المقال والاستهلال بهذه الفكرة فقد تمثَّلت في اعتذار أحد أساتذتي عن المشاركة في اللِّجنة اعتذارًا لطيفًا، وهو بمرتبة أستاذ دكتور في اختصاصه الدَّقيق، وقد حصل على شهادته من واحدة من أرقى جامعات العالم، وعلَّل اعتذاره اللَّطيف بقوله: صحيح أنَّ اختصاصي الدَّقيق يمكِّنني من المشاركة في لجنة مناقشة أطروحتك، ويتعالق مع عنوان رسالتك ومع غيرها في كثير من الجوانب؛ ولكنَّ عنوان أطروحتك وفصولها وأبوابها برغم جدَّتها وابتكارها لا تقع ضمن دائرة اهتماماتي البحثيَّة في هذا المرحلة العمريَّة، ثمَّ شرح لي عن تطوُّر ميول الإنسان وتحوُّل اتِّجاهاته وتحديد مجالات قراءته واهتمامه من مرحلة عُمريَّة إلى أخرى، وكلَّما حدَّد الإنسان أهدافه واهتماماته بدقَّة سيكون نجاحه أفضل، وقد وافقته في هذه الفكرة، وفي ختام جلستي أمل لي النَّجاح والتَّوفيق، وقال لي: جميع الأسماء في القائمة المقترحة لمناقشة أطروحتك هم من الأساتذة الأجلَّاء الكبار، وهذا شيء جيِّد. ولا أريد الحديث عن الحالة المزرية الَّتي وصل إليها بعض الأساتذة الَّذين يعرضون أنفسهم على كلِّ لجنة، ويحاولون زجَّ أنفسهم في مناقشات بعيدة عن اختصاصهم، وترى الواحد منهم حاضرًا في أسبوعين أو ثلاثة ضمن لجنتين أو ثلاث من لجان المناقشة برغم بُعد اختصاصه عن اختصاص الرَّسائل الَّتي يناقشونها، وتراهم يفرحون على وجودهم في اللَّجنة أكثر من فرحة الطَّالب ذاته.
المعرفة الاستعراضيَّة
شكَّل حديث أستاذي خلال اعتذاره اللَّطيف عن المشاركة في لجنة المناقشة ما يشبه الاستشراف أو النُّبوءة بظهور أزمة المعرفة الاستعراضيَّة بوصفها مرضًا أو ما يشبه المرض، الَّذي نعاني منه في وقتنا الرَّاهن بعد عقد ونصف من انطلاق الثَّورة السُّوريَّة المباركة أو بعد سنة من انتصارها، وقد زادت مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ من وطأة هذه الأزمة وقساوتها علينا؛ ممَّا يدفع إلى البحث في هذه الظَّاهرة، وإن كان الصُّعود المتكرِّر للتَّيَّارات الدِّينيَّة والمعتقدات الغيبيَّة أو اللَّاعلميَّة قد دفع غاستون باشلار إلى البحث في (إبستمولوجيا نظريَّة المعرفة) فإنَّ ظاهرة المعرفة الاستعراضيَّة تستدعي البحث فيها بوصفها مرضًا يُضخِّم بعض المعارف البسيطة أو المسلَّمات والبديهات؛ ليستثمر أصحابها فيها بعد تضخيمها من أجل الظُّهور أو الوصول إلى إشباع أعقد الحاجات البشريَّة أو أرقاها على هرم ماسلو؛ ألا وهي: الحاجة إلى الاحترام والتَّقدير وتحقيق الذَّات بعد إشباع الحاجات الفيزيولوجيَّة كالطَّعام والشَّراب والأمن والأشياء الضَّروريَّة لاستمرار حياة الفرد. ولا شكَّ أنَّ الحاجة إلى التَّقدير وتحقيق الذَّات واحدة من أعقد الحاجات وأصعبها على الإطلاق، وتختلف درجات هذه الحاجة وطُرق إشباعها من شخص إلى آخر، ويرتبط إشباعها بطموح صاحبها وذكائه وتربيته وثقافته وطمعه وحسده أيضًا كما ترتبط بسعيه في حياته واستقامته فيها خلال عمله لتحقيق مطامحه، وقد صوَّر المتنبِّي المشهور بطموحه إلى حدِّ القول بنرجسيَّته وتضخُّم أناه مثل هذه الحال بقوله:
