حماة تاريخ لم ينتهِ، ودروس لم تُستوعَب!
العربي القديم – نوار الماغوط
“انتهت العطلة في الأول من شباط فبراير عام 1982. في عصر ذلك اليوم اتفقنا أنا، ورفيق لي للذهاب إلى دمشق؛ لنقضي فيها بضعة أيام”.
استقلينا باص الهوب هوب وقوفاً، والممتلىء بالركاب المسافرين، والمتجه إلى حمص، على أن نتوقف في مدينة حماة، ونبيت الليل في السلمية، ونتابع في الصباح السفر الى دمشق…
ولأن الباص تأخر في الطريق، وصل إلى ساحة العاصي، وسط حماة الساعة الحادية عشرة ليلاً. كان الجو شديد البرودة، والشوارع خالية من السيارات والبشر، فقررنا متابعة الطريق، نحو حمص، ومن هناك نستقل واسطة نقل توصلنا إلى سلمية.
وصلنا كراجات حمص، لا سيارات، ولا باصات متجهة نحو مدينة السلمية، فقررنا السير، باتجاه شرق المدينة، نحو طريق حمص سلمية، ونؤشر بأيدينا للسيارات والمركبات العابرة باتجاه سلمية.
بعد مسير ساعة أو أكثر، وصلنا إلى أول طريق حمص السلمية، بالقرب من مفرق سنيدة. مرّت مركبة محملة بالإسمنت (جبّالة)، تسير بوتيرة بطيئة جداً… وكانت متجهه باتجاه سلمية. نمنا أنا ونبيل، عند بيت جدي أبو محمد، وعند الفجر استيقظنا، وسافرنا إلى حمص.
كان كراج حمص مليئاً بالمسافرين، والباعة، والباصات الكبيرة والصغيرة، ولم نتمكن من الحصول على مقعدين للسفر، إلا بحلول الظلام… وكان الثلج قد بدأ يتساقط. لم تمر ساعة على انطلاقنا… سمعنا أصوات ارتجاج، والباص بدأ يترنح…. وجميعنا نهتز، نمسك بالمقابض التي أمامنا… لم تمضِ ثوانٍ معدودة، حتى استلقى الباص على جانبه… في المنخفض بين طريقي الذهاب والإياب. دعانا السائق للتكافل جميعاً؛ لرفع جانب الباص وإعادته؛ ليستقيم، ويأخذ وضعه الطبيعي؛ ليتمكن السائق من قيادته خارج الحفرة.
عدد من الشباب تخلى عن هذه المهمة، وغابوا في الثلج، ولم نعد نراهم… باقي الركاب، وأنا ورفيقي منهم، وبعد عدة محاولة شاقة ومرهقة، تمكنا من إعادته إلى وضعه الصحيح، وبقى على السائق قيادة مركبته، باتجاه حافة الطريق… دعانا لأخذ أماكننا في الباص، وأقلع بعدها بسرعة معشقاً ناقل السرعة على الغيار الأول، ضاغطاً على دوّاسة المازوت الى آخر مدى.
بعد ثوانٍ من زمجرة المحرك، ودوران الدواليب في مكانها.. اختل توازن الباص، وانقلب رأساً على عقب، وأكملت الدواليب دورانها في الأعلى. خرج الركاب من الباص، يبحث كل واحد منهم عن وسيلة يستقلها؛ لمتابعة السفر إلى دمشق، أو العودة إلى حمص، ومعظمهم طلاب وقرويون وعساكر. بالمصادفة مرت سيارة يقودها سائق، وبجانبه راكب… طلبت منه أن يقلنا معه إلى دمشق، فرحب، وقال: “اطلعوا شباب… ونادوا على شخص آخر، فالسيارة تستوعب ثلاثة ركاب، وكلما زادت الحمولة كان ذلك أفضل!”.
وصلنا إلى بيت خال رفيقي، ونمنا فور وصولنا… وفي الصباح تناولنا من معلبات المرتديلا، من النوع الذي يحمّص بالمقلاة؛ ولأن الجو كان شديد البرودة، وثيابنا كانت خفيفة لا تمنع البرد من الوصول لأجسامنا، بقينا بالمنزل ولم نغادر.
