هل يُعيد التَّاريخُ نفسَه: في جذور سُلوك البشر وأحداث التَّاريخ المتشابهة
بقلم: مهنَّا بلال الرَّشيد
أَيُعيدُ التَّاريخ نفسَهُ أم أنَّ الأحداثَ المتشابهة ما هي إلَّا تماثلاتٌ وتناظرات على خطِّ الزَّمن؟ وسوف يتكرَّرُ ظهورُها حُكمًا في مواسمها على مدار الأيَّام والأسابيع والشُّهور والفصول؛ بسبب دوران الأرض حول نفسها ودورانها حول الشَّمس بالطَّريقة نفسها وعلى المدار ذاته، وكذلك يتكرَّر السُّلوك المتشابه لدى القادة المؤثِّرين ممَّن يصنعُون أحداث التَّاريخ على سطح الأرض؛ إنَّهم بشر مخلوقون من الطِّين ذاته، ومرَّت عليهم ظروف وسياقات زمانيَّة ومكانيَّة متشابهة، أكسبتهم خبرات ومعارف متقاربة، وجعلت طباعهم النَّفسيَّة والسِّيكولوجيَّة متشابهة أيضًا؛ لذلك نلحظ في كثير من الأحيان شبهًا واضحًا بين سلوكين أو حدثين تاريخيَّين محدَّدين لدى شخصين مختلفين وفي موقفين أو تاريخين متباعدين في الزَّمان والمكان؛ فما حقيقة هذه التَّشابهات إن لم يُعِدِ التَّاريخُ نفسَه؟
الحقُّ إنَّ الإنسان ابن التُّراب والماء؛ ابن الطِّين المشويِّ بالشَّمس والنَّار ذاتها؛ وأصل تركيبة الإنسان الكيميائيَّة أو الحيويَّة الأولى هي أتربة جُزرِ الأرض الأولى، وقد مرَّت عليها ظروف تاريخيَّة ومناخيَّة متشابهة، بعدما تعرَّضت مياه البحار للحرارة والتَّبخُّر؛ فظهر طين الجُزر، الَّذي تعرَّض للشَّمس والهواء، وعندما غلب الماءُ التُّرابَ في تركيب بعض البشر؛ صارت أبراجُهم وطباعهم ترابيَّة، وصارت طباع بعض البشر الآخرين مائيَّة، وكانت أبراج القسم الثَّالث منهم هوائيَّة، وعندما أثَّر نورُ الشَّمس أو لهبُها في طين بعض البشر صارت أبراجهم وطباعهم ناريَّة؛ وهكذا تبدو لي منطقيَّةُ تقسيم أبراج البشر إلى أبراج (تُرابيَّة، ومائيَّة، وهوائيَّة، وناريَّة) استنادًا إلى أصل وجودهم وتركيبتهم الأولى من الأسطقسات الأربعة: (التُّراب، والماء، والهواء، والنَّار)؛ ولا أستغرب عندما أقرأ عن سلوكين متشابهين عند الإسكندر المقدونيِّ الأكبر ونابليون بونابرت، الَّذي جاء بعده بألفي سنة تقريبًا، أو عند إبراهيم عليه السَّلام والرَّسول محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم بعده بزمن طويل؛ فما الأسطقسات الأربعة؟ وهل نحن نعي، ونعني ما نقوله حين نردُّ بعض الجذور السِّيكولوجيَّة والحيويَّة إليها؟
الأسطقسات الأربعة واختلاف طباع البشر
نعم، بالتَّأكيد نحن نعي، ونعني ما نقوله أيضًا؛ فقد خضعت تركيبة البشر الأوائل لشروطها التَّاريخيَّة وظروفها المناخيَّة الأولى عند ظهور طين الجزيرة، مَثَلُها في ذلك مَثَل تركيب مكوِّنات أيِّ طعام؛ فالمقادير نفسها وطريقة التَّحضير نفسها؛ ستعطي دائمًا النَّتيجة ذاتها، وتحليل أيِّ مادَّة غذائيَّة سيعطي موادَّ متعدِّدة إذا غيَّرنا بعض شروط الزَّمان والمكان أو قوانين سياق التَّحضير؛ فالقشطة أوَّل ما يظهر من غَلْيِ الحليب مثلًا؛ وهي أعلى شكلٍ من أشكال الدَّسم فيه، ثمَّ يظهر لَبَن الزَّبادي، ولبن العيران، واللَّبن المجفَّف للشِّتاء، والحليب المجفَّف، ثمَّ نستخرج أنواعًا من الجُبن وزُبدة الطَّعام، ومن طين الجُزر خلق الله البشرَ؛ وهم الشَّكل الأعلى من مخلوقات الطِّين؛ ثمَّ خلق القرود والحيوانات والنَّباتات كلِّها؛ فأصل المخلوقات كلِّها يرجع إلى تركيب مادَّة واحدة؛ إلى الطِّين ذاته، والاختلاف بينها يرجع إلى اختلاف نِسْبِ التَّركيب الطِّين وطريقة تشكُّله وسياق الظُّهور الأوَّل، وما الإنسان بشحمِهِ ولحمِهِ ودمه إلَّا تركيبة من مواد عضويَّة (فيتامينات ومعادن)، يعرف الأطبَّاء نِسَبَها جيِّدًا؛ فيحلِّلون دم الإنسان، ويميِّزون الحالات الصِّحِّيَّة من الحالات المرضيَّة، ويميِّزون تركيبة الذُّكور من تركيبة الإناث، وتركيبة الأطفال من تركيبة البالغين أو الكُهول أيضًا، ويرجع هذا كلُّه إلى تأثير سياق الزَّمن أو العمر الَّذي مرَّ به هذا الجسد الحيويُّ أو التَّركيبة العضويَّة.
