فنون وآداب

حرب غزة في المكتبات الفرنسية: دلفين أورفيلور... فن التوحش لكن بكل إنسانية!

د. أحمد عسيلي- العربي القديم

منذ بدء أحداث ٧ أكتوبر في غزة، انهالت على المكتبات في فرنسا عشرات الكتب التي تتحدث عن القضية الفلسطينية، في معظمها كتب تتبنى رؤية الجانب الإسرائيلي، وخاصة تلك الكتب  التي تحتل واجهة سلاسل المكتبات الكبرى، مثل فناك و ريلي،  في مقابل بعض الكتب المتوازنة نوعا ما، أو التي تنقل الحقيقة من وجهة نظر فلسطينية، وهي كتب نجدها عادة في المكتبات الصغرى، أو تلك التي تحمل  طابعاً نضالياً، وربما يكون كتاب الياس صنبر (فلسطين كما يمكن يشرحها لكل الناس) واحداً من أهم تلك الكتب التي تتحدث بهدوء وبالتفصيل عن القضية الفلسطينية تاريخا وحاضرا…  كتاب غالبا ما نجده في المكتبات المستقلة فقط، على عكس كتاب الحاخام دلفين أورفيلور (كيف مو ماشي الحال: حوارات إثر إحداث ٧ أكتوبر) الذي يتربع على عرش كل واجهات الأكشاك والمكتبات الكبرى منذ لحظة صدوره، وتشرح فيه المؤلفة انعكاس ما حدث على حياتها، وتتحدث عن تلك  القضية كما تراها هي.

ولأهمية هذا الكتاب في أيامنا هذه، وبسبب انتشاره الواسع  بين القراء في فرنسا، سأحاول في هذه المادة  إعطاء لمحة عن الأفكار العامة التي وردت فيه، ولأن اسم الكاتبة غير معروف لقراء العربية (لم أجد لها ملف  مثلا  في ويكيبيديا عربي) دعونا نبدأ أولا بتقديم سريع للكاتبة قبل الحديث عن الكتاب

دلفين أورفيلور: دعم مالي وإعلامي!

تعتبر السيدة أورفيلور،  واحدة من أشهر الشخصيات في المشهد الثقافي الفرنسي، فهي تدير مركز أبحاث باسم تينوا (يعني الحركة في العبرية) وهو مركز يملك موقعا إلكترونيا ومجلة فصلية تحمل نفس الاسم، ويقيم العديد من الدورات والأمسيات التثقيفية، ويتلقى هذا المركز الكثير من الدعم المالي والإعلامي، من منظمات وجهات دولية عديدة (بعضها عربية)  والتي تعمل على نشر فكر (حركة اليهود الليبراليين في فرنسا) وتعمل على إحداث  بعض التجديد في الفكر اليهودي، وإعطائه أبعاداً حداثية إنسانية، وهي متزوجة من أريل ويل،  الشخصية السياسية الناشط في الحزب الاشتراكي  وعمدة مركز باريس منذ عام ٢٠٢٠

والسيدة أورفيلور، شخصية معروفة بشكل واسع إعلاميا، وتجري العديد من اللقاءات بشكل مستمر، تدافع فيها عن إسرائيل،  لكن بشكل يحمل طابع إنساني تصالحي ظاهرا، وراديكالي رافض مضمونا

“كيف مو ماشي الحال”: محاروات تخيلية!

كتاب حديث، صدر عن دار غراسي  في باريس سنة ٢٠٢٤ ، في ١٥١ صفحة من القطع المتوسط ، يتألف من عشر محاورات تخيلية، هي تأملات وأفكار راودت الكاتبة ، نتيجة  الصدمة التي عاشتها بعد هجوم ٧ أكتوبر، حاولت الكاتبة كثيرا، أن تضفي على تلك التأملات ، طابعا دينيا بل تصوفيا ، و بلمسة انسانية ذاتية شديدة جدا، مستعيدة ، بعنوان مؤثر للفصل الأول (حوار مع ألمي) ذاكرتها الشخصية والعائلية، بل حتى قبل الفصل الأول، تستهل المؤلفة عملها، بقصيدة (فكّر بغيرك) لمحمود درويش، ما يعطي الانطباع بمدى تفهم الكاتبة للقضية الفلسطينية ، ثم نذهب أبعد من ذلك، فنرحل معها مع جدها العاشق لقواعد اللغة الفرنسية ، عن جدتها وحديثها باليدشية، عن أطفالها، الخوف اليهودي، وطبعا عن الهولوكوست (مع احترامنا الشديد  لآلام اليهود في تلك المجازر)  ثم تحدثنا وبشكل حميمي عن حياتها الشخصية، عن محاولتها للتدرب على رياضة البوكس، وهي التي تكره العنف بكل أشكاله ، بل وعن احساسها حتى بالحيوانات وتبنيها لقطة، أخذتها من أحد ملاجئ الحيوانات، وعن صداقتها مع الكاتب اللبناني وجدي معوض، وعن لقاءها مع الكاتب الجزائري كامل داوود، و أشياء أخرى كثيرة، دون أي ذكر تقريبا للقضية الفلسطينية، حتى الجزء الثاني من  منتصف الكتاب تقريبا،  ثم بعدها  تبدأ الكاتبة بالحديث عن تلك القضية  من خلال فقرات محدودة جدا، وسط سيل عارم  من التأملات الإنسانية، والحديث عن السلام و المحبة والقلق واضطرابات النوم.

