الرأي العام

نوافذ الإثنين: اليسار المخابراتي واليمين الإقصائي

بقلم: ميخائيل سعد

في يوم خريفي حمصي من عام ١٩٨٨ اقتحم مكتبتي ثلاثة شباب مدججين بالسلاح وكأنهم يقتحمون ”وكرا للطليعة المقاتلة“، كما كانوا يفعلون في سنوات الجمر، سائلين: أين ميخائيل سعد؟

نهضت من وراء مكتبي وقلت: أنا هو.

المشهد الأول:

قال أحدهم: المعلم يريد أن يراك الآن، تعال معنا. قبض الآخر على ذراعيّ ووضع اليدين خلف ظهري ثم قيدهما ”بالكلبجة“ المعدنية، وخرجنا باتجاه الشارع. كان أبي موجودا، وكاد يُغمى عليه، فطلبت من عنصر الأمن أن يُخرج مفاتيح المكتبة من جيبي ويعطيهم لوالدي وأنا أقول له: لا تخف يا أبي، سأعود اليوم، ولكن ذلك اليوم كان بعد سبعة أشهر.

أثناء ذهاب سيارة الأمن التي تقلنا إلى فرع الأمن مررنا من أمام البناية التي أسكن فيها، فقال أحد العناصر، وكانوا قد نادوه باسم إلياس: هل تملك شقة في هذه البناية ”ولاه“؟

قلت: نعم، بيتي هنا.

قال: من أين لك المال، هل قبضتَ من إسرائيل؟

لم أردّ عليه، فقد كنت أعرف هدفه من هذا الكلام، كنت قد سمعته في مناسبات متعددة، إنه يريد أن يبرهن على ولائه المشكوك فيه، لأنه مسيحي، وإنه على استعداد لاتهام كل العالم، وخاصة أبناء طائفته، بالعمالة لإسرائيل أو غيرها، مقابل كسب ثقة رؤسائه به.

المشهد الثاني:

عندما وصلنا إلى فرع المخابرات العسكرية في حمص، لم يستقبلني ”المعلم“، كما وعدوني!، وإنما مساعد قام بتفتيش جيوبي، فوجد دفتر هواتف، وخمسة آلاف فرنك فرنسي، كنت قد استدنتهم من صديق قادم من فرنسا لتمضية إجازته في حمص، كي أطبع بهم كتابا في بيروت. لم يسألني أحد أي سؤال، قال المساعد، بعد أن وضع ما وجده في جيوبي في مغلف كبير: خذوه إلى دمشق.

أثناء السفر إلى دمشق، كنت في غاية القلق لسببين؛ الأول العثور على نقود أجنبية في جيبي، ما قد يمهد لاتهامي بتلقي أموال من جهات أجنبية معادية للنظام التقدمي، وقد يصل الاتهام، كما قال عنصر الأمن المسيحي، إلى اتهامي بالتعامل مع إسرائيل، يعني الخيانة العظمى. أما السبب الآخر لقلقي فهو وجود أسماء وأرقام هواتف لمعارضين سوريين متخفين أو خارج سورية في دفتر هواتفي، ما يعني استمرار تعذيبي حتى الحصول على المعلومات التي أعرفها عن هؤلاء الأصدقاء.

المشهد الثالث:

في السيارة الأمنية المتجهة إلى دمشق، كنا أربعة رجال، ثلاثة عناصر أمن شباب، ربما دون الثلاثين من العمر، وأنا المعتقل لأسباب لا يعرفونها، فقد كان الأمر الصادر من دمشق، كما استنتجتُ: احضروا ميخائيل سعد موجودا إلى فرع فلسطين.

كان الشباب مرحين، يغنون ويتمازحون، وأخيرا قرروا الاستماع إلى الأغاني الثورية ”للشيخ إمام“، وأغلب كلمات تلك الأغاني من تأليف ”أحمد فؤاد نجم“، وقد كان هذا الثاني موضة في أوساط الشباب والصبايا، وخاصة في أوساط اليسار السياسي، وكان يُعد جاهلا سياسيا، من لا يسمع للشيخ إمام ولا يحفظ قصائد أحمد فؤاد نجم، وكان التباهي بينهم حول مَن يملك أكبر مجموعة من ”الكاسيتات“ لهما.

كان المشهد يثير السخرية والحزن في الوقت نفسه، فهؤلاء الشباب، كانوا جزءا من الوسط اليساري السوري، ليس بالضرورة تنظيميا، وإنما ثقافيا واجتماعيا، وربما كانوا مجرد مجندين يقضون خدمتهم الإلزامية في المخابرات، فأصبحوا جزءا من آلة القمع الأسدية دون أن يدروا، لذلك لم يكونوا قادرين على رؤية المفارقة بين ثقافتهم ”اليسراوية“ وممارساتهم المخابراتية القامعة للناس، وهكذا أصبحت السلطة هي اليسار وكل من يعاديها هو عدو التقدم ويجب القضاء عليه، لذلك لم يلاحظوا القمع الذي تمارسه السلطة الأسدية، بواسطتهم، على مجمل السوريين.

المشهد الرابع:

منذ بداية الثورة السورية العظيمة، كنت أحد السوريين المسيحيين القلائل الذي وقفوا دون تردد مع خيار الشعب السوري بالثورة على هذا النظام القاتل، لذلك كان يتم الترحيب بي بحماسة في أوساط السوريين المؤيدين للثورة، وغالبيتهم من المسلمين السنة. ومن الطرائف التي حصلت معي في إسطنبول، أثناء شهر رمضان الكريم أن وُجهت لي 35 دعوة للإفطار، رغم أن شهر الصيام كان 29 يوما فقط. وكنت سعيدا بهذا التكريم والترحيب بي من قبل السوريين السنة، وله مدلولات اجتماعية وسياسية ووطنية كبيرة. ولكن:

عندما كانت تحدث نقاشات حول مستقبل النظام في سورية، بعد ترحيل آل الأسد، كان يصدمني، في أغلب الأحيان، أنه يتم النظر لي كمواطن درجة ثانية، وهذا ليس فقط من قبل السوريين المتدينين، وأقصد هنا، الكثير من طلاب جامعة ماردين، وإنما من قبل من يظنون أنفسهم من اليسار السوري. كان يُنظر لي كوردة تزين الطاولة، أو كدليل على محبة المسلمين للمسيحيين وتسامحهم معهم، ولكن ليس كمواطن له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات التي للمسلم. كان أغلبهم يمدحون دفاعي عن ثقافتي الإسلامية، وبعضهم كان يستغرب ذلك من مسيحي، على أساس أن للمسيحي السوري ثقافة أخرى، وبالتالي لم يفهم أغلبهم أن ثقافة كل السوريين هي ثقافة إسلامية، بحكم ثقافة الأكثرية العددية للبشر في سورية، رغم وجود بعض الممارسات الصغيرة المختلفة لأبناء الطوائف غير الإسلامية.

 أخيرا، أردت القول من خلال كتابة هذه المشاهد، أن أغلبنا يقول غير ما يمارس، وأننا منفصلون عن حاجات شعبنا، مهما كانت أيديولوجيتنا، حتى الآن.

لست متشائما، وسأحلم دائما بدولة سورية ديمقراطية لكل السوريين، خالية من الاستبداد.

ماردين ٢١-١٠-٢٠٢٣

زر الذهاب إلى الأعلى