التكنولوجيا والسياسة: كيف يهيمن الوحش الرقمي على مستقبلنا السياسي
التحدي الرئيس هو كيفية توجيه هذه الأدوات لتخدم الديموقراطية والشفافية بدلا أن تصبح وسيلة للتلاعب بالناس
العقيد الركن خالد المطلق – العربي القديم
مارك روزنبرغ مؤسس الفيس بوك يقول: “وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد فقط وسيلة للتواصل بل أصبحت ساحة للسياسية والنفوذ والسيطرة على العقول”، فيرد عليه إدوارد سنودن أحد المدافعين عن الخصوصية: “كلما أصبحت التكنولوجيا أكثر تعقيدا ازدادت سهولة السيطرة على المجتمعات” هذه المقولات هي لأحد أهم المختصين بالتكنولوجيا فالواقع يثبت ما خلص إليه هؤلاء خاصة إذا عرفنا أن أي حركة تقوم بها وكل ضغطة زر على هاتفك وكل كلمة تكتبها على الإنترنت تتحول إلى جزء من مخطط أكبر قد يغير رأيك السياسي ويدفعك لاتخاذ قرارات لم تكن يوما تفكر بها بل ربما يؤثر على مصير الانتخابات في بلدك فنحن نعيش في عصر تتحكم به التكنولوجيا بالسياسة؛ إذ أصبحت البيانات هي السلاح الجديد، وأصبحت الخوارزميات هي العقل المدبر، لكن السؤال هل يمكننا السيطرة على هذا الوحش الرقمي أم أنه سيواصل الهيمنة على مستقبلنا السياسي؟
وللإجابة على هذا السؤال يجب أن نتعمق أكثر في تفاصيل التكنولوجيا والسياسة معا ولنبدأ من الكم الهائل من البيانات التي يقول عنها مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب: “إنها النفط الجديد في العالم وأنه من يملك البيانات يملك القوة في الكوكب”، وعلى أرض الواقع يترك كل يوما أكثر من خمسة مليارات شخصا آثارا رقمية أثناء استخدامهم للهواتف الذكية والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، هذه الآثار تتحول إلى بيانات تباع وَتُشْتَرَى وتستخدم في أغراض مختلفة مثل تحسين الإعلانات إلى التأثير على سياسات دول بأكملها، فكل ثانية تمر الآن يتم إنتاج أكثر من اثنين ونصف كنيليون بايت من البيانات حول العالم. هذه البيانات تشمل النشاطات عبر الإنترنت مشترياتنا وحتى تحركاتنا عبر الهواتف الذكية والسؤال كيف تجمع هذه البيانات؟ ولماذا تعتبر بهذه الأهمية؟
البيانات الضخمة ليست مجرد أرقام بل هي أنماط وسلوكيات المستخدمين فالشركة التقنية الكبرى مثل فيسبوك وغوغل واكس تجمع هذه البيانات عبر طرق مختلفة منها نشاطات المستخدمين على منصتها مثل التطبيقات التي تحملها على هاتفك وبيانات المواقع الجغرافية من جي بي أس هذه البيانات تمنح الشركات قوة لفهم الأفراد والجماعات وتصميم رسائل موجهة لهم، كل هذا يعتبر السلاح الجديد في الحرب على العقول حيث أصبحت القدرة على جمع وتحليل البيانات ميزة إستراتيجية في السياسة والاقتصاد وفي تقارير صدرت من جهات مختلفة مهتمة في هذا المجال ذُكر أن شركات مثل فيسبوك وغوغل تجمع بيانات المستخدمين من خلال نشاطاتهم على المنصات مثل تسجيل الإعجابات وعمليات البحث وحتى المحادثات الخاصة لدراسة سلوكهم، وفي تقارير أخرى ذكر أن التطبيقات المجانية مثل “وذر آب” تقوم بجمع بيانات الموقع وبيعها لشركات التسويق بملايين الدولارات، وتأكيدا على تأثير السوشيل ميديا لسلوك روادها والتأثير عليهم أصبح من المعروف أن فيسبوك يملك بيانات مستخدميه البالغ عددهم مليارين وتسعمئة مليون مستخدم هذه البيانات التي تضم اهتماماتهم وصداقاتهم وحتى مشترياتهم المفضلة، هذه البيانات القادرة على فهم تفكير وسلوك وتفضيلات كل مستخدم على حدى، ووفق دراسات حول مستخدمي السوشيل ميديا تظهر أن ثلاثة وستين بالمئة هي نسبة الأشخاص الذين يدركون أن بياناتهم الشخصية تباع لشركات الإعلانات وهذا يدل على نقص في الوعي العام حول كيفية استخدام البيانات الشخصية في الإعلانات الموجهة.