وإذا كانت النُّفوس كبارا تعبت في مراجها الأجسام
وأكَّد أحمد شوقي ما يشبه هذا المعنى حين قال:
وما نيل المطالب بالتَّمنِّي ولكن تؤخذ الدُّنيا غلابا
لكنَّ تأكيد أحمد شوقي على معنى المتنبِّي فتح مجالًا جديدًا من مجالات التَّنافس خلال البحث عن التَّقدير وتحقيق الذَّات؛ ولهذا يختلف تحقيق الذَّات وتقديرها من شخص إلى آخر، وإن استعرضنا حال الشَّخصيَّة السُّوريَّة الباحثة عن تحقيق الذَّات وتقديرها بعد عقد ونصف من الثَّورة السُّوريَّة المباركة سنجد جملة من الأسباب والمظاهر الَّتي تساعدنا على فهم أزمة المعرفة الاستعراضيَّة وأسباب تفاقمها؛ وسيدفعنا إلى السُّؤال عن هذه الأزمة إن كانت مرضًا أو ما يشبه المرض في الحالة السُّوريَّة؟
المتصوِّفة والبشر الأسوياء خارج دائرة المعرفة الاستعراضيَّة
اتَّفقنا على أنَّ البشر يسعون في مجتمعاهم إلى تحقيق الذَّات وتقديرها، لكن تختلف درجات هذا التَّقدير وطرائق تحقيقه من شخص إلى آخر؛ فبعضهم تكفيه كلمة شُكر، وبعضهم يقنع بدعوة له في ظهر الغيب، وبعضهم يصنع الخير، ولا ينتظر من الآخرين جزاء هذا الصَّنيع الجميل وتقديره؛ لأنَّه يعرف أنَّ ثمرة هذا العمل الجميل ستعود له-لا لأحد سواه-ولو بعد حين؛ لذلك يصنع المعروف، ولا ينتظر أيَّ شكرٍ ممَّن أحسن لهم؛ مقتديًا بأبي الفتح البستيِّ حين قال:
ازرع جميلاً ولو في غير موضعه فلا يضيع جميلٌ أينما زُرعا
إنَّ الجميل وإن طال الزَّمان به فليس يحصده إلَّا الَّذي زرعا
وبرغم نزعة البستيِّ هذه نحو عدم التَّركيز شُكر الجميل وتقديره مباشرة نجد النَّفس البشريَّة تتوق إلى تحقيق ذاتها من خلال نظرة المجتمع إليها نظرةَ احترام وتقدير بعد كلِّ صنيع، ويجد كثير من الأسوياء أنَّ كلمة شكر واحدة تكفي، ولا ينتظر كثير من الزُّهَّاد والمتصوِّفة الحقيقيِّين أيَّ شكر ممَّن أحسنوا إليهم؛ وهاتان الطَّبقتان: طبقة الزُّهَّاد الَّتي لا تنتظر جزاء الإحسان وطبقة الأسوياء الَّتي تكفيها كلمات الشُّكر البسيطة تشكِّلان تمايزًا واضحًا من أصحاب المعرفة الاستعراضيَّة، الَّذين يفضِّلون المبالغة في العيش تحت الأضواء والحصول على المزيد من الألقاب والتَّصفيق والمناصب الرَّسميَّة والمكافآت المادِّيَّة؛ فما أسباب تفاقم هذه الظَّاهرة وتحوُّلها إلى مرض أو ما يشبه المرض في الحالة السُّوريَّة؟
أسباب المعرفة الاستعراضيَّة وطبقاتها في الحالة السُّوريَّة