 وممكن تلخيص تلك الأفكار  بالنقاط التالية:

  • المسلمون يحقدون على اليهود لأنهم سابقون لهم تاريخيا، ولا يتقبل المسلمون فكرة وجود أحد ما قبلهم (هذا ما يرفض أن يتقبله الاصوليون و الحاقدون، وجود ليلة ما تسبق ولادتهم، وأن نهارا ما كان قد بدأ قبلهم ) الكتاب صفحة ١٢٢ بل تذهب أبعد من ذلك، لتقول أن علاقة المسلمين  مع اليهودية هي علاقة أوديبية، وأنهم يريدون قتل اليهود كأحد أشكال عقدة قتل الأب ( الكتاب صفحة ١١٧ ( الله يرحمك يا فرويد ، لوين أفكارك وصلت )  ومشكلة المسيحيين، هي عقدة الأخ الأوسط،  ولا أعرف صراحة أين هي عقدة الخالة والعمة والجدة، فعلا لله في خلقه شؤون
  • الرفض التام لكل أشكال وقف إطلاق النار (فمن يضمن لإسرائيل أنها ستكون محمية غدا من هجمات جديدة من قبل حماس؟ كيف نحمي فلسطين من قيادتهم الإسلامية التي تمنع تحررهم؟)  الكتاب صفحة ١٤٠، إذن يجب استمرار الحرب، لكن بكل الإنسانية المعروفة بها إسرائيل، لحماية الشعب الإسرائيلي أولا، و تحرير الفلسطينين ثانيا. إذن هنا للجيش الإسرائيلي مهمة انسانية  مزدوجة، وهي تتكلم طبعا عن نفس الجيش المطلوب وزير دفاعه، لمحكمة العدل الدولية بتهمة جرائم حرب!
  •  ثم تأتي الكاتبة على أكثر نقطة ايلاما لمؤيدي الصهيونية، وهي أن كل الحراك النسوي و الكويري يقف مع القضية الفلسطينية وبشدة، ورغم كل محاولات إسرائيل تصوير الفلسطينين كهمج يقتلون المرأة والمثليين، فإن موقف المنظمات النسوية والكويرية لم يتغير أبدا (كيف يمكن أن يصبح أمرا معقدا على الناشطات النسويات، إدانة اغتصاب وقتل وحرق النساء يوم ٧ أكتوبر ربما لأن تلك النساء أكثر ذكورة من أن يدافع عنهن،  فالناشطات النسويات يقفون مع الجانب الفلسطيني حتى بجرائمهم الجنسية) الكتاب صفحة ٩٥ ، وتعبر الكاتبة عن استهجانها  لتصريح الناشطة النسوية ليندا صرصور (لا يمكن للمرء أن يكون صهيونيا و نسويا في ذات الوقت)

(كيف يمكن للمثليين أن يبرروا رفع علمهم هنا وهناك، مع الجانب الفلسطيني، رغم جرائم الاغتصاب والهوموفوبيا  لدى حماس) الكتاب صفحة ٩٦

وتنهي المؤلفة عملها بقصيدة للشاعر يهودا أميشاي، لترسل عبره رسالة مفادها: أن الشعر والإحساس واحد، مع أنه لا فرق بين محمود درويش و يهودا اميشاي سوى شيئ بسيط جدا، فدرويش عاش متنقلا منفيا، يحن إلى بلدته التي التي اغتصبتها    إسرائيل،  أما أميشاي فهو شاعر ألماني ، توفي في القدس، بعدما شارك في احتلالها و سرقتها من اصحابها، هو فرق بسيط جدا، لا يستدعي أن نذكره أصلا.

وقبل أن أنهي هذا الاستعراض/ أود فقط أن أذكر أن الكاتبة أيضا ضد حق العودة، وضد تسمية ما يحدث الآن في غزة مجزرة،  وضد تطبيق القوانين الدولية التي صدرت سابقا فيما يخص المستوطنات ، لكنها مع حل للقضية الفلسطينية، ومع فكرة الدولتين (لكن لاحقا)

المهم، هذا هي أفكار واحدة من أهم الأصوات الإنسانية والسلمية في الجانب المؤيد لإسرائيل،  ولكم أن تتخيلوا كيف يمكن أن تكون الأصوات الراديكالية العنيفة.

زر الذهاب إلى الأعلى