لم تعد السياسة تدور حول الشعارات والخطابات الجماهيرية اليوم أصبحت البيانات هي المحرك الأساسي للحملات السياسية حيث يتم تحليلها لتصميم رسائل تستهدف الناخبين بطرق دقيقة وشخصية ومثال على ذلك ما قامت به حملة ترامب حيث استخدمت هذه التقنية لتحديد الناخبين المترددين في الولايات المتأرجحة، إذ عملت تلك التقنية عبر تحليل البيانات إلى تقسيم الناخبين إلى مجموعات دقيقة ناخبون مترددون يستهدفون برسائل حاسمة لإقناعهم وناخبون معارضون يتم محاولة منعهم عن التصويت وناخبون مؤيدون تحفزهم الرسائل لتعزيزمشاركتهم وفي كل الحالات نجحت التجربة وكانت استنتاجا للعالم في المستقبل بأن البيانات ليست فقط لفهم الناخبين في الانتخابات وإنما لتغيير آرائهم عبر تصميم رسائل دقيقة ومؤثرة وهذا يدل على أن التكنولوجيا أصبحت أهم عوامل كسب الانتخابات ويمكنها توجيه الرأي العام بطرق لم نكن نتصورها من قبل، وهذا حول البيانات إلى اقتصاد ضخم ومرعب وقد يكون في المستقبل الثروة الأغلى، من جهة أخرى الأمر لا يقتصر على البيانات فقط فهناك الخوارزميات التي لم تعد الآن مجرد أدوات تِقْنِيَّة تستخدم لتحسين تَجْرِبَة المستخدم بل تحولت إلى أدوات خِفْيَة تشكل الرأي العام وتعيد تشكيل المجتمعات بطرق غير مسبوقة، هذه الخوارزميات أصبحت تستخدم للتأثير على القرارات السياسية والتحكم بالنقاشات العامة بل وحتى لتقسيم المجتمعات، فالخوارزميات التي تشكل فيسبوك وغوغل واينستغرام وغيرها ليست حيادية بل إنها مصممة لتعزيز التفاعل وزيادة الوقت الذي يقضيه المستخدمون على المنصة، فالخوارزميات تدرس حالتك النفسية وآرائك اليومية في مختلف جوانب الحياة وعليه تقوم بالتأثير على رأيك من خلال تعزيزوجهات نظرك بنسبة تفوق خمسين بالمئة أو عبر منحك بعض المواضيع والأفكار التي تعمل على تغيير رأيك وفق ما هو مخطط له لكنها بطبيعة الحال تساعد بصياغة الرأي العام للبشرية بشكل أم بآخر في عصر يتسارع فيه تطور التكنولوجيا بوتيرة غير مسبوقة.