يحتاج البشر الأسوياء في الأحوال الطَّبيعيَّة إلى كلمات الشُّكر والتَّقدير على إنجازاتهم المفيدة لأسرهم والمجتمع، ويرغب بعضهم بسماع هذه الكلمات حتَّى وإن كانوا من المُقلِّين إنجازًا أو المحدودين موهبة أو إبداعًا. ولو عرض عليك شخص ما محاولة من محاولاته البسيطة لكتابة الشِّعر أو الخاطرة أو القصَّة أو الرِّواية أو النَّقد أو عرض عليك لوحة من رسمه؛ فإنَّه لا يعرضها في غالب الأحيان إلَّا لسماع بعض التَّشجيع أو بعض عبارات التَّقدير منك، وهذا سلوك طبيعيٍّ بشرط ألَّا يتحوَّل إلى ما يشبه المرض، الَّذي يدفع صاحبه إلى تدوين شكرك له أو شهادتك فيه على كرتونة تشبه شهادة الامتياز أو شهادة العضويَّة في مؤتمر ما؛ ثمَّ ينشرها حالة له أو يتباهى بها كإنجاز مرموق. وقد فاقمت الثَّورة السُّوريَّة حالة الحنين إلى التَّقدير لدى كثير من السُّوريِّين، وحوَّلتها إلى ما يشبه المشكلة، وقد كان كثير من الأطبَّاء والمهندسين والمعلِّمين والطَّلَّاب والمثقَّفين والكتَّاب والشُّعراء والرَّسَّامين والموسيقيِّين والصَّحفيِّين والعمَّال والفلَّاحين السُّوريِّين يرقبون الدُّول الأخرى وهي تُكرِّم أبناءها بين الآونة والأخرى، ولا يجدون من يشكرهم على صمودهم في وجه الحياة القبيح، عندما كشَّرت عن أنيابها في وجههم تحت حكم قيادة سياسيَّة ديكتاتوريَّة طاغية. ولم يكن هناك دولة (بمعنى دولة المواطنة والقانون)، الَّتي تملك المؤسَّسات، وتقدِّر أبناء شعبها-كما تفعل الدُّول كلُّها-بدءًا من حفلات التَّخرُّج لطلَّاب الرَّوضة والابتدائيَّة والإعداديَّة والثَّانويَّة، إلى تنظيم الإذاعات الصَّباحيَّة في المدارس من أجل تقدير الطُّلَّاب المتفوِّقين، وتكريم الموهوبين في أيِّ مجال كان، إلى تكريم الموظَّفين والعمَّال والفلَّاحين والحرفيِّين.
نعم، لقد غابت دولة المواطنة فصار كثير من أبناء الشَّعب السُّوريِّ مثل طفل حُرم من حنان أبويه أو حنان أحدهما في مرحلة طفولته المبكِّرة لسبب أو لآخر كقدوم أخ جديد له على سبيل المثال، أو لاستشهاد أحد والديه أو كليهما؛ فنكص إلى طفولته مرَّة أخرة؛ وصار ينافس أخاه الصَّغير على الحليب وعلى السَّرير وعلى الألعاب وعلى الوسادة؛ لأنَّه لم يأخذ قسطه الكافي من تلك الطُّفولة. ويكسر هذه القاعدة من قواعد نزوع البشر نحو الاحترام ورغبتهم بالحصول على الثَّناء والتَّقدي-كما أشرت-مجموعتان أو طبقتان اجتماعيَّتان: طبقة الزُّهَّاد والمتصوِّفة لناحية عدم اكتراثهم بأيِّ تقدير بسبب يقينهم بالحصول على هذا التَّقدير بطريقة ما، وطبقة أصحاب النُّفوس الكبيرة أو المطامح العالية ممَّن تشتعل عقولهم ذكاء ونفوسهم إباء؛ فتتعب جسومهم خلال سعيها لتحقيق مطامح أصحابها، ولا يرضى أفراد هذه الفئة بغير التَّقدير الكبير الَّذي يليق بهم، ولا يعنيهم الحصول على الألقاب والمناصب والمهام الرَّسميَّة قدر ما تعنيهم نظرة المجتمع الإيجابيَّة تجاههم، وخلال الثَّورة السُّوريَّة كنتَ ترى الأطبَّاء منهم يحملون سلاحهم في مواقع الرِّباط، وكنَّا وما زلنا نرى المهندسين منهم يقدِّمون أرواحهم، وهم يفكِّكون الألغام، وهذه الفئات من البشر الطَّموحين تنطبق عليها تمامًا أقوال المتنبِّي وأقوال شوقي وأقوال أبي الفتح البستيِّ.