عند الظهيرة جعنا، وبحثنا عن طعام في المنزل؛ لأن صاحب المنزل كان قد غادر إلى قطعته العسكرية بالجيش، فلم نجد في المطبخ، سوى أدوات الطعام، صحون معدنية، وأباريق، وشوك، وملاعق. فتحنا إحدى الغرف، وكان المنزل من نوع البيوت العربية، غرف موزعة على محيط فسحة سماوية، فوجدنا الغرفة معبأة بعلب المرتديلا، والطون، والسردين، وغرفة ثانية مليئة بصناديق الفواكه من برتقال، تفاح، موز، وأيضاً صناديق الحليب، وربطات الخبز. بقينا ثلاثة أيام نأكل من تلك المواد.
سألت: ماذا يعمل خالك؟
قال: مساعد أول بالجيش، مسؤول الإطعام!
عدنا من دمشق أيضاً بباص الهوب هوب، ونمنا ليلة في حمص، وفي الصباح ذهبنا إلى الكراج. لم تكن هناك باصات متجهة، نحو مدينة حلب؛ لأسباب مجهولة لم يفصح عنها أحد، وكان البديل الذهاب عن طريق السلمية أثريا – الطبقة.
ركبنا الباص، وعند وصولنا إلى وسط سلمية عند الساحة العامة، توقف الباص، ودخل إليه عدة أشخاص مسلحين، يحملون مسدسات، ورشاشات كلاشنكوف موجهة، نحو الركاب، وطلبوا منا إبراز الهويات، وسط صراخ وسباب المسلحين، واستغراب جميع الركاب. تابع الباص المسير باتجاه طريق الرقة.
في المساء اجتمعنا أنا، وأصدقاء لي في بيتنا: أحمد من حماة، وعمر من حلب، وثائر من دير الزور، واحتفلنا واستمعنا للموسيقى بصوت عالٍ. سمعنا صوت طرقات من الخارج، وكأن أحداً يريد خلع الباب! هجم علينا ثلاثة أفراد، هم زملاء لنا في الصف: واحد من القرداحة، وآخر من الغاب، والثالث من ريف جبلة، وهم يصيحون: “عم تحتفلوا يا عرصات، عم تحتفلوا بانقلاب الأخوان… والسيطرة على حماة؟!”.
لم نفهم عمّا يتحدثون. كان صديقي أحمد هو من فتح لهم الباب، وانهالوا عليه بالضرب، ورموه بعيداً… وقتها لم أعرف ماذا قلت، ولكني عندما رأيت الدماء تغطي وجه أحمد صرخت، وتوجهت نحو المطبخ، وأحضرت ما طالته يدي… سكين طبخ، وحفّارة كوسا، وسيخ، وتوجهنا نحو المهاجمين متوعدين: “والله لندبحكم… يا كلاب” فلاذوا بالفرار.
هؤلاء الثلاثة دخلوا الكلية الحربية: واحد أصبح ضابطاً في الشرطة العسكرية، والثاني ضابطاً في الجيش بالتوجيه المعنوي، والثالث بالأمن السياسي.
بعدها بوقت قصير، عرفنا أنه كان هناك محاولة انقلاب من الأخوان المسلمين، على نظام الحكم في حماة، حيث حاصرت قوات النظام حماة، وقامت باقتحام الأحياء، وقتلت الرجال، والأطفال، والمسنين المدنيين أمام أبواب بيوتهم.
وكما نقل شهود العيان: “بدأت قوات النظام، بعد ذلك بحملة اعتقالات عشوائية، وألقت القبض على نحو 15 ألف شاب، ونقلتهم إلى سجن تدمر السيّئ الصيت، ولم ينجُ إلا الذين تمكنوا من الهرب، خارج المدينة التي قام النظام بتطويقها، وقصفها بالمدفعية، ومن ثم اجتياحها عسكرياً، وارتكاب مجزرة مروعة، سقط خلالها عشرات الآلاف من المدنيين”.
قارنت بين انقلاب الباص، وعدم قدرته على الاستمرار، وبين انقلاب أهل حماة، وعدم قدرتهم على الاستمرار في ثورتهم بسبب إبادتهم.
عندما سألوا حافظ الأسد: ماذا حدث في حماة؟ أجابهم: ما حدث في حماة حدث، وانتهى الأمر. وقال لزواره: إن ما حدث في حماة سيكون درساً، سيدوم أثره لمئتي عام.
ولكن ما لم يقله حافظ الأسد للصحفي: إن ما حدث في حماة حدث ولم ينتهِ، ولم ينتظر الشعب السوري مئتي عام، أما إذا استطعنا أن نشاهد هذا الدرس أكثر من مرة، فنحن نستحق أن يحكمنا الأغبياء.
_____________________________________________
من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024