يبدو لي أنَّ الفرق في السِّياق الزَّمنيِّ بين ظهور بعضِ القِرَدَةِ وظهور البشر من طين الجزيرة الأولى كان فرقًا يسيرًا؛ لذلك يكثر المؤمنون بنظريَّة تطوُّر الإنسان عن بعض الأنواع من القردة؛ وقد كان تطوُّر الإنسان-من وجهة نظرنا-نتيجة تزاوُجِ أنواع متعدِّدة من البشر مثل: (الهومو إيريكتوس والهومو نياندرتال)؛ فظهر جيلُنا الجديد؛ جيل الإنسان العاقل (الهومو سابينيز) قبل حوالي (35) ألف سنة، وقضى هذا الإنسان العاقل على أسلافه بعد ظهوره بقليل، ثمَّ راح يتصارع مع أبناء جلدتِه من أجل الطَّعام والشَّراب، وكذلك ظهرت الخيول والحمير-على سبيل المثال-في سياقين متقاربين جدًّا؛ لذلك يمكن لأيِّ حصان أن يتزاوج مع أيِّ أَتَانٍ، ويمكن لأيِّ حمار أن يتزاوج مع أيِّ فرس؛ لكنَّ الزَّوجين سيُنجبان بِرْذَونًا أو بَغْلًا هجينًا وعَقيمًا غير قادر على الإنجاب؛ ومن هنا نستنتج أنَّنا-نحن البشر مع باقي المخلوقات الأخرى-تركيبة مواد عضويَّة؛ نتشابه بقدرِ تشابه قوانين تشكُّلنا وسياقاتنا الزَّمانيَّة والمكانيَّة الأولى، ونختلف على قدر اختلاف تركيباتنا وسياقاتنا أيضًا؛ ولكن كيف دخل النُّور والنَّار إلى طينة أجسادنا؟ وكيف أثَّر فيها؟ وهل كان التَّأثير في أشكال أجسادنا أو تعدَّى ذلك إلى التَّأثير في أرواحنا أو سلوكنا وطِباعنا وطرائق تفكيرنا أيضًا؟
خَلْقُ البشر بين النُّور والنَّار
تأثَّرَ الطِّين أو مادَّة أصل المخلوقات كلِّها بنور الشَّمس في الجزيرة الأولى؛ وعندما غلب التُّراب لَهبَ الشَّمس أو غلب التُّرابُ لَهَبَ النَّار كانت طبيعة المخلوق تُرابيَّة مثل آدم، وعندما غلبَ لهبُ الشَّمس تُرابَ الطِّين كانت طبيعة المخلوق ناريَّةً مثل إبليس؛ ولهذا تعود جذور الغضب والتَّكبُّر والعُنفِ إلى طبيعة ناريَّة مع وساوس شيطانيَّة في البشر؛ ولهذا امتنع إبليس عن السُّجود لآدم عند خلق البشر الأوَّل؛ وقد قال سبحانه وتعالى: (قال يا إبليس ما منَعكَ أن تسجد لما خلقتُ بيديَّ أم كنتَ من العالين. قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقتَه من طين. قال فاخرج منها فإنَّك رجيم. وإنَّ عليك لعنتي إلى يوم الدِّين. قال ربِّ فأنظِرني إلى يومِ يُبعثون. قال فإنَّك من المُنظَرين. إلى اليوم المعلوم). [ص: 75-81]؛ ونتيجة لغَلبة عُنصر على غيره من عناصر الأسطقسات الأربعة تختلف طباع البشر وسلوكهم من حيث العنفِ وشدَّة الانفعال وبرودة الأعصاب؛ ولأنَّ التَّكبُّر والغضب يرجعان إلى أصلٍ ناريٍّ ينصح الأطبَّاء وعلماء النَّفس والسُّلوك بعلاج بعضِ حالات الغضب من خلال خروج الغضبان إلى الهواء الطَّلق أو الاغتسال بالماء البارد أو تناول بعض العقاقير المهدِّئة، الَّتي تضبط مفرزات الغُدد الصَّمَّاء ومستحاثَّاتها المسؤولة عن الغضب، ولكن لدينا سؤال مهمٌّ يقول: هل ما يزال تأثير الشَّمس والنَّار مستمرًّا في أجسادنا منذ خلقنا الأوَّل حتَّى يومنا هذا؟
هل ما يزال تأثير ضوء الشَّمس في طعامنا وغذائنا وأجسادنا مستمرًّا حتَّى وقتنا هذا؟