في الوقت ذاته تجد أفراد هذه العائلة أو تلك الطَّبقة أو الشِّلَّة، وهم يتنافسون مع الآخرين-بعد تغيير بوصلة الولاء-من أجل الحصول على هذا اللَّقب أو ذاك، أو رئاسة هذه اللَّجنة أو تلك المديريَّة أو ذينك المديريَّات، أو الوصول إلى مركز العضويَّة في هذه اللَّجنة أو ذاك الموقع الاستشاريِّ في قصر السُّلطان أو حول وزرائه. ويمكن تسمية هذه الفئة أو ذاك التَّيَّار-بعد العودة إلى إبستمولوجيا نظريَّة المعرفة عند غاستون باشلار بتيَّار المعرفة الاستعراضيَّة المرضيَّة أو تيَّار المعرفة الاستعراضيَّة المادِّيَّة، وهو تيَّار يجمع بين أفكار كارل ماركس المادِّيَّة الَّتي تُفسِّر كلَّ سلوك في ضوء ما يجنيه لأصحابه من مكاسب وأفكار غاستون باشلار، الَّتي تتحدَّث عن عودة الاستثمار في الثَّقافة الدِّينيَّة؛ ليتبلور هذا التَّيَّار على شكل مجموعة تقدِّم لك معرفة دينيَّة استعراضيَّة أو معرفة شعريَّة مضخَّمة أو خطابيَّة استعراضيَّة ذات طابع إبداعيٍّ أو ذات طابع أدبيِّ بشرط المكافأة المادِّيَّة عليها بالمنصب الاستشاريِّ أو التَّعويض عليها بالمكاسب المادِّيَّة، وأفراد هذه الفئة لا يخلدون في ذاكرة المجتمع خلود طبقة الشُّرفاء ممَّن يكتفون بكلمات الشُّكر ثناءً على جهودهم، ولا يخلدون في الوجدان خلود الزُّهَّاد المتصوِّفين ممَّن يقتنعون بأنَّهم وحدهم سيجنون ثمار الجميل حتَّى وإن تجاهلم السَّاسة، أو إن غفل المجتمع عن تقديرهم.
في الفئة الثَّالثة من فئات الباحثين عن التَّقدير ممَّن أفرزتهم الثَّورة السُّوريَّة خلال اشتعالها وفي مرحلة ما بعد انتصارها نجد نماذج غريبة ورهيبة، بعضها ممَّن هيمن الطَّمع والحسد على نفوسهم، فقتل فيهم شعور الأسوياء، وأبعدهم عن زُهد الزُّهَّاد؛ فراحوا ينافسون كفاءات المواهب والموهوبين في كلِّ مكان؛ ينافسونهم على خطف المنصب لا على كسب احترام النَّاس وتقديرهم، فترى هؤلاء قبلهم في كلِّ مكان؛ فلو ذهبت إلى معرض للكتاب في دمشق أو إسطنبول أو بكين أو كوالا لامبور ستجدهم قبلك، ولو ذهبت لتدلي بتصريح ثقافيٍّ أو سياسيٍّ لمحطَّة أرضيَّة أو فضائيَّة أو تصوِّر برنامج بودكاست في استوديو على أطراف المعمورة ستجدهم أمامك، ولو رحلت لتساهم في لجنة ثقافيَّة أو إداريَّة أو تشريعيَّة أو اقتصاديَّة أو تعليميَّة أو شعريَّة أو خطابيَّة داخل سوريا ستجدهم حُكمًا قد سبقوك إليها، ولو رحت تقدِّم مشورة لوزير ما ستجدهم يجلسون بجواره، ولو وصلت إلى مجلس الشَّعب أو النُّوَّاب لتقدِّم اقتراحًا ستجدهم قد رسموا ملامحه قبل وصولك إليه لتقديم المشورة أو الاقتراح، وقبل أن تخطر في وجدانك فكرة المنافسة أساسًا، ولو قلت: سأذهب للعمل في التَّعليم والتَّدريس أو سأذهب لأكمل دراستي في الشِّعر والأدب أو الطِّبِّ والاقتصاد أو الشَّريعة أو أيِّ مجال آخر كذلك ستجدهم أمامك يفتون في طرائق التَّدريس ومناهج التَّعليم الأدنى والتَّعليم المتوسِّط والشِّعر العالي والشِّعر الهزيل والحركات الجهاديَّة والتَّوجيه المعنوي والتَّنظيمات الفكريَّة والأحزاب السِّياسيَّة، ولو رحت تشتكي من أجل قضيَّة أو ضدَّ جريمة لعلَّ مرتكبها ينال جزاءه في مرحلة العدالة الانتقاليَّة القادمة ستراهم قد سبقوك إلى عضويَّة لجنة العدالة الانتقاليَّة أيضًا؛ لذلك تفضِّل العودة إلى قراءتك المتأنِّية وكتابتك حول بعض الآفات والعلل الَّتي تفتك بالمجتمع السُّوريِّ خلال الثَّورة وفي مرحلة ما بعد انتصارها.