لم تكن التكنولوجيا فقط أداة بيد السياسيين بتغيير وجهات النظر أو الفوز بالانتخابات الديموقراطية بل أصبحت أداة قوية في يد الأنظمة الاستبدادية لتعزيز قبضتها على المجتمعات والسيطرة على الأفراد، التكنولوجيا التي كانت تروج باعتبارها رمزا للحرية والانفتاح باتت تتحول في بعض الدول إلى أداة للمراقبة الشاملة تستخدم لملاحقة الأصوات المعارضة وإخماد أية محاولات للمطالبة بالحرية، وفي الشرق الأوسط أصبحت التكنولوجيا عنصراً رئيساً في إعادة تشكيل الديناميكية السياسية حيث يتزايد اعتماد الدول والأطراف الفاعلة على الأدوات الرقمية لتعزيز قوتها والتأثير على الرأي العام، وعلى مدى العقد الماضي ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إحداث تحولات غير مسبوقة في السياسة بالشرق الأوسط وخلال ثورات الربيع العربي كانت منصات مثل فيسبوك وتويتر أدوات محورية استخدمها المتظاهرون لتنظيم احتجاجاتهم وإيصال أصواتهم ونقل صورة حقيقية لما يحدث على الأرض بعيدا عن سيطرة الإعلام التقليدي، وساهم هذه المنصات أيضا في تشكيل تيارات سياسية جديدة ومع مرور الوقت تغيرت وظيفة هذه الأدوات من مساحة للحريات إلى ساحات لمعركة السيطرة على الرأي العام وهذا خلق حرب معلومات تدار بشكل مواز للمعارك على الأرض، ومن هنا يمكن أن نقول بأن التكنولوجيا غيرت الدعاية السياسية في الشرق الأوسط من خلال استخدام أدوات التحليل الرقمي والذكاء الاصطناعي وهذا ساهم في تضخيم الانقسامات الطائفية والعرقية مثل لبنان والعراق، من ناحية أخرى ظهرت التكنولوجيا كوسيلة لإعادة صياغة التحالفات السياسية حيث استخدمت تركيا التكنولوجيا الرقمية لتوسيع تأثيرها في المنطقة خلال النزاع في ليبيا وسورية.
إن استخدام التكنولوجيا في الحروب لم يعد مقتصراً على الجانب العسكري فقط، بل أصبح وسيلة لفرض النفوذ السياسي عبر وسائل جديدة فأصبحت التكنولوجيا الجديدة أداة أساسية للدول في رسم سياستها المتعلقة بالطاقة والمياه، في صراعات مثل الصراع بين مصر وإثيوبيا على سد النهضة. التكنولوجيا لم تعد مجرد أداة للرصد بل أصبحت جزء من الأدوات الدبلوماسية لتعزيز مواقف الدول، ومع تطور دور التكنولوجيا في سياسة الشرق الأوسط يبقى التحدي الرئيس هو كيفية توجيه هذه الأدوات لتخدم الديموقراطية والشفافية بدلا أن تصبح وسيلة للتلاعب بالناس، فالتكنولوجيا ليست أداة بطبيعتها خير أو شر لكنها تعتمد على الأيدي التي تديرها والأهداف التي تستخدم من أجلها فالشرق الأوسط اليوم أمام اختبار حقيقي يطرح سؤال جوهري هل التكنولوجيا ستستخدم لتعزيز الاستقرار والتعاون الإقليمي أم أنها ستظل أداة تعمق الانقسامات وتزيد من تعقيد المشهد السياسي وهذا ما سيحدد المسار السياسي في المنطقة خلال العقود القادمة.
ختاماً: التكنولوجيا ليست شريرة بطبيعتها لكنها تحمل خطراً عظيماً إذا تُركت دون ضوابط فالديموقراطية بحاجة إلى أدوات تنظيمية تعيد التوازن بين القوى حيث تكون حماية القيم الإنسانية هي الأولوية ومن هنا لابد من وضع ضوابط أخلاقية للتكنولوجيا تنظمها قوانين صارمة تطال الشركات الكبرى خاصة كالفيسبوك والتويتر وغيرها كي تحد من استخدام المعلومات الشخصية في البازارات السياسية أو غير ذلك وهذا ما سيؤثر على مستقبل البشرية، فتوثيق كل حركة لمستخدمي منصات التواصل الاجتماعية واستخدام الخوارزميات في التأثير على الحياة الشخصية للأفراد والمؤسسات والدول يمكن أن يؤدي إلى كوارث أخلاقية قد تؤدي إلى مصائب جنائية يمكن أن تحول هذه التكنولوجيا من أدوات لخدمة البشرية إلى سيف مسلط عليها وهذا لم ولن يخدم السلم الأهلي والاستقرار في العالم، يجب استخدام التكنولوجيا بما يتماشى مع القيم الإنسانية وهذا سيحدد مستقبل هذه الوسيلة الخطيرة وأيضا مستقبل المجتمعات بأسرها، والسؤال الأخير والأهم هل نستطيع التحكم بالتكنولوجيا أم تنجح التكنولوجيا بالتحكم بنا؟