نعم، ما يزال تأثير الشَّمس والنَّار مستمرًّا فينا؛ وذلك نتيجة لإسهام لَهَبِ الشَّمس أو نارها في تشكيل خلقنا الأوَّل من الطِّين من ناحية أولى؛ ولأنَّ نورها ما زال مسؤولًا عن صناعة غذائنا وتركيب أجسادنا، وما يزال دوران الأرض حول الشَّمس يضبط تاريخنا وأعمارنا وزمننا كلِّه أيضًا؛ ونور الشَّمس مسؤول عن التَّمثيل الغذائيِّ وصناعة اليخضور (الكلوروفيل) في أوراق النَّباتات، ولا حياة لهذه النَّباتات دون ضوء الشَّمس، ونحن وحيواناتنا الَّتي نربِّيها أو نتناول لحومها نتغذَّى كلُّنا على نباتات لم يكن لها أن تنمو لولا ضوء الشَّمس؛ ليس هذا فحسب، وإنَّما ضوء الشَّمس ذاته مسؤول مباشرة عن مناعة أجسادنا وقوَّتِها؛ مسؤول عن صناعة الفيتامين (د) من خلال تعرَّضنا لضوء الشَّمس، مسؤول عن تركيب مادَّة الميلانين الَّتي تُعطي جلودنًا لونها ونضارتها، وتصبغ شعرَنا بألوان متعدِّدة؛ كالأسود والأحمر والأشقر، وبه نقاوم تسلُّل الهرَمَ إلى أجسادنا، والشَّيب الأبيض إلى شعرِنا، والشَّمس كذلك ساعة التَّاريخ أو ساعة الكون الفلكيَّة الكبرى؛ فدوران الأرض حول نفسها مرَّة كلَّ (24) ساعة أو شروقها وغروبها ثمَّ شروقها يدلُّ على مرور يوم من أيَّام عمرنا وتاريخنا، ويضبط ساعاتنا البيولوجيَّة في أدمغتنا، الَّتي تتحكَّم بساعات نومِنا واستيقاظنا؛ ودوران القمر حول الأرض يصنع الشُّهور القمريَّة، ودوران الأرض حول الشَّمس مرَّة يدلُّ على مرور سنة أو (365) يوم وربعِ اليوم من عمرِنا، وانتظام دوران الأرض على محور دوران في مدار إهليليجيٍّ حول نفسها وحول الشَّمس قسَّم سنتنا الشَّمسيَّة إلى فصول متشابهة، وقسَّم الأرض إلى مناطق وقارَّات جغرافيَّة متعدِّدة؛ قطبيَّة ومداريَّة واستوائيَّة، وميَّز خصائص مناخها ونباتاتها وحيواناتها، وأثَّر في طبيعة غذاء البشر فيها؛ نتيجة لاختلاف تأثير الشَّمس.
وعلاوة على اختلاف تأثير أصل الطِّين فينا يتأثَّر نموُّ الإنسان وذكاؤه بطبيعة غذائه؛ ولأنَّ دوافع الجوع والغضب والانفعال والتَّكبُّر والغرور وبرودة الأعصاب تتشابه بين فئات كثيرة من قادة البشر المؤثِّرين، ويعود منشأُ التَّشابه إلى طبيعتهم الطِّينيَّة الأولى؛ ومن هنا تشابه سلوك البشر، وتشابهت رَدَّات أفعالهم تجاه المواقف والأحداث في كثير من الأحيان أيضًا، ولأنَّ دوران الأرض حول نفسها وحول الشَّمس ودوران القمر حولها منتظم ومتكرِّر فقد تشابهت أحداث التَّاريخ ومواقفه؛ ومن هنا نكتشف أنَّ التَّاريخ لا يُعيد نفسه، ولا يمكن له أن يُعيد نفسه؛ لأنَّ الحياة تجري مثل نهر هيراقليطس، ولا يمكننا أن نستحمَّ بماء النَّهر مرَّتين، وإنَّما ترجع الأحداث التَّاريخيَّة المتشابهة جدًّا إلى تشابه دوران الزَّمن وتشابه الدَّوافع البشريَّة وتشابه ردَّات الأفعال تجاهها وتشابه فصول السَّنة والأزمنة التَّي تمرُّ بنا، والأمكنة الَّتي نمرُّ عليها، ونتغذَّى من طعامها؛ ولهذا كلِّه نقول دائمًا: ما أشبه اليوم بالبارحة! وما أشبه يومنا هذا بيوم الغد؟ وإن كان تأثير نور الشَّمس واضحًا ومستمرًا فينا؛ فهل للنَّار ولهبِها بمعناه الحرفيِّ تأثير في أجسادنا؟ سنعرف ذلك في المقال القادم.
الله يبارك فيك دكتور