أمَّا الطِّبقة الأخيرة فنجد فيها مثقَّفين موهوبين من أهل الاختصاص؛ فضَّلوا العمل من بعيد بعدما شاهدوا بعيونهم ذاك التَّهافت النَّهِم، وتجد فيها حُسَّادًا يحبُّون الحصول على الاحترام والتَّقدير؛ ليظهروا بين نخبة المجتمع بأيِّ طريقة كانت؛ حتَّى وإن لم يكونوا من النُّخبة؛ ستراهم يسرعون إلى شراء شهادة ماجستير من هنا، أو شهادة دكتوراه من هناك، ليقدِّموا أنفسهم إلى ذاك المفكِّر أو الإعلاميِّ الرَّاغب بتجنيد بعض الشَّخصيَّات السُّوريَّة لخدمة أجنداته وأجندات مموِّليه؛ ولا يأبهون بتقديم أنفسهم كشخصيَّات قابلة للانصياع وتنفيذ المهام والإفتاء في كلِّ فنٍّ والحديث في كلِّ علم. وتجد في هذه الطَّبقة شخصيَّات عرفت الاستخبارات العالميَّة، وقدَّمت أُنفسها لها؛ لتختصر لنفسها طريق الوصول والارتقاء، ظنًّا منها أنَّها تحصل على تقدير المجتمع، وتؤثِّر فيه؛ فراحت هذه الشَّخصيَّات تتعاون مع المخبرين من أمثالها، وتتقاسم معهم ومع مشغِّليهم المكاسب؛ فتعطي الاستخبارات المعلومة الَّتي تبحث عنها، وتعطيها الاستخبارات مكانة علميَّة وهميَّة أو حضورًا أكاديميًّا زائفًا، وتجد في هذه الطَّبقة أشخاصًا متفاوتين في الإبداع شعرًا ونثرًا وتأليفًا وتنظيرًا، يسعى بعضهم للظُّهور في مهرجان، ويكتفي بعضهم ببطاقة شكر، وتجد بعضهم يمسح الجوخ لهذا أو لذاك لعلَّه يحصل على دعوة أو لعلَّه يحصل على بطاقة شكر؛ صحيح أنَّه ليس بكاتب أو ليس بشاعر؛ لكنَّه مؤثِّر أو ما يشبه المؤثِّر؛ أي هو مطبِّل، ويملك صفات مسِّيح الجوخ واستعدادات التَّطبيل الفطريَّة، ويمكنه نشر أشعار المدير ومقابلات المستشار وصور الوزير وإطلاق لقب الدُّكتور على هذا ولقب الكبير على ذاك، وترى بعضهم ممَّن لم يكترث به أحد من المسؤولين؛ فراح يصمِّم بنفسه أو من خلال بعض أصدقائه شهادات في الدُّكتوراه الفخريَّة أو عضويَّة أعضاوات رجالات المجرَّة أو المؤثِّرين الكونيِّين، ومردُّ هذا كلُّه إلى أنَّ بني الإنسان-وأنا واحد منهم-يحبُّون الاحترام والتَّقدير، حتَّى وإن اختلفوا في طريقة إشباع هذه النَّزعة، أو إن قُسِّموا إلى طبقات متمايزة خلال سعيهم لإشباع هذه الحاجة أو ذاك الميول!